الثلاثاء 24 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
مُجَبِّرْ اقتصا..سي - فاروق مريش
الساعة 10:51 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 


من قمَّة ذاك الجبلُ المطل على المدينة كان يُسمع دوي مدفع الإفطار ، لكنه اليومَ لم يعد له صدى كون الأصوات المتداخلة أصبحت أكثر صخباً منه .
ومن هذه الأصوات صوتُ رجلٍ يشتهر باسم (المُجَبِّرْ ) شاحب الوجه تبدو عليه آثار الشيب من تجاعيده المتهالكة ومظهره البالي والمتزين بعلامات اضمحلال العقود على فقرات عموده الذي أوشك أن يكون قوساً .

 

وهاهو قرص الشمس يذوب كشمعة تقليدية الصنع ، بينما كان الأذان يعلو فوق السُّحب ، متسللاً عبيره نحو آذان المترقبين لموعد الإذن لاقتصاص شريط الموائد المتزاحمة بالترف .
أما المُجبِّر فيُخرج من سرواله الداخلي كيساً فيه بضعاً من التمر كان قد سرقها قبل قليل من كشك صغير على مدخل سوق الحبوب الواقع في بلاط مدينة الحُب وصانعة الصراع .
المُجَبِّر : لماذا نصوم ونتعب ، ونفطر من المسروق ؟
- أجابه صديقه ( سيَّان ) ذو الشعر الأثري ، الذي فقد نصف عقله ولم يدخل مرحلة الجنون بشكل رسمي قائلاً :
الحُب عذاب .. قطع قلوب الشباب 
" هو ذا بتشوف المتحاربين في الداخل هم أنفسهم المتحاورين في الخارج ، يتحاوروا وهم جاوعين ، وعندما يشبعوهم زلط يرجعوا للحرب ".
المُجَبًّر : والله ما فهمت قصدك !
بس كُل كُل ، تعبنا لواي وضبحنا مجنانة ، نفسي أرجع عاقل ويحترموني الناس سع زمان ، وأبسر نفسي بالمراية كل يوم .
- سيَّان : محد يرد طحين من مكة ..
من طرح روحه طرحوه ، ومن نزَّل قدره حصَّل من يدعسه .
أنت بتضحك على نفسك بالصيام ، كيف تصوم وأنت ما تصليش ، وإن صليت ما بش على المجنون صلاة .
المُجَبِّر : يا صاحبي شكلك ما عيجي العيد إلا وقد لبست بدلة الجنان .. ههههههه يضحك 
يصمت قليلاً ..
...
دموعه تنزل حين طأطأ رأسه وهو يتمتم بهدوء ، أول سنة يأذن مغرب وأنا مجنون ، الجنون راحة لكن ما بش سنبوسة .
يلتفت لصديقه بسرعة وهو يصرخ ( الحرب غيرت الخريطة يا فاطر ) .
- سيَّان : يا خي شم البول صرعني ، جي نسير باتجاه التحرير ، ما معانا هانا عرض السور !
يمشي خطوات ثم يبصق ، ويستمر في الحديث .. التحرير كان ميدان للتحرير ، واليوم أصبح رمزاً للتحمير ، كل شئ يجعل للعقل قيمة أصبح رخيص وممتهن .. لا تلوم المجنون كيف جنن ؟ لوم العاقل ليش عاده ما جنن للآن رغم هذا الوضع .
يلتفت لخلفه وقد ابتعد كثيراً ، والمُجَبِّر لا زال يجمع أغراضه وهو يقول " لحظة أدي الروتي والقوطي " .
في تلك اللحظة لم يكن في شارع الزبيري سوى أصوات أقدامهم الحافية ، وسيارات قليلة تسير بسرعة الطائرات .
المُجَبِّر : ما كنت تقول على العقلاء ؟
- قلت لك ماعد بش عقلاء ، اللي كان عاقل من صدق قد جنن .
وأنت ليش سموك هكذا ، أو كنت بتجبر عظام ؟
المُجَبِّرْ : العظم لا اكتسر يتجبر ، لكن من يجبر القلوب ؟ ، التمر حالي مثلك لكنكم الاثنين بتدوا لي المغص - ابتسامة مجنونة - .
تابعا السير إلى نهاية جسر الصداقة بالقرب من ثانوية عبد الناصر ، عندها مرت بجوارهما سيارة هيلوكس غمارة لها ريحة التقاليد الريفية ، توقفت أمامهما ولم ينتبها لها ، قال أحدهم كان يجلس بالكرسي المجاور للسائق بعد أن أنزل الزجاج : السلام عليكم يا حبايب ، اتفضلوا فطور.
لم يلتفتا إليه وهم منشغلين ببطونهما الشاردة .
- هييييي يا مجانين ، اتفضلوا فطور 
المُجَبِّر : يمسك يد صاحبه ويقول شكله بيحاكينا وعيناه تكاد لا تصدق ما تسمع .. فالمجنون يسمع بعينيه ويرى بأذنيه .
- سيَّان : أنا شابع يا مُجَبِّر ، مشتيش من أكل العُقال ، قبولنا بالطعام من عاقل ، معناه تنازلنا عن قضيتنا العادلة .
لو لم يكن هناك ظلم من أدعياء العقل ، لما كان هناك شرود لأدعياء الجنون .
لا تُجَبِّر انكسارنا بلقمة ، فكم من قضايا ماتت بسبب فُتات ، وكم من مال قَيَّد قضية ضد مجهول .. سقطت دول وأنظمة بسبب لُقم ، وتهاوت حضارات من قِبَل قلوب ادعت أنها ترحم .
تفحيط السيارة ورائحة إطارات ..
المُجَبِّر : أببببببب والكلام ، متأكد إنك مجنون ؟
هناك تغيرت ملامحه الشائبة لتبدو أشد شحوباً وأكثر رغبة بالصمت من ذي قبل .
سيَّان : بداية الجُنان تِعِلَّام ،وبداية الحرب ملطام. 
المُجَبِّر : آح يا رفيق الرصيف ، أنا كنت أتجَبَّر المانجو والبلح من أصحاب مزارع صغيرة في الجرَّاحي وحَيس بتهامة وأبيعهن لتجار المدينة ، ولما طلعت صنعاء بدأت أفهم بالسياسة وكنت أقول أن البلاد مزرعة كبيرة حق واحد مُجَبِّر أكبر مني ، وما من كبير إلا وفي مُجَبِّر أكبر منه . 
سيَّان : أهاااااا يعني أنت كهربوك لما لذعوك .
المُجَبِّر : الكهرباء معدومة خارج وعندهم فاااائض ، لكن السَّلام يشتي بندَقَة ، والعافية تشتي أكل .
عندها بدأت الحركة تدب على الإسفلت ، وهاهم الباعة المتجولين يفترشون الأرصفة لبضاعتهم المختلفة باختلاف أذواق البشر .
هذا المساءُ يبدو عاقلاً وآثار المجانين تحفر أعقابها على أزمنة العهد الذي أوشك أن يكون حجرياً ، وتدافع عُبَّاد رمضان لسنة التراويح أكثر من تدافعهم لفريضة العِشاء .
المُجَبِّر هامساً : الماء والهواء هم معادلة الحياة ، ولكن العقلاء لوثوا كل البديهيات ، ويغني يا عذاااابي بنبرة متحشرجة .
سيَّان : لا تجنن قلبي أكثر من اللي قد عاناه ، حبيت وتزوجت من بلاد الشلال ، وبعد ما كبروا عيالي فهمهم صاحب العمامة السوداء ، أني سبب وجودهم في عالم الجنون ، فقرروا يثوروا على كل شئٍ عاقل ، من يومها وأنا اترحم على اللي قال ( جنان يخارجك ولا عقل يحنبك ) .


 

٢٦/٦/٢٠١٦

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً