الاثنين 23 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
رواية تابوت صغير لوطن كبير - محمد الغربي عمران
الساعة 20:06 (الرأي برس - أدب وثقافة)


د.سيرين حسن من المبدعات في أكثر من جنس أدبي.. فهي تتناول بعض الأعمال بالنقد.. تكتب القصة ..الرواية .. الأقصوصة.. الشعر.
وبين يدينا إحدى إصداراتها الجديدة"في تابوت امرأة" رواية في 224 صفحة 2014..صنعاء المتفوق للطباعة والنشر.

 

هو العمل الروائي الأول .. بعد كتابات متنوعة في النقد والقصة والشعر . في عملها هذا تمازج العنف.. بالتشرد . والعاطفة بالبؤس. رواية يجد القارئ نفسه ضمن شخصياتها .. بالتعاطف..وتارة بالإحساس أننا عشنا تلك الأحداث..وأخرى أننا نعرف تلك الأجواء.
فيها شخصية الرجل أقرب إلى كائن بروح شيطان.. لا يكتفي بإشباع غرائزه.. منقاد لشهواته.. بعد أن غاب الجانب السامي فيها .. فقط تلك الرغبات هي من تقوده.. عدة شخصيات ذكورية أزكمت الرواية لتشعر القارئ بأنه في غابة مليئة بحيوانات مفترسة: الأب , ذلك المسخ روحا وعملا.. حين يتحول فعله الشائن إلى محور ارتكاز كل أحداث وتداعيات الرواية على جريمة برائحة الخمر .. لتنسج الكاتبة تفاصيل رواياتها بألوان الغدر والخيانة .. تصاعديا في أحداث خيالية ترفع القارئ إلى مستوى واقع يتمنطق صفحة بعد أخرى ..ويتفاعل كما لو كانت الكاتبة تمتهن تقدير ومزج تلك المقادير الحكائية ..لتطبخها على نار أقل من هادئة.. في المقابل يغلي القارئ في مرجل حبه لمعرفة ماذا بعد.

 

وبفن ودراية تتماها وحشية الأب لتظهر وحشية سمير ابن مستخدمة الضحية .. وهكذا ما أن يختفي وحش حتى يظهر آخر. "تحدث نفسها :لماذا يحمل كل الرجال رائحة أبي؟"حتى من عاملوها برقي مثل: عبدالله, عمر.. جلال.. ثم جون.
أما النساء فقد مثلت أم سلطان المرأة التقليدية بطيبتها.. فاطمة بانحرافها وعلاقاتها التي وظفتها لعملها في الدعارة.

 

أما شخصية الرواية فهي: سارة ..أزهار.. روزا. حيوات متعددة وأسماء متعددة لضحية واحدة كان الأب صحب الفعل الفاضح الذي ارتكزت على فعلته بقية حوادث الرواية .. لتقدم الكاتبة رواية بحبكات ممتعة .
بدايةً أزهار تخدم في بيت أم سلطان.. تقنعها أن لها زوجاً تركها وغادر إلى المهجر.. ولذلك تخدم لتعيل نفسها وما تحمله بطنها.
دوما تخفي وجهها تحت لثام أمام كل غريب خوف انكشاف أمرها.. عانت حتى وضعت ما في بطنها وأسمته وليد.

 

تلك الأحداث تتصاعد بشكل سلس .. لكنها الأمور تتعقد بعد وصول سمير ابن أم سلطان من ماليزيا حيث يواصل تعليمه. وهنا يبدأ الصدام بين محاولة الشغالة أزهار بالممانعة وإصرار سمير على ممارسة الجنس.. يستغل خلو البيت من ساكنية لاغتصابها.
سلسلة من الأحداث المتنامية بشكل مشوق.. وفاضح للرجل الذي تدينه الرواية بأنه كائن شهواني لا يفرق بين شغالة وأميرة .. الأهم أن تكون امرأة.. سمير وقد عاد من مجتمع يفترض بأنه مشبع بقيم مكتسبة .. يعود كما لو كان حيواناً لا شيء غير إشباع غرائزه.
هنا تعود بنا الكاتبة لتميط اللثام عن ماضي أزهار.. حين تعود إلى ذلك اليوم الذي استدعت إدارة المدرسة والدها لتخبره بإن ابنته حامل.. وأنها تعرفت على شباب وإلا كيف تحمل.

 

وتسجن سارة .. أو أزهار في إحدى غرف منزلهم.. وبعد أيام تستطيع والدتها إطلاقها لتفر من تهديد والدها وإخوتها بقتلها.. وتعمل في بيت أم سلطان خادمة متسترة باسم جديد.
ذلك الأسلوب الممتع التي اتبعته الكاتبة في تقديم أحداث الرواية بين تقديم وتأخير. ما يضاعف لدى القارئ الرغبة لاكتشاف المزيد من الأحداث ومتابع حبكات الرواية الفنية التي أجادت سيرين إشراك القارئ في تخيل ما سيحدث.. وما تخبئه مخيلتها..وكذلك ردم تلك الفجوات الإبداعية التي استحدثتها الكاتبة بين جزء وآخر .. وبذلك نستطيع التوقع بالمزيد من تلك الأساليب على مدى صفحات الرواية .. ومحاولات الكاتبة بمشاركة القارئ ما تتخيله .

 

الرواية تعود بنا مرة أخرى إلى مشهد محاولة سمير اغتصابها .. ونجاحها في التخلص منه بعدة طعنات من سارة أو أزهار . والهروب بعيدا عن بيت أم سلطان.
ليبدأ طريق العذاب .. طريق اليسوع عليه السلام حين يدمى جسده ويسلب من كل ما يحب.. وتدخل السجن بتهمة ممارستها للدعارة.. بعد أن استعاد والدها ابنها وليد. أو مايشبه معاناة مريم العذراء .
رواية الآلام الممكنة في مجتمعات تحكمها السلالية وتتحكم بها الطبقية.. وعادات يعتقد الجميع بأنها من الدين وما أنزل الله بها من أمر.
الأمر الذي يفجر فينا عدة تساؤلات : هل نحن مجتمع نعي ديننا الحقيقي وسماحته؟ هل ما نعيشه له صله بدين محمد؟ أم نظن بأننا مسلمون ولا نمارس من الإسلام شيئاً. أم أننا لا دينيون وإلا كيف نستسيغ مثل تلك الممارسات؟ المرأة لا زالت في منزلة بين الحيوان والإنسان.. الحرية مفقودة.. المسؤولية عن النفس ملك الجميع والفرد مسلوب الحرية من الجميع.. الجميع أوصيا على الجميع.. وبذلك يفقد الجميع حريتهم ويسود التسلط والظلم في أوساط المجتمع كما صورته الرواية.
بلا شك أنه عمل فاضح لكل مستويات المجتمع.. أن يتحول الجميع إلى كيانات عنيفة وقبيحة روحيا.. من الأب إلى أفراد الأمن وموظفي السجون.. إلى الأفراد العاديين. ونظن أننا نعيش في مجتمع سوي.. وهذا وهم ..وأن تلك المجتمعات الأخرى تعيش التفسخ في شرق أسيا أو دول الغرب.. وأوهام كثيرة نجترها سنوات أعمارنا جيلاً بعد جيل.

 

تعود بنا الكاتبة حين تفر أزهار من السجن بعد سنوات بمساعدة الدكتور عبدالله طبيب المستشفى الملحق بالسجن حيث استطاع تهريبها حتى عدن. يحاول الدكتور إنشاء علاقة عاطفية معها علاقة سوية لكنها تفر منه.
في الصفحات التالية تنتقل بنا الكاتبة إلى مستقبل الأحداث أو القادم منها..حيث تقدم لنا حكاية شاب عربي يسمع استغاثة بلغة عربية فيهب للنجدة.. يتعرف القارئ أن اسم المنقذ "صخر" عربي يدرس في بريطانيا .. وتلك المستغيثة اسمها "روزا" امرأة عربية مسيحية تعيش في بريطانيا . هنا تدفع الكاتبة بالقارئ للتفكير والاستنتاج من يكون صخر ومن تكون روزا وما علاقتهما بأحداث الصفحات الماضية.. ليسارع القارئ بالتهام الصفحات المتبقية بحثا عن أجوبة لما يدور .. تعود بنا الكاتبة إلى ماضي أيام الشخصيات لنكتشف أن روزا ماهي إلا سارة أو أزهار التي كانت شغالة في بيت أم سلطان واسمها .. وقد استطاعت الفرار من اليمن إلى أوربا .

 

إثنا عشر قسماً هي أقسام الرواية دون عناوين.. عدى عنوانين في بداية الرواية "تجميع خشب التابوت" ثم عنوان آخر في القسم الحادي عشر "اللمسات آخر على التابوت"
تعود الكاتبة بنا إلى بعد هروب أزهار من السجن ..لتتصل برقم كانت قد حصلت عليه من إحدى السجينات.. لتلتقي بفاطمة التي تدفعها للدعارة وفي أحد الأوكار تتعرف على عمر الذي يعاملها بإنسانية .. لتعمل معه كسكرتيره لسنوات.. ثم تهرب من حبه إلى بريطانيا. وهناك تعرفت على عدة شخصيات أبرزهم :جون.. جلال.. صخر.

 

تقدم الكاتبة نهاية مأسوية لروايتها .. صخر ذلك الشاب الذي هرع لنجدتها من بين أيدي عدد من المتحرشين أمسى حبيبها ..تقضي ليلية سعيدة معه "لمحت شقا طويلا يمتد من كليته اليمنى حتى منتصف ظهره .. شهقت..... وليد وصخر إخوة..وأنا ووليد إخوة..لا لا وليد إبني وصخر أخي"
أن تتعرف على صخر إنه إبنها وليد بعد أن قضت معه ليال عديدة.. هي لحظات مؤلمة وقاسية.. حين أزالت الغطاء من على جسده النائم.. لترى علامة لا تخطئها.. إبنها من أبيها الذي اغتصبها طفلة تحت تأثير الشراب.

 

وهكذا كان الأب وسمير شخصيتين أدمت الرواية ولم تشف شخصية عمر الذي كان موقفه نبيلا ..ولا الدكتور عبدالله.. ولا غيرهم من الأسماء ذلك التشوه الذي صنعه والدها ..ثم سمير ..
فهل أرادت الكاتبة قتل الأب في روايتها؟ نعم الرواية تعالج قضايا اجتماعية عديدة.. ومنها علاقات المحارم.. لكن أرى أن الأمر أبعد من ذلك، فالأب رمز للأبوة الثقافية.. للأبوة السياسية .. والاجتماعية والدينية.. وهنا تذكرني سيرين بقصة للمبدعة نجمة الأضرعي التي عالجت هيمنة الأبوة في أحد نصوصها القصصية بعنوان"" إلا أن سيرين حاكمت الصنمية وجرمتها في رواية تمثل تابوتاً صغيراً لمجتمع يحتضر إن ظل ينظر إلى الأبوة ويبجلها على حساب الطاقات الشابة .. فهل سيرين تدق ناقوس الخطر لأن يرفض كل منا تلك الأبوة الخانقة وأن نطلق طاقات الشباب أدبيا وسياسيا ودينيا.. وأن نعلن موت الأب على مستوى كل الأجيال.. أن نرفض التسلط والكبت والأنانية .. وأن نشيع تقاليد المعايشة والمساواة وعدم الإقصاء.

 

ما يسمى بالمرجعية .. شيخ القبيلة.. عالم.. زعيم.. الخ تلك الصنمية التي تعاني منها مجتمعاتنا الإنسانية وليس العربية فقط.. رواية تعالج قضية إنسانية بثوب عربي .. وبخصوصية يمنية.
هو العمل الروائي الأول لسيرين .. وقد قدمت رواية بفكرة إنسانية ناضجة.. أنا على يقين من أن أعمالها القادمة أكثر تجدداً .. وقد ولدت بهذه القوة .. أرى الغد لها .

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً