الخميس 28 نوفمبر 2024 آخر تحديث: الخميس 21 نوفمبر 2024
أهلاً رمضان .. - فاروق مريش
الساعة 12:00 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)


مع أول خيط أبيض تبين من الخيط الأسود ، وبعد ظلام دامس طويل ، هاهو فجرُ رمضان يقبلُ مرة أخرى ولكنه في هذه المرة ليس كضيف وإنما كنزيلٍ جديد في هذا الدار الذي يتقدم واجهة القرية .
السماء ترشُ الأرض بغزارة لتحيي فيها الأمل في وقتٍ أكثر ما كانت منتصف الثمانينات تحتاج إليه .. وآخرُ رشفة ماءٍ ارتشفها المؤذن للصلاة ليعلن للجميع كشرطي مرور التوقف فوراً عن السحور وعن كل شيء . كان الجميع منصاعاً للنداء ، فتركوا الصاع الذي كانت تقبع فيه لقيمات من فتة الدُّخن المفتوتة بالسكر وزيت السمسم ، إلا امرأةً واحدة في غرفتها في الطابق الأول ، تبدو متمردة على قوانين الصيام والإمساك وهي تصرخ بصرخاتٍ مضيئة تشبه صوت الرعد والبرق اللذان كانا في نفس اللحظة يباركان لها طفلها المتمرد والذي يستعد للخروج مبتسماً ولا زال كذلك إلى اليوم .

 

كان التقويم الذي لم يكن موجوداً في ثقافة المرحلة ، يشيرُ إلى يوم الجمعة في واحد رمضان الموافق لواحد حزيران أيضاً ، من ذلك اليوم والعام المليئين بدمع السحاب ورحمة الإله الفياضة بخير السماء والأرض .
منذ الصباح الباكر تزاحمت نساء القرية لرؤية هلال رمضان الذي انتهى لتوه من أول اغتسال ، كانت أحاديثهن ودخان بخور الجاوي وأصوات خوار الثور الذي في العريش أول شيء يستقبل بها هذا الصغير حياته ، وهناك في الغرفة المجاورة عمته فاطمة تمهض * الحليب الذي حلبته قبل قليل جدته فاطمة الحكيمة إلى داخل الجعنان * وتجهزه مع قرص ذمور كوجبة خفيفة للأم تستعين به لإرجاع نفسِها الذي كاد أن ينقطع قبل ساعات قليلة .
قالت الفضولية : " من بيبشر أبوه " ؟ 
قاطعها صوت أخرى : " وااا مِسك شُللي الحبوب التمر وكليهن " .
لم يتمالك الطفل الصغير نفسه من الفرح فأطلق عويلاً يريد حليباً بنكهة التمر . 
لم تكن تلك النسوة الطيبات يدركن أن الطفلَ سيروي ذات يومٍ قصة فضولهن وكرمهن وبساطتهن وروعتهن التي تشبه روعة تلك الأيام.
صوتٌ خافت ينطلق من عمته أظنها فاطمة بنت جده خال أبيه ، لكنها ليست عمته فاطمة الأولى التي كانت تجهز الحليب ، قالت : " إش سميتوه ؟ "
أجابت خالته زوجة عمه : " قالوا أيمن " .

 

سمع الطفلُ هذا الاسم فأطلق وابلاً من أنات الاستجداء أرجوكم بلا أيمن بلا أيسر ابحثوا لي عن اسم له دلالة التفرُّد بتفرد اللحظة .
لم تفهم أي منهن هذه الشفرة التي أطلقها الطفل ، فقالت جدته القادمة من الكُبكُبة : " مسكين يبكي شكله جيعان " . 
هنا تحركت فطرة هذا الكائن الجديد الذي لا زال منبهراً بوجوده في عالمه الجديد ، كانبهار بدوي يأوي خيمة أسكنته في ناطحة سحاب .
متسائلاً : أين الرجال ، هؤلاء مخلوقات لا يعجبهن الهواء النقي ، ولا يتركن مجالاً للخصوصية . قاطعت تساؤلاته تلك الفضولية : " وجدُّه من بشره ؟ "
- الأم : " قلص ماء وطفين البخور " .
روائح الشمس تتسلل عبر شاقوص الغرفة الخشبي المُطل على جبل القاهر ، فتمسح على وجه المولود لتمنحه السكينة وينام ، ومن يومها والطفل موقنٌ تماماً أن أشعة الشمس لها ريحة تمنح الجسد الراحة وتعطره بالنور . 
بدأت تمتمات الإتيكيت القروي بالانصراف ، ليتركن فرصة للأم لاحتضان وليدها الجديد والاعتناء به ، ودعتهن وهن يحجزن موعداً آخر للمساء وللقاء موسع جديد ينفردن بأول سهرة رمضانية . 
آخر الخارجات كانت تلك الفضولية التي لا يعرف الطفل اسمها إلى الآن ، لكنها هي كانت سبب أول ضحكة يطلقها المولود حين قالت : " ذلحين الأم و الجاهل عليهم صيام ولا لا ؟ " . 
أطلق الطفل أول دمعة ضاحكة قبل أن تجيب جدته الحكيمة : ( من يتألم ولم ينضج لا يصوم ) . 
الشعب يتألم اليوم ولم ينضج بعد ، فهل عليه صيام هذا العام ؟ 
( هكذا كتب المولود بعد حين ).

 

١/٦/٢٠١٦ 

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص