الثلاثاء 24 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
صك غفران - أحمد الأسعدي
الساعة 11:09 (الرأي برس - أدب وثقافة)


كانت الواحدة بعد منتصف الليل ، عندما دلفت باب " البار " او الحانة ، كان الصخب في اوج حضوره، وكان الدخان يعبق بالمكان ؛ فبدت الكراسي ورؤوس السكاری ، كاطلال بلدي المغيب بين دخان الحروب ، كالعادة قصدت الزاوية ، مكاني المفضل ، ربما لاني شخص جبان ، افضل الانزواء ، حتی في وقت الشراب المستقطع من هذه الفوضی ، التي تعج بحياتي ، وصلت الزاوية ، وجدت امرأة بساقين عاريتين تجلس في مكاني ، "امرا سيئا" قلت في نفسي ، وهممت بالانصراف ، فخذاها كانا شديدي البياض ، وهذا ما جعلني اغير رأيي ، اقتربت ، كانت فتاة في منتصف عقدها الثاني ، كما يبدو ، من النادر ان تجد فتاة بمثل هذا السن في حانة بمفردها ، لابد ان يكون هناك صديق يرافقها ، فكرت بالانصراف مجددا ، ولكنها التقطت حقيبتها الصغيرة ، من علی المقعد المجاور ، كانت تلك اشارة انه ليس هناك احد معها ، او انها دعوة غير صريحة للجلوس الی جوارها ، وفعلا جلست ، تبادلنا الابتسامات ، كانت تشرب قنية ( MALIBU) ، من النوع المتوسط ، لحظت ان الكأس الی جوار القنينة لم يستخدم وقطع الثلج فيه بدات بالذوبان . طلبت -كالعادة- قنينة (GREY GOOSE) ، لا اعرف لماذا تعلقت بهذا النوع من الشراب ، ربما لان زجاجته معتمه ، لا احب الزجاجات الشفافة ، التي تخبرك علی الدوام انها علی وشك النفاذ ، احب الغموض في كل شيء ، تولد لدي مايشبه القناعة ، ان الشفافية في هذا الزمن ، صارت ضربا من السذاجة او الخداع المغلف بالنقاء الكاذب ، والوقح ، النادلة ، ذات النهدين النافرين ، و التي تعرفني جيدا ، تأتي كل يوم بقنينة الشراب ، وكأس ثلج ، وكأس فارغ ، تطوي ورقة بيضاء بشكل نصف دائري ، في الكأس الاخر ، وتترك وجهها المقعر نحوي ، كلما طلبت منها شرابا او امرا اخر ، سجلته علی تلك الورقة ، ابدا كل ليلة بورقة بيضاء ناصعة ، ولا اغادرها الا بصفوف كثيرة من الارقام ، التي تتناسل بشكل بكيتري .
 

تبادلت الابتسامة مع الفتاة الی جواري ، لوحت بالقارورة في يدها مرتين بوجهي ؛ عندما رأت اني اطيل التحديق فيها ، بدأت في الحديث معها بالانجليزية ، عرفت من لغتها انها ليست امريكية ، لقد كانت اسبانية ، تبادلنا الحديث ، سألتها بوقاحة لماذا هي بمفردها ، اجابتني بطريقة وكأنها غير مكترثه بالامر ، انها تحب ان تكود وحيدة ، قلت لها :
- عندما كنت في عمرك ، قبل عشر او احد عشر عام ، ربما لم اكن اطيق الجلوس او العيش بمفردي.
قالت بشكل صدمني :
- ولابد انك الان لا تطيق احدا !
لقد كانت محقة ، حياتي اثناء الشباب الصاخب ، انتهت والی الابد ، او بالاصح قادتني الی هذا النتيجة ، كم هي الفتيات التي عبثن بأيامي ؟ وكم هم الاصدقاء الذين مروا علی هذه الروح اليباب ؟ لا اعلم كيف خبا ذلك الوهج المشتعل ، والولع الجارف للعلاقات الاجتماعية ، والحياة الصاخبة ، كان امرا غريبا يحدث لي بعد كل مضاجعة ، او حفلة لقاء احضرها ، لقد كان يتولد لدي نزعة جارفة للكتابة ، بعد كل ذلك ، يشتعل داخلي هوس للتدوين ، كان ينحت في صدري نحتا ، ولكني لم البي طلبه يوما ، كنت اقمعه بشدة ، اتجاهله ، وكأنه امرا لا يعنيني ، الی ان صنع ما يشبه الفجوة داخلي ، فجوة صارت تلتهمني واتداعی فيها ، صار كل عمري يتسرب منها ، وكأنها تجازيني ، بذات الطريقة السادية التي واجهتها ايام قواي ، وها انا اليوم علی هذه الحال .
كانت اللحظات تمر ببطئ و لزوجة ، وعيناي تسافر في الافق الملبد بالدخان ، لا شيء اتبينه ، سوی فخذي هذه الفتاه الی جواري ، عندما همت بالانصراف كنت في اوج سكري ، كنت ثملا جدا ، قالت في وجهي جملة وحيدة قبل ان تنصرف :
- عندما تدلق الكثير من البنزين علی اللهب ليعاود الاشتعال ، قد ينطفئ ، "قليل" من الشراب كافيا لتوهج الروح سيدي !
لم اكد ارفع اجفاني ؛ لاتحقق من وجهها وما تقول ، حتی اختفت بسرعة ، كلماتها كانت تنخرني بعنف من الداخل ، مالذي جاء بهذا الفتاة الملعونة الی حياتي التعيسة ، كي تزيدها تعاسة ؟
نظرت الی القلم جوار الورقة علی الطاولة ، الذي تدون فيه النادلة تكلفة كل قنينة اطلبها ، كي تضل امام وجهي ،حدقت في ذلك القلم وكأني اراه لاول مره ، استعدت كل ذكری قديمة تربطني بالاقلام ، انا ضحية هذا القلم ، الذي نادني يوما ، لكني رغبت بوقاحة ، و ها هو يدون خطاياي و خيباتي ، هذا القلم ان اختارك ولم تستجب له ، قد يغدو خصما لا يعرف شرف الخصومة !
نظرت الی الساعة في معصمي ، ولاحظت تلك التجعدات التي بدأت بالظهور علی جلدي ، حان وقت تغريغ محفظتي والانصراف ، ليس بوهم الشعور بالسعادة ككل ليلة ، بل بوجع اثاره مرور تلك الفتاة ، وقفت بتثاقل ، مددت يدي التقط الورقة المكتظة بالارقام ،كي اسددها ، ولكني فجاة لم اجد عليها رقما ، لقد كانت بيضاء كما بدأت الليلة !
ما قامت به تلك الفتاة ، لم يكن مجرد دفع قيمة سكرة عابرة ، تلك الفتاة كانت فرصة جديدة للحياة ، شعرت انها منحتني صك غفران ، غسلت خطاياي ، واعادة ورقتي بيضاء ناصعة ، لم اشعر برغبة بتخييب املها ، ولهذا لم ارجع يدي فارغة ، التقطت القلم وانصرفت ، ابحث عن ورقة قديمة ! 
عازما علی تدوين كل شيء ، وما حدث الليلة هو المبتدأ .

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً