الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
شعرية الذات..وخطاب الحقيقة.. قراءة في ديوان انشطارات..للشاعر سليم المسجد - علي أحمد عبده قاسم
الساعة 13:27 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 

 

لا يخفى على أحد أن الشاعر المتمكن هو الذي يمتلك أدواته، ويستطيع أن يرسم نصاً مترابطاً متكاملاً خالياً من الضعف ومن جوانب الشعرية التي قد تضعفه بوصف الإبداع بناء متكامل.. وبالتأمل في نصوص سليم المسجد فإن المتلقي يلمس الاقتدار، والتمكن الشعري الناضج، ففي ناحية الصورة جاء النص بصورة بديعية مدهشة ومبتكر.. خاصة الصورة التجريدية التي تختزل الواقع وتدهش القارئ لتخلق عالم النص وترسم واقع الإنسان بأسلوب صادم..
 

ففي نص "ما تمليه السماء(٨)" يرسم الشاعر صور الشعر بمجازات مختلفة أخاذة وملفتة، حيث قال:

"يقولون:إن الشعر وادي المجانين..
      مثل هذي سكارى،
      ومثل قتل الفراغ..
ويقولون:إن الرؤى هلوسة..
        مثل توابل فيلسوف..
        واحتمالات- سوف- تكون أو لا
      تكون
ولي..."

 

الشعر" وادي المجانين" يشير للعبقرية من ناحية، وللإعجاز من ناحية أخرى، بوصف الشعر ابتكار، والشعر خلْق وإبداع، والشعر خيالات وتحليق بلا حدود، ولذلك النص يحاول أن يرسم مفهوماً للشعر والذي لم يتمكن أحد للآن أن يأتي بالمفهوم الجامع والمانع للشعر "مثل وادي المجانين , مثل قتل الفراغ , توابل فيلسوف" هذه علاقة محاورة ما بين النص والمبدع وهي علاقة ذوبان، وعلاقة حيرة واستيطان، وهي محاولة للتعانق مع النص القرآني: "والشعراء يتبعهم الغاوون .ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون .

وأنهم يقولون مالا يفعلون" وتتضح تلك المحاورة من خلال خطاب الذات:
"ولي الشجو والشدو..
ولي الماء والطين..
ولي الصوت والظل..
ولي الخيل والصولجان..
ولي الومض والضوء..
ولي الغيم..وجنون القصيدة..".
والنص يحاول أن يفصل الشعر عن الذات، على الرغم أن الذات هي الشعر، والشعر هو الذات وهو الحقيقة، وكأن النص يقول أنا المالك والمتصرف بكل ما يختلج النص الشعري من خيالات وجنون، لكني ما زلت في الواقع أغنِّي فأنا المغني "ولي الشدو والشجو" وأظل أنا الإنسان مرتبط بالحقيقة وبالواقع" ولي الماء والطين" وأنا الفارس وصاحب القرار والعظمة في تلك الخيالات المبهرة..

 

لذلك الشاعر سليم المسجد يتقمص دور الفيلسوف ويحاول أن يتحاور مع الخير والشر، ويحاول أن يكتشف الحقيقة ويخلق وجوداً وكينونة من الانشطارات والتشظي:

 

هَوَسٌ يَطُوفُ بِشَكِّ سَحَابةْ/
وَالرِّيْحُ
خَرْقَاء
عَلَى الرَّمْلِ...
هَلْ قلْت:خَرْقَاء/
أَمْ فِي نَزْعَةِ الرَّمْلِ..
سَكْرَى.

أَيُّ انْشِطارات تَعْبَثُ بِالمَدَى/
وَالآفَاقُ
ُجَوعَى
فَلْتَعْجنوا الغِيْمَ خُبْزا..
هَلْ قلْت:غِيْما/
أَمْ دُخَاناً،يلْتَوِي
فِي المَكَان..

وَبِي جيْشٌ،يحْتَشدُ،بِاللامَكَان/
وَلِي طِيْنٌ
وَمَاءُ..
وَلْتحْفروا القَبْرَ عُمْقا..
هَلْ قلْت:قَبْرا../
أَمْ بسْمَلات الابْتداء."

 

في النص محاورة عميقة ما بين الخير والشر والتحول 
سحابة              ريح خرقاء              رمل = عقم وجفاف وجوع
عبث بالآفاق                غيم              خبز = خير وعطاء وخصوبة
قبر            عمق                بسملات ابتداء

 

من ذلك الانشطارات والتشظي هي التحول من الشر الى الخير، وقد يتحول الشر خيراً، والريح تلوها خير وخصوبة، والموت حياة، فمن العقم يأتي الربيع الخصيب، ومن نهاية الانسان في عمق القبر هي حيوات وبدايات خير..
فالنص يعكس أن الحياة غير مستقرة وثابته في كل الأحوال والتحولات، ويتولد من الشر خيراً ومن النهايات بدايات..
فالشاعر يتقمص دور الفيلسوف ودور حامل الفكر..ليخلق النور ففي نص "لا عهد للكلاب" يلبس النص دور المرشد وحامل الفكر والمتمرد الذي يسعى لخير الانسان ولصحوته من سبات التيه:

 

((تيقظوا من نومكمْ
تنبهوا من تيهكمْ
لتخرجوا منَ الكهوف
لاوقت للرقاد..
فلستمُ القطيعً
تحْرسهُ الكلاب..
أم طعم للكلاب..))

 

من الملاحظ أن أسلوب الخطاب جاء بالأمر" تيقظوا , تنبهوا , لتخرجوا" للنصح والتحريض ويمزج الأسلوب بالخبر "لا وقت , لستم القطيع" كان الخطاب مباشر في البدايات ورمزي في النهايات "لا وقت للرقاد , القطيع , الكلاب" ليظهر انه صاحب رؤية خير ويود أن النص يبين أن الخير كبير ومتسع للجميع، وبذلك الديوان فيه خطاب لهموم الانسان وقضاياه،
لذلك خطاب الرجاء في الديوان كثيف ومسيطر وكأن النص بخطابة يرسم للمتلقي قراءة الغد وليس التحريض والتثوير يقصد به التخريب والتدمير، بل ليستبعد الركود ويتحقق التحول الى الخير والرضاء..

 

ففي نص "إضراب" يسيطر على النص عاطفة الحزن والوجع من صمت خانق، وخرس مفجع، وذبح للقدرات:

"سأعتنقُ الصمت.
وطنٌ
مذبوح..
وشعباً
أخرسهُ
الوهم."
وفي نص آخر:
"أيُّها الليل..
تنتعل صبوي المؤرق
وترحل ناعساً
صوب أجفان السكون..
وكلما حاولتُ هجرك
اقتربتُ...
فأنت ليلٌ
وهذا صوفيٌ:
في محاريبٍ تدلَّه
يخبئ نبوءة ذات ضوء."

 

من النص يلحظ المتلقي الصراع الذي ما بين الذات الحالمة بالنور والحقيقة، وما بين الظلام والليل فعلامات الليل " الصمت , الخرس , والوهم" وهذه مكابدة ومعاناة كبرى تسيطر على الذات وثمة قوة وهمية تخلق في الذات الحزن والمعاناة، وقوة روحية تمتلك الخير لم يحن وقتها.
 

فتلك القوة الروحية فيها مخزون من النور وفيها" السكون ,والنعاس ,والمحاريب" فالخطاب يحاول في نصوص الديوان بلوغ الحقيقة وتوزيع الخير والعدل للإنسان لتعود له الإنسانية . 
والخطاب في الديوان يمتلك قوة الايمان ويكفر بالأوهام بوصف الخطاب متدرج من اليأس الى الأمل، ومن الوهم الى الحقيقة، ومن التلاشي الى الكينونة، فالليل في النصوص علاقة للحجر، والحجر والحزن والقيود، والنور والايمان علامات للحقيقة والانطلاق والحرية:
"فاكفر بِهم،فاكفربهم وانْطلق
في شارع الإيمان...
قد سئمت. صمتك والجدار..
عفتُ. طعم الكلمات.
ثائراً فانطلقُْ....."
النص متحد ثائرٌ مؤمن بقوة روحية لها قدرات تشبه الاعجاز، فالخطاب في صراع مع الليل والصمت وحواجز الانطلاق، يحلم بحرية الذات التي من خلالها تتأتى حرية الانسان فثمة تغييب للذات وحضور كثيف للتحديات "فاكفر بهم، ثائراً انطلق" التمرد هذا لتحقق كينونة الذات في شوارع الصمت، ومن ثم تترسم في الواقع صورة للإتزان والاستقرار والسلوك القيمي والمحيط المادي والاجتماعي للذات.
والنص بخطابة يكرر الألم وصراع الليل والحواجز، لتحقق له عيداً وميلاداً وحلماً لأن ثمة رغبة بمعانقة الحياة والتي تمثل حقيقة لدى المبدع، فكان الليل والحواجز علامة كثيفة تمثل القيد وعدم الانسجام والتصالح ليحقق هوية وحقيقة وكرامة للإنسان المتعلق بالأمل والرجاءات:

"في أبجديات الرعود
أطوي
زمزمات الألم..
وأمطارٌ
بليلٍ والنهار
ترشقني
بوابلات الجحيم..
وأختفي
في ماوراء أسوار الأمل
فوف احمرار السحب..
خلف الغيوم
أنتظرُ...
هطلٌ ومزن.."
النص يرسم الأمل، ويقلل من صورة الليل، فثمة بدايات أمل في النص "أبجديات الرعود , تطوى , أمطار , انتظر هطل , مزن" النص يحاول صياغة الذات وتحقيق أحلامها، وأن يرسم حكاية خلاص وخير، فقد تبدد الشر وهذه النهاية التي يبحث عن خطاب النصوص.
"أيها المصير
وزخات الحبر الأبيض/
اللامتناهي
تندلق كموجات عطشى: 
بالنهايات السعيدة: 
إيماني عميق كإيماني"

مما سبق يلحظ القارئ أن النص يناضل ويجاهد للوصول للنهايات السعيدة، ويتحول المداد الأسود نوراً وحلماً وحقيقة فهذا الفيض من الدلالات تختزل غايات ومضامين خطاب الديوان الشعري بالوصول للإيمان.

عندما تقرأ نصوص الشاعر سليم المسجد تأخذك علامات ملفتة في النص الشعري فالقارئ سيكرر علية "الليل , الظلام , السراديب , المنافي , الحواجز , الصمت , الوجع , النور , المطر , الوهم , الايمان , " وهذه علامات لها دلالاتها وأبعادها ومعانيها في مضامين الخطاب الشعري.
وستجد بجانبها الصورة التجريدية ذات الابعاد التأويلية التي رسمت بعناية حيث يحاول أن يكرر رسالة عميقة في طيات المضمون المتعدد ومن خلال قراءة النصوص في ديوان الشاعر يلحظ القارئ أن هناك صراع في النصوص وخطاب يرفض الوهم ويؤمن بالحقيقة إلى  حد أن النص الشعري الخيالي هو حقيقة فالخطاب يرفض التكبل والتقيد ويؤمن بالحرية والانطلاق والنهايات السعيدة لتحقيق كينونة وهوية ومطامح وآمال وبذلك تموت سرابيه الوهم وتتحقق خلود الحقيقة.
جاءت النصوص جديدة حداثية مبتكرة فيها السرد والشخوص لتنتهي بخاتمة متكاملة تشبه القصة والسرد وفيها الرمز العميق ومعظم الصور والمجازات الشعرية، وغير ذلك مما لايتسع المقام  لحصره هنا.
بالحلم والإيمان بالذات وتلاشي الوهم وانفتاح آفاق الكون للكينونة منطلقة لحياة البياض والحق والجمال والسعادة والمطر الخصيب في ربيع حياة الهداية بهوية الاستقرار.

 

★كاتب وناقد يمني.
_______

 

*ديوان انشطارات"نصوص مفتوحة"، سليم المسجد، ط١رقمية، صدر عن دار شجن الحروف الأدبية الإلكترونية، المغرب، 2016.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً