الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
مجموعة "دفتر النائم" لـ شريف صالح - سيد الوكيل
الساعة 10:31 (الرأي برس - أدب وثقافة)

 


من قبيل المفارقة أن الجيل الذي شهد زمن الرواية وبصم عليه بالعشرة، هو نفسه الذي أخذ على عاتقه مهمة فض الاشتباك بينها وبين القصة القصيرة، بما يعني : أن لاشيء يموت، وإنما ثم تحولات للشكل السردي، ومحاولات للبحث عن هوية مميزة للقصة القصيرة تنقذها من غواية الحكايات الكبرى، كأن تفخخ نفسها بتقانة عالية الفاعلية،تبدو كالغوص الخاطف في الأعماق، واللمس المثير لمناطق اللذة بحسب (بارت)، وهز الوعي القرائي بالدهشة المباغتة.
 

هكذا سمات، تشيع في نصوص ( شريف صالح) عامة، وتصبح أكثر حضورًا في مجموعته الأخيرة (دفتر النائم) التي قد يوحى عنوانها بأنه يمضي على درب مولانا نجيب محفوظ في (رأيت فيما يرى النائم)، غير أن المدقق يدرك أننا أمام تقنية مميزة، تقف على التخوم الرهيفة بين النوم واليقظة،أوبين الحلم والواقع. فالبدايات تنطلق من إيحاءات واقعية خالصة، ثم لا نلبث أن نجد أنفسنا في أفق ممهور بلمسات سحرية، ونفحات تغريبية، لاتحلق بنا في فضاء حلمي شاسع، ولاتحط بنا على أرض الواقع، بل تتركنا عالقين على التخوم. كأننا، أو كأن أبطال قصصنا، تعيش لحظة قلقة ومغوية في آن واحد، تشبه أحلام اليقظة بحسب تعبير باشلار.
 

فالبداية في قصة (قصر الأموات) تتسلل إلينا عبر وصفية واقعية لفوج سياحي في زيارة قصر أثري، لكن أحد الزوار راح يتساءل فيما إذا كانت أرواح سكان القصر تشعر بالانزعاج من صخب الزوار، ثم راح يفكر في سر النظرة الشاحبة والحزينة لبرنسيسة في لوحة معلقة على جدار. إن هذا المعنى يبدو نوعًا من الاستغراق التأملي الملتبس بالخيال، ثم لا يلبث أن يتحول إلى واقع، عندما بدا الزائر المتأمل يشعر  بأطياف سكان القصر تتحرك حوله، عندئذ تخرج  البرنسيسة من لوحتها، وتساعده في البحث عن زر قميصة الذي سقط، بل وتخيطه بيدها.. هكذا يسحبنا شريف صالح إلى الأعماق اللامرئية كما لو كنا منومين معناطيسيا، عندئذ، وفي لحظة واحدة، يلتبس الواقع بالخيال، والأهم هو حضور الماضي في الآني في لحظة واحدة ونادرة لاتتحقق في وعينا إلا عبر أحلام اليقظة. عندما يصبح للحاضر – ونحن نعيه- هذا العمق الزمنى في الماضي أو المستقبل.
 

 إنها لحظة واحدة ، لكنها مثقلة بدفق الأزمنة. وكما تنجح هذه التقنية في اكتناز الأزمنة، تنجح – أيضا- في اكتناز الأمكنة، على نحو ما نجد في قصة ( كوخ ست الحسن) التي تنطلق -أيضا- من مشهد يبدو واقعيًا ومألوفا: ثم فتى يقبل مسحورا على فتاة ترش الماء على التراب أمام كوخ مطل على النيل، فيما يتناهى إلى سمعه صوت محمد قنديل يغني. هنا تواطؤ بين الصوت والصورة يكيف المكان على نحو سحرى كما في أمكنه الحواديت، فينسج حلم اليقظة حدودته من الموروث الشعبي لست الحسن التي تسقى عابر السبيل من أبريق فضى، عندئذ يصبح أسيرًا لمكانها وزمانها في لحظة واحدة، حتى أن العمر مضى بالفتى بعيدًا، في مشهد رمزي: " سعلتْ، ثم اعتدلتْ في فراشها، وهى تحدق فيّ:
 ـ شعرك شاب كثيرا منذ رأيتك أول مرة.
 تطلعت من كوة الكوخ.. فرأيت نفسي شاباً قادماً من بعيد".
 جملة النهاية هذه أعادتنا إلى لحظة البداية، عندما رأينا الشاب قادما لأول مرة في اتجاه الكوخ، فهل نحن أمام زمن يكرر نفسه؟ أم أن كل الذي حدث في القصة لم يحدث بعد، ومازلنا في لحظة الانبثاق الأولى لها؟ أوأن ما حدث ليس سوى حلم يقظة؟ هكذا يكون للتكثيف اللغوي والمهارة التقنية فعل السحر في البناء الزمكاني للقصة القصيرة.

 

وإذا كانت أحلام اليقظة تضعنا على تخوم الخيال كما راينا في القصتين السابقتين، فإن الاستلهام العرفاني في قصة( حقك من الدنيا) يضعنا في لحظة أكثر رهافة والتباساً، وهى قصة عجيبة وثرية ومركبة، بحيث لا يمكن اختصارها دون الإخلال بشروطها الجمالية، بسبب الحضور الدلالي المكثف والمتشابك على الرغم من بساطتها ونزوعها إلى الخفة، غير أن خفتها هذه سر جاذبيتها.
 

أما التقنية التي تعتبر إضافة مميزة في هذه المجموعة، فيمكن الإشارة إليها بوصفها نوع من( التفعيل المجازي) فأنت عندما تقول:" أطير من الفرح"، يبدو هذا تعبيرًا مجازياً لا أكثر، لكن مد هذا المخيال المجازي على استقامته، بحيث تحدثنا عن شعور الطيران ورؤيتك للعالم من حالق، يجعلك تخرج من منطق المجاز إلى منطق السحر. هكذا كان الناس في طفولة الإنسانية يعتقدون أن للغة قوة سحرية مكتنزة في مجازاتها، ومازال أطفالنا يستخدمون المجاز في ألعابهم كأن يقسمون أنفسهم بين ( عسكر وحرامية أو سيدات ومحمدات) وفى قصة ( توت) تبدأ بطفل يلعب لعبة القطار، ويمضى يقلد صوت القطار وحركته، يستغرق في لعبته، حتى يمضى الزمن من حوله، ومازال القطار يدوي( تووووووت).
 

ويصبح التفعيل المجازي أكثر قدرة في التعبير عن الذات الساردة وعلاقتها بالواقع المعيش، حتى لتقترب من معنى الأزمة الوجودية، عن علاقة الإنسان بجسده. فقصة ( هروب جسدي) تبدأ هكذا:" وأنا أشرب قهوة الصباح في البالكونة، انتبهت أنني لم ارتدي جسدي" قد يبدو هذا تعبيرا مجازيا، لكنه يمتد طوال القصة، في مطاردة صاحب الجسد لجسده في أمكنة عديدة، ثم يراه ممسكا في بالون ومعلقا في الهواء. إن تصعيد الجسد للسماء وبقاء الروح على الأرض يفتح أفقا تأويليا خصبا عن العلاقة بين الجسد والروح في الموروث الثقافي. وإذا كانت كل نصوص المجموعة تتمتع ببعد تغريبي ساحر، فمن شأن ذلك، أن يوسع أفق الدلالة، ويعمق المعنى، ويضفي عليها وحدة عضوية.
 

منقول من بتانة نيوز..

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً