الخميس 28 نوفمبر 2024 آخر تحديث: الخميس 21 نوفمبر 2024
المدينة التي ضاعت - مُحمَّد القُعود
الساعة 11:32 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)


المدينة تغطُّ في ضياعها، الوحشة تنتظم في سيرها، صقيع المشاعر صار مُنتخباً بطريقةٍ شرعيةٍ ليُسيِّر علاقات الناس، وصار ذا هيبةٍ طاغيةٍ، وصارت ملامحه حاضرةً في كُلِّ بيت ووراء عتبة كُلّ بابٍ وقلب. ما بين يومٍ وآخر والمدينة تزداد طُولاً وعرضاً واتِّساعاً في الاغتراب والفوضى، ما بين اليوم والآخر تفقد المدينة مساحةً أخرى من عُذريتها ونقائها وماضيها الناصع بالإنسانية، صارت شوهاء لا هُويَّة لها، وخاليةً من نبض الحياة الحقيقية الخالية من شوائب المصالح والكراهية والأنانية. يا لهذه المدينة التي تخلَّت عن أصالتها والتحقت بركب الحضارة لتُثبت للآخرين أنَّها قادرةٌ على مُضاهاة مُدن الأسمنت والصقيع في تغيير جلدها وإيقاع حياتها وتقاسيم وجهها. هذه المدينة كانت في يومٍ غابرٍ واحة حُبٍّ لقُلوبنا وشجرةً مُثمرةً لعصافير قُلوبنا الصغيرة، ننقر في غُصون برقوقها وعناقيد عنبها، ونبتلُّ بمياه آبارها النقيَّة، ونثمل بقطرات أمطارها، ونتعطَّر بورود بساتينها، ونُصادق غُبارها الودود، ونتلفَّح ببردها الحميم وحكايات أزقَّتها المليئة بحنانٍ لا شبيه له، وبأُلفة جيرانها، تلك الألفة المستعصية على النسيان. نُعطِّر قُلوبنا الصغيرة بقطراتٍ هائمةٍ من قصص حُبٍّ سرِّيَّةٍ بين أقمار الحارة، تلك الأقمار المحفوفة بالطُّهر والبراءة والدهشة. هذه المدينة تبتعد عنَّا كثيراً، كُلّ يومٍ تنأى، كُلّ يومٍ تسقط ورقةٌ من تقويم أيَّامنا الماضية وتُشعل النسيان في كُلِّ ذكرى، تهدّ جداراً عليه نقشنا يوماً ما كتاباتنا الطُّفولية وذكرياتنا الأولى : «مع تحيَّات مُحمَّد القُعود وأصدقائه»، «البطل هشام عفط وسمخ الحارة»، «عاش نادي الحارة»، «الذكرى ناقوس يدقّ في عالم النسيان»، وكتابات مُراهقتنا البريئة : «الحُبّ عذاب»، «أُحبّك»، «م و أ حُبّ الأبد»، «صباح الخير يا حلوة»، «يا مالكا قلبي»، «حُبّك نار»، «الشمس تطلع وتغيب، واللَّيل يجمع كُلّ حبيب»، «بسبب حُبّك رسبت في الامتحان»، «يا قاسي القلب عاد الناس يقولوا سلام»، «نظرةٌ بابتسامة فموعدٌ فلقاء»، «أوَّل حبيب وآخر حبيب»، «كده برضه يا قمر»، «تستاهل يا مليح»، وكتابةٌ ساخرةٌ : «القات السوطي مبوّر يا عيال»، «ما فيش للزعل داعي»، «الأهلي بطل الدوري والوحدة أخذ الكأس»، «يابه علي المهر غالي»، «هذه زُوّة الجن»، «علي قربع شمّ المرق ونبع»، «يا عيال الحارة لا تشتروا سكريم الريمي الفيمتو فيه قليل»... إلخ. يا لهذه المدينة، التي تعلَّمت القسوة، هذه القسوة الإلكترونية، إنَّني أبكي، لن أُكمل، الشجن يُدميني، والآهة تُحرق أعماقي. هذه المدينة تُشهر قُبحها ونسيانها ضدَّ كُلّ شيءٍ جميلٍ كان فيها، وضدَّ كُلّ ذكرى تفوح وتبوح بعبقٍ جميلٍ ورائعٍ كان يحوم ويجول فيها وبين أزقَّتها.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص