الاثنين 23 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
قراءة في "تبادلُ الهزء بين رجل وماضية" لـ محمود ياسين الجزء الثاني- فايز البخاري
الساعة 12:05 (الرأي برس - أدب وثقافة)

 

*عذابات العزي: القصة بدأتْ برثاء حالته العاطفية وانتهت برثاء حالته الأدبية لفشله في إنتاج عمل روائي يستحق القراءة، وما بينهما كان رثاؤه لحالته الاجتماعية ووضعه المادي. كلمتا (رثاء) و (ذات) ومفردات العذاب والمرارة والمعاناة ترددتْ كثيراً في هذا العمل مثل قوله ص9: "رثاء للمصير الإنساني- رثاء حياة تتألَّم"، وفي ص36 "ذوات متعالية- ذات مطمئنة".. وفي ص33: "منذ غادرَ قريتَه باحثاً عن احترام وتقدير للذات" ، "يسترجع تفاصيل هوانه" وفي ص38: "رثاء الذات وعذابات الآخر" وهذه الذات المعذبة تريد أنْ ترتب لكل زملائه جحيماً. وقوله: "يتصرّف طوال حياته كخاسر ومُحتَقَر وكدُميَة لا قيمةَ لها" وهذه الجُملة بالذات تكررَتْ ثلاث مرَّات: مرّتان ص38 ومرَّة ص39.. وهنا يتجلّى رثاء الذات في أبهى صوره، وتنعكس تأثيراته في الرغبة الجامحة لدى العزي في الانتقام من الآخر حتى لو كان من زملائه والمعايشين له.

وهذه عُقدَة تراكمية نتيجة الخيبات المتوالية في حياة (العزي). ويستشهد على ذلك بـ(أحدب نوتردام) لفيكتورهوجو، وليته أضاف (سيرانو دي برجراك) بطل رواية الأديب الفرنسي "أدموند روستان" التي ترجمها المنفلوطي وأسماها (الشاعر) فهي كثيرة الشبه بحياة العزي ذي الخيبات العاطفية والعملية. - العزي المثقف شخصية عدوانية وشخصية تكره أي ناجحٍ مثل زميله الصحفي الذي يعمل مراسلاً لجهة أجنبية بالدولار، حيث نجح مادياً وعاطفياً، بل ولو كانت هذه النجاحات فقط عاطفية: "ملابسه تدوخ النساء.. اعتقد العزي أنّ حسن سائق محظوظ فكرهه حد المذلة) ص51. والمؤلم في حياة العزي إزاء خيباته العاطفية أنَّ معجباته - كما يظن – يصفنه بانفصام الشخصية وغرابة الأطوار.

- (مدينة عدوانية- أضرار فادحة بالمروءة- قيلة محترمة على حساب ذات محترمة)ص36.. هذه كلها جُمَل تشي بحالة المثقف الانتهازي والشخصية التي تشعر بالإخفاقات وعدم تحقيق ذاتها كما تحلم به، الأمر الذي جعلها تصف صنعاء مدينة الفن والجمال المعماري ومعشوقة الأدباء والفنانين على مَرِّ العصور بأنّها مدينة عدوانية. وهذا يعكس الشعور بالإحباط الذي يجعل كل شيء بناظري صاحبه عدوانياً ومقيتاً. وهذا ما يُجسِّدُهُ إيليا أبو ماضي بقولِه: والذي نفسُهُ بغيرِ جمالٍ ** لا يرى في الوجودِ شيئاً جميلا - حاجة (العزي) دفعته للارتماء بأحضان (الإخوان المسلمين) وتحمُّل عناء إيقاظهم له وقت صلاة الفجر واستنشاق الأوزون في الطريق الإسفلتي المُذِل بين الغرفة وجامع عمر. وهو هنا يعكس حالته المأساوية من خلال إطلاق إحساسه على الطريق الذي يصفه بـ(المُذِل). وبعد ذلك ارتمى في أحضان حزب البعث دونما قناعة بالتيارين اللذين تتمرَّد عليهما ذاته المبدعة، فقط من أجل غرفة فوق سطح مقر حزب البعث.

** لعنة الذات المتشظية بين الـ(الأنا) الأعلى والذات المطحونة بالواقع المرير وتوالي الخيبات ظلَّتْ حاضرة وبقوة في ثنايا القصة: ((فأدركَهُ الضجر وعاوده الشعور بالضياع، وقعَ مرةً أُخرى في لعنة فرح و"أنا العزي، أنا كاتب، أنا....))ص40.. "على المرءِ أنْ يكون شجاعاً ونزيهاً ليجد ذاته"ص41.. (إراقة ماء الوجه- العزي الطفيلي- المثقف الوجودي المأزوم- متسولون متكبرون- على المرء منافقة من يرزح تحت وطأة الكرامة المنكودة بوساوس الحظ العاثر)ص80.. (عبدالرحيم اشترى أرضية بخمسين مليون وراتبه عشرون ألف وقد احترمه الجميع وشعر بكينونته - أي ذاته- وقدرته على الفعل- لا ينبغي لمن كان مثقفاً الشعور بخيبة الأمل إزاء ما كان يكتبه ضد الفساد). وهذا تأكيد لمهيمنة النص التي ذهبنا إليها، وفي الوقت نفسه تعرية وجلد للذات التي بدأت تميل إلى تحقيق نفسها ولو بالطُّرق غير النزيهة كما يؤكد ذلك حديث العزي مع نفسه عن ابن مانع المُتسلِّط على القرية بطُرِق عنجهية، وعن زميله العسكري الذي اغتنى من طُرق غير مشروعة. - ص83: (لكل شيءٍ في وجدان العزي معنى ذو نزعة مأساوية، ضمن ورطة بؤس الإمعان) بوحٌ دون مواربة ولا لبسَ فيه.

- ص80: ((اشترى عبدالرحيم قاتاً كثيراً.. واغتبط وهو يقدم للعزي مائة ألف ريال، معلناً أنها هدية من صديق، ولو كان العزي قد مرَّ بتجربة كهذه قبل نزوله من صنعاء، أيام أزمة المثقف الوجودي ونرجسية الكرامة، لاعتبرها إهانة اختارها بنفسه. على أن المبلغ ثمن بخس مقابل الصمت. لطالما أرَّقته الكرامة عندما كان موهوباً تترصده أشكال المساندة ومبالغ الدعم المالية في صنعاء. نرجسية تتجلَّى في البحث عن تبريرات تقيه احتقار الذات)).. جلد الذات والبوح بالصراع الذي يحتدم داخله بين الذات المحترمة التي يجب أن تكون وبين الذات غير المحترمة التي أصبحها تحت وطأة الحرمان والظروف المحبطة. وهي لعمري أزمةٌ يعاني منها عددٌ من المثقفين الذين يرزحون تحت وطأة الحرمان. - ص83-84:((وكان العزي يتصبب عرقاً وقد أضمرَ استباحة كل شيء: النسوان والصحبة والسهر، ظلال الليل ونقود عبدالرحيم وأراضي الوقف... كان يؤكد لنفسه قراراً متحدياً خطيراً: "سأعيشها من الألف إلى الياء، سأعيشها وليذهب إلى الجحيم!"، وكأنه يقول لنفسه: "أيها الكذَّاب! دعني وشأني")).

أصدق تجليات البوح بتشظي الذات بين أن تكون محترمة أو تعيش مرموقة في المجتمع بالطرق غير المشروعة. - ص91: (يصبح على نفسية المبدع خلق مقاربات مؤلمة وكافية لهوية الشريد المتعالي أو الإنساني الذي يعاني بسبب شخصيته الفذة) ، (التشظيات- تشظيها- متشظية) ، (أظن وظيفة الفن واحدة أو هي أم اللعنات في حياة المبدع الملتبسة). إنه جلد المثقف لذاته. ورغم إسهابه في تناول مسرحية (ربة المأساة) لـ هنري جيمس وشرحها في صفحتين (93 و 94) دون الحاجة لذلك، إلَّا أنّ ذلك مما يشي بالرغبة الجامحة لدى (العزي) لتجاوز مأساة البحث عن الذات المتشظية التي لم يستطع تجميعها بعد لتكون شيئاً ذا قيمة في واقع لا يعترف إلَّا بالأقوىً. وكذلك عدم قدرته على أن يحبك من حبه لـ(أمرية) حتى فصلاً متكاملاً ومؤثرا، وبالمثل موضوع ابن مانع وسطوته ومحاولة العزي إيقافه عند حده وتأليب أهل القرية عليه. وكنا نتمنى لو غاص أكثر في تفاصيل يوميات القرية التي يُحسِن وصفها، فلو استمرَ في سرد حياة العزي الطفولية بعد عودته للقرية ضمن مذكراته القديمة وأسهبَ فيها لما كان بحاجة لأن يحشر أية مواضيع أخرى أو يُظهِر فلسفته الحياتية إزاء بعض الظواهر بطريقة ممجوجة لا تتفق وطريقة وسلاسة السرد الروائي. وهو يقول (ص110) على لسان (العزي) أنه لا ينفك يفكر في واقعية ماركيز السحرية وتحويل كل الذي تم سرده في القرية إلى سردية طويلة في رواية.

بمعنى أنَّ ما قام به في هذا العمل ليس رواية البتة. خاصة وهو يتحدث عن رواية كبيرة يكون بداخلها روايات! - العنوان الذي هو عتبة النص يُحيلُ مباشرةً أثناء قراءة القصة إلى مهيمنة النص التي تجعل المثقف الباحث عن ذاته يقع فريسة لواقعه المحبط من خلال العودة لأحضان الماضي هروباً من واقعٍ مرير. وإنْ حاولَ أنْ يبدو هازئاً بماضيه لكنه يظل دالَّاً على الحنين لمجتمع البساطة وإثبات الذات رغم افتقاره للكثير مما يطمح له أي مثقف. وبالتمعن في دلالات العنوان نجد أنَّ مفرداته كلها - مع ظرف المكان - تدخل في خانة الأسماء التي تدل على الثبوت، وقد خلا العنوان من أي فعل أو حرف، ما يؤكِّد ثبات حالة المثقف (العزي) المريرة وذاته المتشظية. - لم يستطع محمود ياسين الخروج من عباءة استطلاعاته الصحفية المكتوبة بطريقة قصصية، فجاءت البعض من صفحات هذه القصة متشابهاً مع ما كان أوردَه في كتابه السابق(مُدن لا يعرفها العابرون).. ومثلما كان يتكئ كثيراً على الاستشهاد بـ(جابريل جارسيا ماركيز) ومدرسته الأدبية (الواقعية السحرية) وذكر قريته (ماكوندو) ورواية (مائة عام من العزلة) والأسطورة الريفية (أبو كلبة) في كتابه السابق، ظل يُردِّدُ الأسماء ذاتها والمونولوج ذاته في (تبادل الهزء).

لكنه في كتابه/استطلاعاته كان أكثر توفيقاً منه في روايته/قصته. وهذا ما جعلنا كمتلقين نصطدم بواقع هذا العمل الهش الذي كنا نتوقع ما هو أفضل منه بكثير. ويمكن القول أنّ استطلاعه الصحفي المكتوب بلغة أدبية شيقة والمنشور في بداية كتابه(مُدُن لا يعرفها العابرون) عن مدينة إب وقريته (رَجاح) هو اللبنة الأساس لهذه القصة. إنّ محمود ياسين حين يتحدث عن إب وذكريات طفولة القرويين فيها - وهو واحد منهم - فإنه يبلغ ذروة الإبداع الروائي في السرد والوصف العذب. وفي الختام يتبادرُ للذهن سؤال: هل يمكن اعتبار العزي هو المعادل الموضوعي للكاتب نفسه؟ خاصة وهو

يتناص في تسمية شخصيته الرئيسية مع الزبيري في روايته(مأساة واق الواق) وبطلها (العزي محمود).. فكلاهما رمزَ لنفسه بالاسم ذاته (العزي) وحاولَ أنْ ينقلَ من خلاله مأساته. هذا السؤال هو مُرتَكز قراءة أُخرى لهذه القصة إنْ شاء الله.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً