الخميس 28 نوفمبر 2024 آخر تحديث: الخميس 21 نوفمبر 2024
صك غفران - أحمد الأسعدي
الساعة 11:09 (الرأي برس - أدب وثقافة)


كانت الواحدة بعد منتصف الليل ، عندما دلفت باب " البار " او الحانة ، كان الصخب في اوج حضوره، وكان الدخان يعبق بالمكان ؛ فبدت الكراسي ورؤوس السكاری ، كاطلال بلدي المغيب بين دخان الحروب ، كالعادة قصدت الزاوية ، مكاني المفضل ، ربما لاني شخص جبان ، افضل الانزواء ، حتی في وقت الشراب المستقطع من هذه الفوضی ، التي تعج بحياتي ، وصلت الزاوية ، وجدت امرأة بساقين عاريتين تجلس في مكاني ، "امرا سيئا" قلت في نفسي ، وهممت بالانصراف ، فخذاها كانا شديدي البياض ، وهذا ما جعلني اغير رأيي ، اقتربت ، كانت فتاة في منتصف عقدها الثاني ، كما يبدو ، من النادر ان تجد فتاة بمثل هذا السن في حانة بمفردها ، لابد ان يكون هناك صديق يرافقها ، فكرت بالانصراف مجددا ، ولكنها التقطت حقيبتها الصغيرة ، من علی المقعد المجاور ، كانت تلك اشارة انه ليس هناك احد معها ، او انها دعوة غير صريحة للجلوس الی جوارها ، وفعلا جلست ، تبادلنا الابتسامات ، كانت تشرب قنية ( MALIBU) ، من النوع المتوسط ، لحظت ان الكأس الی جوار القنينة لم يستخدم وقطع الثلج فيه بدات بالذوبان . طلبت -كالعادة- قنينة (GREY GOOSE) ، لا اعرف لماذا تعلقت بهذا النوع من الشراب ، ربما لان زجاجته معتمه ، لا احب الزجاجات الشفافة ، التي تخبرك علی الدوام انها علی وشك النفاذ ، احب الغموض في كل شيء ، تولد لدي مايشبه القناعة ، ان الشفافية في هذا الزمن ، صارت ضربا من السذاجة او الخداع المغلف بالنقاء الكاذب ، والوقح ، النادلة ، ذات النهدين النافرين ، و التي تعرفني جيدا ، تأتي كل يوم بقنينة الشراب ، وكأس ثلج ، وكأس فارغ ، تطوي ورقة بيضاء بشكل نصف دائري ، في الكأس الاخر ، وتترك وجهها المقعر نحوي ، كلما طلبت منها شرابا او امرا اخر ، سجلته علی تلك الورقة ، ابدا كل ليلة بورقة بيضاء ناصعة ، ولا اغادرها الا بصفوف كثيرة من الارقام ، التي تتناسل بشكل بكيتري .
 

تبادلت الابتسامة مع الفتاة الی جواري ، لوحت بالقارورة في يدها مرتين بوجهي ؛ عندما رأت اني اطيل التحديق فيها ، بدأت في الحديث معها بالانجليزية ، عرفت من لغتها انها ليست امريكية ، لقد كانت اسبانية ، تبادلنا الحديث ، سألتها بوقاحة لماذا هي بمفردها ، اجابتني بطريقة وكأنها غير مكترثه بالامر ، انها تحب ان تكود وحيدة ، قلت لها :
- عندما كنت في عمرك ، قبل عشر او احد عشر عام ، ربما لم اكن اطيق الجلوس او العيش بمفردي.
قالت بشكل صدمني :
- ولابد انك الان لا تطيق احدا !
لقد كانت محقة ، حياتي اثناء الشباب الصاخب ، انتهت والی الابد ، او بالاصح قادتني الی هذا النتيجة ، كم هي الفتيات التي عبثن بأيامي ؟ وكم هم الاصدقاء الذين مروا علی هذه الروح اليباب ؟ لا اعلم كيف خبا ذلك الوهج المشتعل ، والولع الجارف للعلاقات الاجتماعية ، والحياة الصاخبة ، كان امرا غريبا يحدث لي بعد كل مضاجعة ، او حفلة لقاء احضرها ، لقد كان يتولد لدي نزعة جارفة للكتابة ، بعد كل ذلك ، يشتعل داخلي هوس للتدوين ، كان ينحت في صدري نحتا ، ولكني لم البي طلبه يوما ، كنت اقمعه بشدة ، اتجاهله ، وكأنه امرا لا يعنيني ، الی ان صنع ما يشبه الفجوة داخلي ، فجوة صارت تلتهمني واتداعی فيها ، صار كل عمري يتسرب منها ، وكأنها تجازيني ، بذات الطريقة السادية التي واجهتها ايام قواي ، وها انا اليوم علی هذه الحال .
كانت اللحظات تمر ببطئ و لزوجة ، وعيناي تسافر في الافق الملبد بالدخان ، لا شيء اتبينه ، سوی فخذي هذه الفتاه الی جواري ، عندما همت بالانصراف كنت في اوج سكري ، كنت ثملا جدا ، قالت في وجهي جملة وحيدة قبل ان تنصرف :
- عندما تدلق الكثير من البنزين علی اللهب ليعاود الاشتعال ، قد ينطفئ ، "قليل" من الشراب كافيا لتوهج الروح سيدي !
لم اكد ارفع اجفاني ؛ لاتحقق من وجهها وما تقول ، حتی اختفت بسرعة ، كلماتها كانت تنخرني بعنف من الداخل ، مالذي جاء بهذا الفتاة الملعونة الی حياتي التعيسة ، كي تزيدها تعاسة ؟
نظرت الی القلم جوار الورقة علی الطاولة ، الذي تدون فيه النادلة تكلفة كل قنينة اطلبها ، كي تضل امام وجهي ،حدقت في ذلك القلم وكأني اراه لاول مره ، استعدت كل ذكری قديمة تربطني بالاقلام ، انا ضحية هذا القلم ، الذي نادني يوما ، لكني رغبت بوقاحة ، و ها هو يدون خطاياي و خيباتي ، هذا القلم ان اختارك ولم تستجب له ، قد يغدو خصما لا يعرف شرف الخصومة !
نظرت الی الساعة في معصمي ، ولاحظت تلك التجعدات التي بدأت بالظهور علی جلدي ، حان وقت تغريغ محفظتي والانصراف ، ليس بوهم الشعور بالسعادة ككل ليلة ، بل بوجع اثاره مرور تلك الفتاة ، وقفت بتثاقل ، مددت يدي التقط الورقة المكتظة بالارقام ،كي اسددها ، ولكني فجاة لم اجد عليها رقما ، لقد كانت بيضاء كما بدأت الليلة !
ما قامت به تلك الفتاة ، لم يكن مجرد دفع قيمة سكرة عابرة ، تلك الفتاة كانت فرصة جديدة للحياة ، شعرت انها منحتني صك غفران ، غسلت خطاياي ، واعادة ورقتي بيضاء ناصعة ، لم اشعر برغبة بتخييب املها ، ولهذا لم ارجع يدي فارغة ، التقطت القلم وانصرفت ، ابحث عن ورقة قديمة ! 
عازما علی تدوين كل شيء ، وما حدث الليلة هو المبتدأ .

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص