الاثنين 23 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
قراءة نقدية
تقنيات القصة القصيرة جداً"الكرسي الأزرق" لـعبدالله المتقي نموذجاً - رضوان السائحي
الساعة 13:44 (الرأي برس - أدب وثقافة)

 


إذا كان القصر أو الإيجاز إحدى السمات المميزة لهذا الجنس السردي فلابد من الإشارة إلى أن هناك تقنيات أخرى تعتمد بشكل أساسي على الحذف والتشذيب، والخيال المكثف والأسلوب القوي بالاشتغال على الكلمات الأثر إيحاءا والأكثر ربلا من حيث الدلالات، والمعاني سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.

ومن خلال قراءة مركزة لمؤلف" الكرسي الزرق"يمكننا أن نتعرف على تقنيات أخرى اعتمدها الكاتب في بنائه السردي لهذه المجموعة.إذ نستشف من الوهلة الأولى النفس الشعري يطبع تقريبا جل النصوص القصصية، لكن من أن تبتعد عن دورها السردي. وهذا راجع للاستعمال المكثف لمفردات ذات معاني غنية بالإشارات والإيحاء، وكذا جموحها نحو الخيال يمتح خلالها الكاتب بين الفينة والأخرى من الحقل الشعري من حيث التركيب اللغوي، مما يجعلها أكثر قربا من الشعر. ولا نستغرب هذا لأن الكاتب هو في نفس الوقت شاعر، بمعنى أنه أكثر وعيا بالمناطق المشتركة ما بين الشعر والسرد، وأكثر تحكما في الحبكة والبناء والسردي.

ونلحظ هذا بوضوح من خلال العبارات التالية:

( تمنحني جدتي مفتاح ذاكرتها اللذيذة) ص 17.

( ونبت ما يشبه الطفيليات على عتبة ذاكرتها) ص 17.

إن تركيب الكلمات بقدر ما هي شعرية في بنائها السردي فهي جاءت مليئة بإشراقات الشعر الذي أضفى عليها رونقا جعلها أكثر كثافة من دون أن يسقط المعنى في خانة الشعر.بحيث لا يفوت الكاتب أن يستحضر حرارة الشعر إلى عتبة السرد، ويمزج بين هذين الكائنين من دون أن يغفل عن إقفال البوابة التي تفصل بينهما.ونقرأ في القصة القصيرة جدا والمعنونة ب" قصيدة"

ص 18:

" نهضت القصيدة مبكرا إلى الواجبات التي عليها، رغم سهرها البارحة حد الأرق، صحبة شاعر مجنون، وقنينة نبيذ، وعلبة سجائر شقراء.

نزلت درج العمارة، تركت الباب مفتوحا على مصراعيه، لأنها تعرف مسبقا أن اللصوص لا يهتمون بدواوين الشعر ومسودات القصائد.

ودونما حاجة إلى سائق، يفتح لها باب سيارة فاخرة، مشت على الرصيف خببا."

فالطلاء الشعري تتزين به جل جداريات السرد في المجموعة القصصية كلها يضفي عليها قوة في البناء السردي، ويوسع الرؤية إلى هذا الجنس الذي يشبهونه بالتلغراف والبرقية.ونقتطف هنا بعض الصور ينزاح بها الكاتب إلى الخيال فيقربها من الشعر:

( يقول حميد بكلام خاتر) ص 21

( يمضغ ما يكفي من الرغبات الصاخبة) ص 32

( ارتدت فستانا عاريا) ص 36

( المرأة القاحلة) ص 37

( تقشرت جدتي) ص39

(كان خصر الأرض مالحا في فم المحراث، وكان فم المحراث لذيذا في فم الأرض) ص41

( انتزعت وجهها من المرآة، خبأته في القمطر، ووضعت بدله وجها من المساحيق العطرة)ص 44.

( يغسل تعب المساء) ص 46.

( ترمي فكها السفلي في كوب من الماء) ص 51

هذه بعض الأمثلة التي تتمظهر من خلالها تقنية الكثافة والخيال الشعري التي يعتمدها الكاتب في رصد تفاصيل الحياة. وذلك لما توفره هذه التقنية من كثافة المعنى والإيحاء، كما أنه اعتمد على جمالية التكرار في قصة" كرز"ص 31.

( أنا أحب الكرز.. أنا أتلمظ الكرز..

وكانت طامو تحكي لي عن الكثير من الكرز..

حتى صرت أراها كرزا..

لذيذة وطرية..

في عينيها كرز..

في فمها كرز..

فوق نهديها كرز..

وأحيانا كنت أتذوق الكرز)

ولفظة " الكرز" هنا لا تفيد نفس المعنى فهناك دلالات جنسية متنوعة خفية تنطوي في هذه اللفظة.

ونلمس كذلك تداخل الخيالي بالواقعي كما هو الشأن في نص" ضحك القصة"ص38.

( الكاتب يكتب فوق طاولة المقهى،

يكتب مثلا عن مومستين تمشيان على رصيف يوم السبت، تلتفتان، تضحكان مجانا، تلتقيان برجل ما، برجلين، وتعودان إلى الرصيف.

قبل الليل بقليل، اختفتا من الرصيف،

واختفى الكاتب من المقهى.

....

فتح الكاتب باب شقته، باب غرفة نومه، ليجد المرأتين على سريره،

كانتا تهران(تدغدغان) بعضهما، وتضحكان كما المجانين،

ضخك بدوره كالمجنون وارتمى من الضحك فوق السرير.).

 

إن الذين يشبهون القصة القصيرة بالطرفة والنادرة، أو النكتة على أساس أنها تحمل في طياتها طرافة تجعل القارئ أحيانا يبتسم في قرار نفسه، إنما يقزمون دورها في رصد واقع الحياة. فهي تسخر من الواقع في قالب طريف تجسد الحزن والفرح، والفقر والبؤس.أي أنها مرآة تعكس تفاصيل الحياة اليومية بكل تجلياتها وانطباعها المادي والمعنوي.ونتحسس ا في نص" فوطوكوبي"ص 57.

( أمه تقبع في ركن من أركان الغرفة، تخيط بالإبرة محفظته الجلدية، أخته تلعب بدمية مبتورة الذراعين، نظر إلى تقاسيمه في المرآة:

كان صورة منهما، فقيرا، هزيلا، شاحبا و... جائعا.)

الشخصيات:

يختلف اختيار الشخصيات في القصة القصيرة جدا باختلاف ثقافة الكتاب في هذا الجنس، وباختلاف زوايا نظرتهم إلى الموضوع. فمثلا في " الكرسي الأزرق" نجد إشكالية الوجود، والمرأة، وهموم الكتابة، والجنس كلذة وكمحنة معيشية، والطفولة، والحب، وعلاقة الرجل بالمرأة.. ومجمل النصوص يعمد فيها الكاتب اختيار ضميري الغائب المذكر والمؤنث، إما كل واحد على حدة، أو هما معا. ويتجلى ا في عشرين نصا تقريبا. ولعل السارد يضع نصب عينيه هدفا معينا يخدم الحبكة السردية، دون اللجوء إلى التفاصيل التي قد تخل بنظام القصة القصيرة جدا.وعندما يلجأ إلى هذه التقنية لا يعني أنه يهمل إثبات حضور الشخصية ولا يكثف من فاعليتها. بل على العكس فهو يعطيها مجالا أوسع للإسقاطات والتأويلات التي يمكن أن تدور على مدار هذه الشخصية أو تلك. ونقرأ مثلا:

( آخر المساء، وقفا قريبين من محطة القطار، تفحصت عينيه البنيتين...) ص8.

( سألها: هل تحبينني؟ - قالت بغنج: لن اسلم قلبي لكائن على الأرض.)ص19.

( شق المحراث أرضه...) ص41.

( صعدا سويا...

هي

وضعت حقيبتها برفق فوق الكرسي المقابل. ثم تحرك القطار

هو

رمى جريدته برفق فوق حقيبتها وكان القطار قد بدأ يتحرك.) ص42.

( ها هي..

ها هو..

ها هما معا يعبران الممر إلى مقهى محطة القطار)ص 49.

من خلال سياق الجمل نفهم طبيعة الشخصيات إن كانت زوجة، أو عاشقين، أو فلاح، أو مسافر، وهكذا دواليك.

ويركن عبد الله متقي إلى استعمال شخصيات معروفة لدى القارئ كالشخصية الأدبية ( تولستوي) في " رسالة حب"( ماذا لو ولدنا على مقاس لحية تولستوي ومتنا رضعا؟ ص 22)

وأحيانا يكتفي بالإشارة إلى كاتب أو شاعر ما.

يوظف الكاتب أيضا شخصيات تحمل أسماء أجنبية مثل السيدة (جاكي) ص9. و( توم وجيري) ص14.في المقابل نجد أسماء شخصيات من الواقع المغربي مثل( دادة) ص 15، وهي الجدة، بعض الشخصيات تحمل ألقابا عربية. وأحيانا أخرى يتواجد السارد نفسه في الحدث. ونلاحظ مثلا في نصص السوليما" أن الكاتب لم يعمد إلى اختيار نوع من معين من الشخصيات. هي مجرد أشخاص من العامة يمثلون جمهور السينما.فالأهم في هذا النص هو علاقة المتلقي بالفن السينمائي في دول العالم الثالث، وكيف تتحول قاعة العرض إلى مكان أمين لممارسة الجنس عوض الاستمتاع بالفيلم.
العنوان:

تكمن تقنية صياغة العنوان في" الكرسي الأزرق" في كونه تارة عتبة للولوج إلى المتن السردي، وتارة أخرى يخلق فجوة تترك القارئ حائرا مترددا في كيفية ربط العنوان بالنص ففي نص " رقية الفقيه" ص17 لا نجد اسم هذه الشخصية في النص، وقد تكون الجدة هي رقية الفقيه. وفي" قوارير زرقاء"ص 34، و"عرس الذئب" ص 37. وعرس الذئب في الذاكرة الشعبية المغربية هو لحظة سقوط المطر وبزوغ أشعة الشمس في نفس الآن، وإن غياب هذه الإحالة في مخيلة القارئ لسوف تغلق في وجهه الباب لولج النص. كذلك الأمر بالنسبة للنص المعنون ب " مات الكلب" ص47، إننا لا نجد أي أثر لذكر الكلب في النص. والكاتب من خلال هذه التقنية يعطي للقصة القصيرة جدا دلالات وأبعادا هندسية لغوية ذات مغزى فكري يُشرك من خلاله القارئ في إبداع النص. وكما هو الحال بالنسبة للشخصيات فإنه استحضر أسماء تاريخية في العناوين مثل: منصور ص 45( إشارة إلى يعقوب المنصور). وأسماء ميثولوجية كبروميثيوس ص 12.واعتمد أيضا على ألفاظ أجنبية( "توم وجيري"، و"فوطوكوبي"، و" "و "جاكي".Figures

وظف الكاتب تقنية جديدة في بعض النصوص لم نعهدها في فن السرد. هذه التقنية

) مثل الكلمات الآتية التي تكتب Bandes dessinéesاعتدناها في القصص المصورة للأطفال(

بهذه الطريقة:( كثيييرا، صرخة طوييييلة، طويييلا، مواااء..) وهي دلالة على ارتفاع الصوت، أو المدة الزمنية لنطق اللفظة. ومن الطبيعي أن يلجأ الكاتب إلى توظيف عبارات من العامية المغربية، لأنه أحيانا لا يمكن أن نجد لها مقابلا في اللغة العربية الفصحى. وهذا يدخل ضمن عملية التكثيف، وحذف و تشذيب كل ما يمكن أن يُخل بالمساحة على البياض مثل:( توم يبحث عن جيري بالرق الناشف) ومعناه التقريبي( توم يبحث عن جيري بشق الأنفس)، و( دادة) وهو لقب يطلق غالبا على الجدة، و( أشتاتاتاتا أولاد الحراثة) عبارة يرددها الأطفال في غمرة فرحهم بسقوط المطر، و( السوليما) أي السينما، و( كانتا تهران بعضهما) أي تدغدغان بعضهما، و( مثل البضة الخامجة) أي الفاسدة

واللغة بصفة عامة في " الكرسي الأزرق" مكثفة، تضغط على الصور والرؤى لتخرج في شكلها الموجز دون اللجوء إلى التفاصيل المملة. وطغيان الجمل الفعلية في المجموعة يعطيها حركية مستمرة تميزها عن القصيدة.
[1]-- بحثا عن الديناصور – مختارات من القصة القصيرة جدا في أمريكا اللاتينية- إعداد وترجمة سعيد بنعبدالواحد، و حسن بوتكى- ط:I- منشورات البحث في القصة القصيرة بالمغرب.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً