الاثنين 23 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
الفن القصصي .. ككائن حي..؟ - عبدالكريم المقالح
الساعة 08:07 (الرأي برس - أدب وثقافة)



المواصفات والمقاييس تجدها في كل شيء.. إلا في الأدب والفن..!
العمل المبدع هو الذي ينسق كل المواصفات المتعارف عليها.. ليفرض صيغته الخاصة به..!
مواصفات الفن القصصي.. لم تخلق من قبل الرواية.. لكن تم استنباطها مما أبدعه الأدباء الكبار..!!

 


-1-
منخذل الخطو.. خائب الروح.. في تثاقل قائد مهزوم يسير مترنحاً شارداً فكره.. فقاعات المرارة قعره.. تتطاير.. تصل إلى حلقه تنفجر باساً وحسرة..!
خناجر لامعة كاوية تنبت داخله.. تدميه.. تحرقه.. يرنو بعيون تقطر خيبة وهوان.. في كفه يمسك أوراقه.. شهادة وفاته..دليل فشله.. برهان خسرانه..!
فجيعته أنه التزم الصمت.. أثناء سماعه الحكم القاطع والحازم.. الحكم النهائي الصادر على قصته..!!؟

 

-2-
نظر إليه من خلف نظارته المعلقة على طرف أنفه.. وهتف ببرود بطيء.. يليق بدوق انجليزي.. لا بمحرر ثقافي في تلك الصحيفة..
- يؤسفني ياصديقي إخبارك أن قصتك هذه غير صالحة للنشر.. إذ ليس فيها من مقاييس ومواصفات الفن القصصي شيء.. كما أنها مخلوق هجين.. لا هي قصة ولا هي خاطرة.. ولا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تكون هذه أو تلك.. إن الذي......

 

-3-
محاضرته كانت طويلة سمجة.. قاطعها ناهضاً يغادر.. في عينيه يقدح شرر كره بريء.. كره شفاف لا حقد فيه أو غل أو مقت.. لملم نفسه وخرج والمحرر الثقافي يناديه أن يرجع.. لكنه لم يفعل..
ماذا يرجع..؟؟! أليفجر بركانه المكبوت في وجهه..؟؟!!
لقد كتم عبارة مدوية.. كان يريد إنزالها على رأسه كالصاعقة:
- ألم تسمع أو تقرأ ما قاله رائد مسرح اللا معقول " يوجين يونسكو": (المشكلة في معظم النقاد أنهم يريدون أن يلتزم الفنان بقوانين مسبقة من اختراعهم..!؟
لكن كتم انفعاله وجرجر أذيال تعبه وذله وغادر..!

 

-4-
وها هي كلمات أذى في أعماقه.. يسمعها كطبول وحشية الصدى في ساح قبيلة من أكله لحوم البشر.. يحيلون طقوسهم؟؟!
يسمعها الآن.. كل الكلمات الهادرة التي كان يريد أن يدافع بها عن نفسه.. أصغى لإدعاءات المحرر الثقافي بخصوص التهمة الموجهة إلى أدبه.. ورغبة غامضة تدغدغه أن يدافع عن نفسه.. فلم يفعل خشية ذهاب كل ذلك سدى.. فلن يفهمه.. ثم هل كان سيكلف نفسه عناء الانصات لوجهة نظر أديب صغير.. لا زال على بعد ميل من أول خطوة في مشوار الألف ميل.. في درب الأدب الطويل..؟؟!
كان يريد أن يرد عليه.. أن يدحض حجته الواهية.. بشاهد إثبات قوي.. لا يقبل نقاشاً.. أو حتى مجرد إعادة النظر فيه..!!

 

-5-
ألا يعرف هذا المحرر أو سواه.. أنهم يمسخون الأدب حين يحنطونه في قوالب حديدية جامدة محددة .. حين يطلبون من الكاتب أن يسكب أفكاره فيها ..!!؟
المواصفات والمقاييس تجدها في كل شيء .. إلا في الأدب والفن ..!
هناك مواصفات ثابتة ومعايير محددة لإعداد مركب كيميائي معين ..يلتزم بها كل العلماء في كل مختبرات العالم.. في موسكو .. في بومباي .. في لندن .. في نيويورك . هناك خطوات ثابتة متسلسلة لإنتاج محلول ما..فلكي نحضر الماء في المعمل .. لابد من نسبة معينة من غازي الأوكسجين والهيدروجين .. وفق معادلة واحدة عند أي كيميائي في أي مكان..
أوكسجين + هيدروجين = ماء
O2+H2?H2O 
ولا يمكن لأي كيميائي _ مهما كانت درجته العلمية – أن يحضر الماء معملياً إلا بهذه الطريقة .. تبعاً للقوانين الكيميائية المعروفة والمتداولة عالمياً, فماذا حين نطلب من روائي أن تكون قصته مستوفية متسلسلة العناصر العامة من : فكرة + حدث + شخوص + زمان ومكان + عقدة + نهاية.. وإلا ضربنا بنتاجه عرض الحائط..

 

ميخائيل نعيمة .. الأديب والناقد .. حدد المقاييس .. أو الحاجات الروحية التي يجب أن نقيس بها الأدب .. في أربع نقاط:
1 الحاجة إلى التعبير والإفصاح عن عالمنا النفسي.
2 الحاجة إلى نور الحقيقة.
3 الحاجة إلى الجمال.
4 الحاجة إلى الموسيقى.

 

-6-
الكائن الصغير الغاضب "مشروع أديب" كان يريد أن يتفجر في وجه المحرر الثقافي بهذه الكلمات كقنبلة نابالم حارقة.. كان يريد أن يصرخ:
- إذا كنت تريد المزيد من المواصفات فابحث عنها تجدها في كتب تعليم فن الطبخ المعاصر أما في الأدب - وهو مطلب عسير - فالعمل المبدع هو الذي ينسف كل المواصفات المتعارف عليها ليفرض صيغته الجديدة الخاصة به. وليست نهائية كوشم لا يمحى والكاتب المبدع هو الذي يضيف إلى ما سبق دونما خوف ويحاول باستمرار تجاوز نفسه وسواه ليقدم ابداعاً جديداً يخلد أجيالاً وأجيالاً.
وكان سيضرب أمثلة على صحة دعواه.. لكن المحرر الموظف لن يفهمه.. فهو كالخياط يقيس كل قطعة قماش بالمتر.. ويفصل الثياب بالمتر أيضاً..

 

-7-
لن يفهمه لذا احتفظ بمهذار هذيان لنفسه.. وطوال خط سيره كان يلقي درسه على مسامعه هو.. شكسبير الخالد الذكر ماذا عنه..؟! هذا المسرحي المتجدد كل يوم إنه لو اذعن لمواصفات من عاصره من النقاد عن المسرح الجيد المتماسك لما كتب حرفاً واحداً يخلفه..!
ومسرحياته لو سارت وتأثرت بإشارات المرور الحمراء "قف – خطر – منزلق – هدئ السرعة - أمامك هاوية" التي رفعها النقاد في وجهه لما ضمن – واثقا - لها الحياة.. عاما واحدا بعده لا قرونا إلى اليوم والغد.. لقد هاجمه النقاد في شراسة ووحشية لأنه لم يتبع القواعد المقدسة للمسرح الإغريقي والنظريات الأرسطية التي سادت على مدى قرون طويلة ميثاقا طاهرا لا يجرؤ كاتب على خدشه.. ودستور مسرحي في غاية الكمال.. لكن شكسبير جاء ونسفه تماماً..!
ألا يعرف حضرة المحرر الثقافي أن "الخلق" يعني الجرأة على الانصات للصوت الداخلي مهما كان شاذا في ملامحه.. عجيبا في هيئته ليولد الجمال النادر بفرادته واستثنائيته, كما يرى الشاعر الفرنسي المشرد "شارل بودلير" حين قال:
(إن الشاذ أي غير المنتظر والمدهش الطارئ جزء أساسي من الجمال بل هو عنوانه الصريح).
وهذا موسيقار عصره وكل العصور "بيتهوفن" ألم يصفر الجمهور ويبصق النقاد يوم عزفت سمفونيته الثالثة "هيروبيكا" لم يفعل شياً أكثر من الصمت وهو على يقين تام أن من عمل وتعب سيثاب عاجلاً أو آجلاً وأن لكل مجتهد نصيباً واليوم هاهي سمفونيته الثالثة من الروائع الموسيقية الشامخة عالمياً..!

 

-8-
ترى كان المحرر الثقافي سيفهمه حين يسكب في مسمعه شلال حديثه هذا..!!؟
والقواعد الأدبية ما وجدت لتكبيلنا بل لنتجاوزها.. نتعلم منها وننطلق عبرها.. والفن القصصي نحن الذين نخلقه وليس هو الذي يخلق القصة أو الرواية.. مواصفات الفن القصصي لم تخلق قبل الرواية وإنما تم استنباطهاً انطلاقاً مما أبدعه الأدباء الكبار.. القصة كائن حي يتطور باستمرار وثمة شواهد لا تحصى تؤكد هذا الأمر..!
وإلا من كان يتصور أن الصحافي اللامع البريطاني "بول ريد" سيخرج أفضل رواية هزت كيان أوروبا: (ALIVE) حيا أو على قيد الحياة حين صدرت تربعت على قائمة مبيعات الرواية أشهرا طويلة وما ذاك إلا للجديد المبدع الذي احتوته.. تكنيكاً ومضموناً.. فالصحافي الفذ زيد يستغل حادثة بسيطة حين سقطت طائرة تقل فريق الرجبي فوق الثلوج على جبال الأنديز.. ولم تعثر عليهم فرق الانقاذ إلا بعد (70) يوماً وقد تقلص عدد الناجين من (32) إلى (16)إنساناً.. طوال تلك الفترة بين الثلوج كان غذاؤهم لحم أصدقائهم الموتى كي لا يموتوا من الجوع..!!؟
"بول ريد" أخرج روايته عبارة عن حوار مع الناجين من الحادث وكذلك مع أقربائهم.. حوار عن معاناة هؤلاء وهؤلاء أثناء الحادث بآلامه وأهواله وبعد النجاة..!
أقل النقاد دراية بالفن سيقول "ليست رواية إنها ريبورتاج صحفي". ناقد آخر أشد حذقا منه ربما سيضع تسمية أخرى وهكذا.. التسميات لا تهم المهم هو ما خلفته قراءة الكتاب.. أي شعور تركته في أعماق النفس البشرية..!

 

إن التسميات - حسب غادة السمان الروائية - تتوقف على مدى فهمنا للرواية أو القصة كعمل حي مبدع.. قابل للنمو والتبدل والتطور أو كعمل محكوم سلفاً بقوالب جامدة لا يحق له الخروج من سجنها.. تماماً مثل الأحذية الحديدية التي ترتديها فتيات الصين.. لتعوق نمو أقدامهن..!؟
وثمة مثال آخر
(خلايا السرطان) رواية الكاتب "الكبير الكسندر سولجنستين" ماذا عنها..؟؟
لقد أصيب بالسرطان ودخل المستشفى فكتبها.. إنك لا تجد فيها حبكة قصصية بالمعنى التقليدي بل ولا حتى خاتمة بالمفهوم العام المتعارف عليه.. قرأها النقاد يوم صدورها فقالوا :"مجرد يوميات الكاتب في المستشفى" لكنها كانت ولا تزال عملاً مبدعاً وهي بطريقتها الخاصة رواية مكتملة الرؤيا..!!

 

-9-
كان يريد قول ذلك وأن يرد على مازعم من صعوبة الترجيح في قصته: فلاهي خاطرة ولا هي قصة.. أليس من السخف أن نقسم الكتابة إلى رواية أو قصة أو خاطرة.. هذا المفهوم التقليدي للنقد يجب نسفه وإلغاؤه لأسباب منطقية ومعقولة, فالنقد الأدبي إذا لم يواكب الابداع الأدبي في تطوره يصير أشبه بأربطة الشاش التي تلف مومياء بها عدة قرون ثم نحاول لفها من جديد على جسد جديد مختلف المقاييس ينبض بالحياة والإشراق..!
وكم سيكون منظره مضحكاً لو سار شخص ما في الشارع وهو يرتدي الثياب الحربية التي كانت معروفة إبان الفتوح الإسلامية وهو ابن القرن العشرين..!!؟
وعليه.. لا وجود أبداً لشيء جامد مكرس اسمه الفن القصصي أو المسرحي هناك صيغة كالطفل قابلة للنمو والتطور..!!؟

 

-10-
يبصق في ازدراء وتأفف.. وكلماته هذه التي كان من المفترض أن يسمعها سيادة المحرر الثقافي ليفهمها.. لا تشويه إلا هو.. الحمم داخله تصليه جحيمها.. لا يدري حتام ذلك..!؟
إنه في قمة يأسه.. يعود أدراجه شاحب الوجه خائر العزيمة مشتت الذهن.. عزاؤه أن لا أحد يقطع عليه صمت هذيانه..!!؟؟

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً