الاثنين 23 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
رواية "حسناء إيمزورن"لمصطفى لغتيري أو حين تختزل الأنثى هموم منطقةبكاملها - سعدية بلكارح
الساعة 08:23 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

"حسناء إيمزورن"، رواية مغربية صادرة عن دار النايا بسوريا سنة 2014.. مكوَّنة من 93 صفحة,مُبَوَّبة بِـ 12 فصلاً..
 

وهي الرواية الثانية عشرة في رصيد الروائي المغربي مصطفى لغتيري..
سنحاول أن نكتنه مواطن الجمال في هذه الرواية بدايةً من الغلافِ الذي نستشفُّ من خلاله حذاقة انتدابِ صورة تختزل عمق الثيمة الرئيسية التي تؤثث الرواية.. والعنوانُ بوابةٌ تلفت انتباه الفارئ المغربي والعربي عموما إلى هذه المنطقة النائية الضاربة في عمق سلسلة جبال الريف..بجرأةٍ تربط المنطقة بالأنثى، تلك القابعة في الذاكرةِ خلف قناعٍ يحجبها عن الأنظار..

 

خلفية الغلاف امرأةٌ يكتسحها اللون الأحمر الذي تنزل قطرات منه على باقي جسمها..وهذا ترميز قوي إلى دراما تختفي بين طيات الكتاب. بتحضيرٍ نفسيٍّ ذكيٍّ..يُشْرِك المتلقي في التخمين وإعداد التهيؤات..
والعنوان مرة أخرى يضعنا أمام علامة استفهام كبيرة مفادُها: ما علاقة الحسناء بقطرات"الأحمر" المخضِّلة لأنوثتها..؟
وما السرُّ الذي تخفيه القرية الأطلسية "الأمازيغية" الممتدة إلى عمق امرأةٍ تجسِّدها..؟
ولعل ذلك مما يحفزنا للدخول مباشرةً لاهثين لنكتشف البُعد السيميائي الدلالي للنص..
وتفتيت تلك التساؤلات التي قفزت أمامنا.. ليباشر نظرَنا جمالٌ على امتداد الرؤية، يمسح جغرافية المنطقة الساحرة ببيئتها الطبيعية البِكر.. وجغرافية أنوثة صاخبة بوصفٍ دقيقٍ جَريءٍ، ينقلنا نقلا حقيقيا إلى ملامسة أنفاسها الساخنة..وتعرية إيديولوجية أخرى بثقافة خاصة يستبد فيها الذكَر..ويستأسد..خلف تلك الجبالِ الشامخة شموخ الإنسان الذي ولدتْه "أنثى" وعاش في كنفها إلى آخر عمره دون أن يلتفت إلى الاعتراف أنها هي" الأصل" في وجوده..وتكوينه..أُمّاً وزوجةً...

 

تلك النرجسية القاتلة التي تودي به.. وبها إلى حتفٍ تقريريّ بجهالةٍ مستوحاةٍ من موروث ثقافي جائرٍ...لا حقَّ فيه للأنثى أن تعبر عن رأيها أو ترفض أمراً يختلف وميولَها ولو على حساب حياتها...مما يدفع بأحد شخوص النص "أخ البطلة" أن يجعل لحياتها حدا بعُرفِ القبيلة دون أن يتعرض لعقاب القانون الوَضعي و الشرعي العام..الذي يُجَرِّم ويحَرِّم قتل الأبرياء..أو احتساب أي قيمة للمرأة كإنسان له حق الاختيار بالرفض أو الإيجاب..
الرواية تنسج فصولها بتقنية عالية الجودة في الحبك البلاغي، بأسلوبٍ يشد نَفَسَ القارئ من مدخل النص إلى آخر شهقةٍ منه..يغرينا فيه الروائي أ. مصطفى لغتيري بالإمتاع اللذيذ رغم درامية الأحداث، حيث يتنقل بنا من فقرة إلى أخرى دون أن نشعر بفجوةٍ أو تسريبٍ أو اجتثاث لفكرة على حساب أخرى أو زيادة في الوصف حد إرباك الانتباه أو نقصانٍ..
إنه مدرسةٌ بمثابة جامعة لمفاهيم السرد الروائي خاصة على مستوى المبنى والمعنى والرؤيا.. يربط الأحداث بعقلانيةٍ جد مقنعة..ولا يرمي بالكلام جزافا وإنما بثوابت ودلائل جلية..تترك للمتلقي انطباعا عميقا في نفسه وتشِمُ المقروء في الذاكرة والوجدان..أبدا..
فنص" حسناء إيمزورن" مَهْما قرأتُ وحلّلتُ فلن أحقق تلك النشوة المستفزة التي ترافق تفاصيله وذلك الصراع الطاغي المتمرد لقلْب الأوضاع مسايرةً مع العصر..وإبراز الجهد الجبار الذي قامت به البطلة الـ"حسناء" كي تسترجع حقها المغتصب في اختيار شريك حياتها وتقرير مصيرها..وتحتفظ بحبها وحبيبها الذي هو الآخر سلك مسلكه الطبيعي الظالم لمّا اختار التنحي عن وعده "مُكْرَهاً" حين اعترض طريقهما شخصٌ آخر متمكن ماديا واجتماعيا ليتنازل له عن حبيبته.. "الضحية" مرتين: الأولى حين سلَّمته نفسها والثانية حين سلَّمتْ روحها لتغسل العار الذي ألحقه بها..أُزْهِقَتْ روحها ببرودةٍ كأنها حشرة بلا قيمة ولا معنى..

 

ترادفتِ الأحداث بتراتبية متينة التماسك دون خلل أو إخلال..مما يجعلنا نتعرف على طبيعة وعاداتٍ منطقة من وطننا العزيز، هي منا وإلينا..لم نكن لنتعرف عليها دون زيارتها..ولا يتأتّى لنا هذا الإلمام بمجرياتها دون الاقتراب منها ومن أهاليها..مما يصعب تحقيقه على أرض الواقع نظرا لانغلاق المنطقة جغرافيا "بوعورة جبالها" ووديانها..موازاةً بانغلاق رؤى تستحوذ عليها "الذكورة" وحب السلطة والجاه القَبَلي..ربما تلك العلاقة الطبيعية بين الإنسان وبيئته,,تتحكم أيضا فيها عوامل أخرى كسيطرة أباطرة "عشبة الشيرا"(الحشيش)..التي تزيد من صلافة القلوب وعَماها...
وهذه حالة أخرى عرج عليها السارد المبدع ليضعنا أمام فُوَّهة حقيقية تهدد بالاندلاع في أي لحظة..تحرق الأخضر واليابس كما تشِبُّ في اقتصاد "المنطقة" المتورّط..وما يترتب عنه من حريق شاملٍ لفئة من شبابنا الضائع..

 

رواية حسناء إيمزورن أعتبرها ناقوسا قويا يبعثر الصمتَ المطبق على مساحاتٍ شاسعة من خارطة هذا الوطن الجميل..خارطةٍ ربما متجاوزَة عند الكثيرين ممن يغفلونها إما جهلاً أو تجاهلاً..
فإنْ كانت الذريعة الأولى فتلك مصيبةٌ وإن كانتِ الثانية فالمصيبة أعظمُ...يتحملها بالتوازي الإعلام الذي من مهامه كشف الغطاء عن مثل هذه المنسِيات..وذوي القرار المؤسساتي في المنطقة..
الرواية تمزج بين محورَين عميقتيْن، حسب رأيي المتواضع، الأول طرحٌ يخدم اقتصاد الوطن سياحيا بالتعريف بجغرافية منطقة جبلية هائلة الروعة، (مُهَمَّشةً) ولكزِ مسؤوليها في جماعتها القروية بالتعاون مع جهاتٍ أخرى كي ترقى المنطقة وطنيا وعالميا إلى توفير معالم الأمان للراحة والاستجمام..وإدرار الخير على المنطقة..كما يعرفنا على عادات مثيرة الدهشة لأهالي المنطقة وتقاليدهم في الأفراح والأتراح..

 

الثانية فضحُ مخبوءاتٍ:
أ_اجتماعية آثمة في حق المرأة التي يتجاوز الحكم عليها كل الأعراف القانونية والشرعية التي تنص على أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته..وإعطائه حق الدفاع عن نفسه..
ب_فاتكةٍ تفتك بالاقتصاد المزعوم بدعم أباطرة المخدرات الذين يستهترون بأرواح الأبرياء..من جهة ،والمال العام من جهة أخرى..
ج_كاشفةٍ تفضح تواطؤ مسؤولي المنطقة مع "التجار المهربين" بخرق القانون وتفشي ظاهرة الرشوة والمحسوبية..
لتنتهيَ الرواية بسلسلة من الأحداث الدرامية بتصوير سريالي يشد
الأنفاس ويربكها..لتظل مفتوحةً على تخييلاتٍ أخرى يساهم فيها القارئ بالتحليل والتتبع..حين ترك السارد مجال البحث عن الهاربِ المغتصبِ مفتوحاً..
فنيا وظف السارد الأستاذ لغتيري الجملة الاسمية التقريرية التي تعلن عن مباشرة الثيمات البنائية في أخذ المبادرة والقرارات الهامة,,علاوة على القرارات المصيرية للمجتمع القبَلي الأطلسي..بثقافته وأعرافه..ثم توظيف الجملة الفعلية التي تدل السيرورة والمواصلة الآنية والبعدية..التي هي امتداد للماضي بكل مؤثراته السسيولوجية والسيكولوجية ..والأنتروبولوجية..
سلك فيها فن التشويق الماتع واللهاث خلف الأحداث المرَكبة تركيبا متناصا بحبكة قاصٍّ خَبَرَ القصَّ وعوالمه بحِرفيةٍ وَسَمها بطابعه الخاص..
وبهذا تكون الرواية عند أ.مصطفى لغتيري معشوقتَه المدللة..التي تتربع على فكره ووجدانه..

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً