الاثنين 23 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
قراءة في "تبادلُ الهزء بين رجل وماضية" لـ محمود ياسين - فايز البخاري
الساعة 22:31 (الرأي برس - أدب وثقافة)


 

حين يرثي المثقفُ ذاتَه..

هذا العمل الذي بين أيدينا أسماهُ مؤلفه رواية، فيما المتصفح له يجده مفتقراً للكثير من تقنيات العمل الروائي والتي سنبينها لاحقاً. وهنا سنبدأ بالإشارة إلى ما تضمنه هذا العمل الذي يصح بعد تشذيبه أنْ نُطلِق عليه قصة، فهو أقرب إليها منه إلى الرواية، وإنْ اعتورته الكثير من الاستطرادات خارج سياق بناء الحكي القصصي والسرد الروائي. وهذه القصة تدور أحداثها حول الشخصية الرئيسية، وهو (العزي) الصحفي المُثقف الذي عانى الكثير في عمله الصحفي بصنعاء وغرف الإيجار والبحث عن حق القات والأكل والمبيت في الفنادق، واضطراره لإراقة ماء وجهه عند أصحاب قريته من العُمَّال وصغار التجار لتوفير أهم حاجياته. ثم تحكي أحداث عودة (العزي) للقرية بعد أنْ أصبحَ صحفياً مشهوراً ويظهر في القنوات التلفزيونية؛ دون أنْ يحقق من خلال تلك الشهرة أي مردود مادي يكفيه لشراء حتى درّاجة نارية أو تكوين أسرة كما يجب.

فعاد للقرية يحمل خيباته فيما أهل القرية لا يعرفون أنَّ تلك الشهرة لا تغني ولا تُسمِن من جوع في مجتمعٍ لا يعترف إلَّا بالأقوى، والأقوى في نظرِهِ دائماً هو مَن يمتلك المال. حاولَ محمود ياسين من خلال هذه الشخصية تجسيد حالة المثقف المبدع ومعاناته الدائمة التي تتمثل في التشظي بين ذاته المتعالية والسامية التي تحب أنْ يسير الكون على الطريق القويم وفي المسار الصحيح كما يرسمه عالم المُثُل والمدينة الفاضلة، وبين ذاته التي تجلده ليلَ نهار في محاولة منها لإطلاق سراحه مِن قيود المُثُل والارتماء في أحضان العالم الذي يُبرِّر فعل أي شيء في سبيل تحقيق الحياة المعيشية المرموقة والاستقرار المادي الذي لا يجعلك تحتاج لأحد. وبين هاتين الذاتين عاشَ (العزي) مرتبكاً لم يصل إلى نتيجة. فلا هو حقق أمانيه في عمله الصحفي والأدبي ورضيَ به، ولا هو استطاع أنْ يكون الآخر الذي يدوس على كل قوانين الكون والقيم والمُثُل ويحقق الكسب المادي الذي يُجبِر المجتمع على احترامه والعمل لأجله ألف حساب. لقد جسَّدَ محمود ياسين المثقَّف الانتهازي في كثير من أحداث القصة، وعرّى وكشفَ زيفَ الكثيرين ممن يمشون على نفس المنوال في المشهد الأدبي والثقافي الملموس، وبالذات الكُتَّاب والصحفيين.

ومن هنا نستطيع القول أنَّ الفكرة الأساس أو مهيمنة النص التي يمكننا أن نجعل منها الرابط لكل فصول هذا العمل الأدبي، هي تعرية زيف المثقف ورثاء الذات. تلك الذات التي مُنيَت بالخيبات على الصعيدين العملي والعاطفي. وذلك يتضح من بداية الفصل الأول - إذا جاز لنا أنْ نُطلِق على كل مجموعة صفحات كان يعنونها الكاتب برقم أنها فصل- حين كان يضطر للاستدانة مِن حارس الصحيفة ومدحه بما ليس فيه، وهنا يُعرِّي الكاتبُ شخصيةَ المثقفِ والصحفي الانتهازي. كما سيحصل في آخر الرواية/القصة حين يلجأ لمداهنة زميلَه العسكري عبدالرحيم الذي دخل في التجارة غير المشروعة وأصبح له شأن في الجيش والعمل الحر. والجميل في هذا السياق أنّ الناشر نفسه يشير لذلك في الغلاف الأخير حين يقول أنها تحاول أنْ تعرّي الذات والحقيقة في زمن الخيانة والخذلان. لقد أغرق الكاتب وأسهب في الحديث عن أشياء يرغبها أو ينتقدها والاستشهاد عليها بقراءاته الأجنبية والإكثار من ذكر أسماء الكُتّاب الأجانب وأعمالهم، مما أفسدَ الجو الروائي للرواية/القصة. فكانت تبدو أحاديثه الذاتية في الغالب ككتابة صحفية محضة. فلا هو التزمَ السرد؛ ولا اعتنى بالوصف الروائي، ولا تمثَّلَ المونولوج الدرامي الذي يُعزِّز من متانة العمل الروائي، فجاء العملُ باهتاً مُفكَّكَ الأوصال لا تستطيع أنْ تُطلِق عليه رواية بالمعنى الحرفي. ومِن العجيب أنّه يعترِف بذلك في الفصل الأخير من الرواية/القصة بكل صراحة؛ حين تحدث من صفحة (110 إلى 116) عن رغبة (العزي) بعمل روائي حقيقي يستوعب كل شخصيات أصدقائه وحكاياتهم، ويُسهِب في شرح تفاصيل حياتهم الدقيقة دون الخوف من التحوير في الأسماء خشية الرقيب المجتمعي. وكذلك في المقارنة بين ما كان يود سرده في تفاصيل قريته على منوال ماركيز - وماركيز هذا لم يستطع ياسين الفكاك منه طوال القصة هو وباولو كويلهو - وهذا ربما هو السبب الذي جعل هذه القصة تبدو بهذا الشكل الركيك متفكك الأوصال، كثير النتوءات والندبات.

فهي لم تحمل فكرةً أساسية يتم من خلال السرد معالجتها وكشفها للمتلقي، أو حتى توضيح خلل مجتمعي يجب معالجته، أو سرد ذاتي يحمل الطابع الحكائي الذي يُكسِب المتلقي متعةً وينقل له دقائق حياة أديبٍ أو كاتبٍ ما في زمن محدد ومكان معروف وشخصيات ثابتة. ولكن كما يُقال: فلا ذا تأتّى ولا ذا حصَل! ولعلَّه - وبلا شعور حين يرثي حالَه - قد أكثر الاستشهاد بروائيين أجانب كثيري البؤس في حياتهم ليقولَ: ها أنا ذا على دربِكم أسير! ومما يُدعِّم مُهيمنة النص هو ما جاء في صفحة20: "استدعاء مقولة لـ(دان براون) بصوت أحس أثناء ممارسته عاداته الأثيرة في رثاء الذات والعالَم".. فالكاتب هنا يؤكد رثاءه لذاته من خلال هذا العمل، ويزيدنا اقتناعاً بصحة ما ذهبنا إليه، خاصةً وهو يُكثر من ترديد اسم (دان براون) في ثنايا هذا العمل الأدبي؛ ربما بطريقة لا شعورية لأنّهما يتشاركان المأساة نفسها(رثاء الذات والعالم). وهذا لا يعيب الكاتب بقدر ما يؤخَذ عليه عدم استناده إلى تقنيات العمل الروائي القائم على السرد والوصف والحوار. لكن هذه الاستشهادات القرائية فقط تعكس للمتلقي رغبة جامحة لدى الكاتب في استعراض قراءاته لروايات وكتب أجنبية، في وقتٍ لم يُحسِن محاكاتها في عمله هذا ولا توظيفها في مُجمّل القصة، فكان يحشر الكثير من الأسماء الأدبية والروايات والمسرحيات في غير ما حاجةٍ لها، ويمكث يشرح محتواها وشخصياتها وكأنه يشرح في مقالة أدبية أو صحفية. وهو بذلك كمَن تضعُ مكياجاً على وجهٍ قبيحٍ ودون ترتيب، فجاء العمل مشوَّهاً ومُقزِّزَاً للغاية.

إنَّنا حين نذكر ذلك لا نعيب على الكاتب أو ننتقص من قدراته، وإنَّما نُسلِّط الضوء على مكامن الخلل في العمل الذي بين أيدينا عساه ينتفع به في أعمالٍ ترقى لأنْ نُطلِق عليها اسم رواية. فالكاتب لا ينقصه امتلاك أساليب القص والسرد، فقد أثبتَ ذلك من خلال سرده لحادثة اختطاف السائحة اليونانية/الألمانية من قِبَل قبيلة حمود حارس الصحيفة، والتي يمكن بترها من الرواية/القصة لتصبح قصة منفصلة بذاتها دون أنْ يُحدِثَ ذلك خللاً في العمل الذي يعتورُهُ الخللُ من كل جانب. وبالمثل لو تم اجتزاء الفصول: (الخامس، السادس، السابع، التاسع) فإنها ستكون قصة جميلة وعذبة، وبالإمكان أنْ تُصنَع من بيئتها وبطلِها وتوسيع أحداثها والإسهاب في تفاصيلِ شخصياتها رواية متكاملة إذا أحسنَ الكاتبُ استثمارَ تلك البيئةِ الخصبةِ بالأفكار والحوادث والشخصيات الروائية وأتقنَ حبكها بطريقةٍ سردية لا يفسدها بالاستطرادات التي لا يمكن تصنيفها تحت أي عنصر من عناصر السرد. فلا هي مونولوج خالص، ولا وصف تام، ولا حوار فعلي، ولا سرد كامل.. إنها مزيج من الانفعالات التي لا تعدو عن كونها كتابة صحفية ليس إلَّا.

لقد حاولَ الكاتب أنْ يقول عن شخصيته الرئيسية (العزي) كل شيء: عن حياته وطفولته وكفاحه وخيباته في الحياة العملية والعاطفية بما لم يتجاوز المائة وعشرين صفحة، فجاء معظمها تداعياً ذاتياً أخلَّ بالسرد ونأى بالعمل عن فكرةٍ مُحدّدة.. وكان بالإمكان تلافي كل ذلك لو نحى منحى كُتَّاب السيرة الذاتية، وبالذات محمد شكري في (الخبز الحافي) الذي استشهدَ به في ثنايا هذا العمل. ولو فعلَ ذلك دون (رتوش) أو استعراض قراءاته الأدبية الأجنبية كما فعلَ شكري لأنتجَ لنا عملاً أدبياً خالداً هو الأوّل من نوعه على مستوى اليمن، خاصة وهو يُدرِك ذلك وأشار إليه في الفصل الأخير حين تحدث بما يشبه المقالة الصحفية عن حاجة اليمن لأعمال روائية راقية تستوعب الكثير من أحداثه.. ولديَّ اليقين أنَّه قادرٌ على ذلك إذا أخذ هذه الملاحظات بعين الاعتبار. فهو يمتلك زمام اللغة وإنْ لم يعرف من أين يأتيها كما هو حال شخصيته الرئيسية (العزي) في معرفة خبايا النساء وفشله في الوصول إليهن. كثرة اللجوء للأحاديث الذاتية المطعَّمة بالاستشهاد بقراءة الأعمال الأدبية العالمية تشي بتأزُّم (العزيّ) وإحساسه بالخيبة في واقعٍ مريرٍ لم يُحقِق له كل ما يصبو إليه رغم امتلاكه لثقافة وذهن أفضل من كثيرٍ ممن حالفَهم الحظ في الوصول إلى أماكن وظيفية ومجتمعية مرموقة ووضع اقتصادي ممتاز، كما هو حال زميله العسكري عبدالرحيم وإنْ بطُرق غير مشروعة. فالذي يشعر بالخيبات دائماً ما يلجأ للانفراد والحديث مع النفس ورثاء الذات التي كما قلنا هي مهيمنة هذا النص. ورغم تخبُّط الكاتب بين أسلوبي السرد والكتابة الصحفية إلَّا أنه نجح منذ الصفحة الخامسة والخمسين من امتطاء صهوة السرد والولوج إلى تقنياته الروائية التي يملك زمامها وإنْ تفلَّتَ عليه غالب الأحيان. ومن هناك أجاد كثيراً في سرد ووصف حياة القرية وأحلام فتاها الذي لم يحقق بعد ما يصبو إليه، وعادَ إليها وليس له من رصيد بعد دراسته الجامعية وكتاباته الصحفية المليئة بالإخفاقات سوى الحنين لطفولته القروية، التي وإنْ كانت مليئة بالإخفاقات العاطفية والعثرات المعيشية إلَّا أنَّها أنصع بياضاً وأكثر قرباً إلى قلبه من حياته الأدبية والصحفية في المدينة التي لم يمتلك فيها حتى غرفة تأويه وكان دائم الشجار مع المؤجرين لسبب أو لغير سبب.

الفصل الثامن يكاد يكون بالكامل عبارة عن تداعيات واستطرادات لا محلَ لها من الإعراب - إنْ صح القول – في سياق هذا العمل الذي يصح أن نقول عنه قصة. فما جاء في هذا الفصل لا صلةَ له بما قبله ولا بما بعده إلَّا النزر اليسير، ولو نزعناه لما حدث خلل ولما شعر القارئ بحذفه، بل العكس ما سيحصل، سيشعر المتلقي أنّ القصة ازدادتْ ترابطا. وهو نفس الخطأ الذي وقعَ فيه من قبلُ المنفلوطي في ترجمة وإعادة صياغة رواياته (الفضيلة - الشاعر- ماجدولين) حيث كان يستطرد بوصفٍ أدبيٍ محض يُعتبَر مقالة فنية أدبية بذاته ولا علاقة لها بأجواء السرد وتقنياته. الحوار الذي طغى على الفصل التاسع قوَّى مِن عُرى القصة وأظهرها بالشكل الأقرب إلى عالم السرد منها إلى عالم الكتابة الصحفية. حتى التناوب بين ضمير الـ(هو) وضمير الـ(أنا) الذي جاء على لسان شخصية القصة الرئيسية (العزي) حين تحدث عن أيام دراسته كان موفقاً للغاية. وليتَهُ نسجَ القصة بأكملها على هذه الشاكلة. 
*عذابات العزي:

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً