الاثنين 23 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
قراءة في المجموعة القصصية المحرقة"المحرقة ورؤى الجسد" - علي أحمد عبده قاسم
الساعة 12:01 (الرأي برس - أدب وثقافة)


القصة القصيرة اليمنية تفرض شكلها في المشهد الثقافي والإبداعي بقوة، ولها مبدعوها، وتتفاوت فيما بينها من حيث العمق والإتقان، لكنها تحولت إلى فضاء رحب لطرح الكثير من القضايا والرؤى.
والقصة النسوية اليمنية برزت فيها الكثير من المبدعات اليمنيات والكاتبات اللواتي أتقن هذا الفن، والذي تواءم هذا الشكل مع المرأة وقضاياها، فتحولت القصة القصيرة النسوية اليمنية فضاءً ومساحة رحبة وخصيبة تمكنت المرأة من طرح قضاياها وانشغالاتها وأفكارها ورؤاها وعلاقاتها بالمجتمع والثقافة والتمرد على الخيارات ولو حتى في السطور.

 

والقاصة انتصار السري واحدة من القاصات اللاتي لهن أسلوبهن الخاص، فقد صدر لها مجموعة بعنوان "الرقص على سمفونية الألم"، ومجموعة "المحرقة"، والأخيرة فازت بجائزة الشاعر الدكتور/ عبدالعزيز المقالح 2013، والمجموعة صدرت عن دار عبادي للطباعة والنشر عام 2013، ضمت المجموعة بين دفتيها ثلاثاً وثلاثين أقصوصة تناولت فيها قضايا متعددة تدور حول قضايا المرأة وعلاقاتها بالمجتمع والموروث وآمال وأحلام الأنثى، وهذه المجموعة لا تختلف عن قضايا القصة اليمنية النسوية عموماً فجميعها تخرج من مشكاة واحدة مع اختلاف التناول والأسلوب والنضج والإتقان.
 

في هذه القراءة سأتناول رؤى السرد كما في النصوص، وسأبدأ بقراءة العنوان.
المحرقة: إسم مكان احتراق النار وتعالي ألسنتها، والاحتراق التحرق للنار من أشياءٍ تتلف، والتحرق والاحتراق شدة النار، والتعرض لها وهي عكس التبرد والبرودة.
ومما سبق يلحظ أنّ الدلالات اللغوية تعكس إشارات أخرى:

 

• اسم المكان "المحرقة"، يشير إلى قسوة الحياة والتهامها للآمال والمطامح والعمر. 
• أن المكان والحياة بقسوتها ما هو إلا إتلاف ويأس يلف الآمال والأحلام.
• المحرقة واسم المكان، دلالة على استمرارية الاشتعال بإيقاد عالٍ لتسعير الروح بوصف الروح متطلعة دوماً للأمل ونادراً أو في أحيان قليلة يكسوها الإحباط، ومن ذلك كله إن المحرقة معادل رمزي للحياة بصورتها القاسية.

 

ولأن المجموعة تتناول المرأة وقضاياها وعالمها حتى يتأتى لها التأثير والفاعلية فإني في هذه القراءة سأتناول أولاً الحضور الطاغي للأشياء المرتبطة بالجسد بوصفها تعكس شيئاً من رؤى الأنثى عموماً والمرتكز الذي تناقش فيه المرأة قضاياها؛ ولأن الجسد هو الفاعل المحترق في المنتج الإبداعي النسوي، وتلك هي علامات سيميائية عميقة لها إشاراتها ودلالاتها في النص السردي، ففي "نص المحرقة" الذي هو عنوان المجموعة كلها يلحظ القارئ التلميح إلى خاتم الزواج الذهبي "نزعت من بنصر يدي قيد زواجي تأملته قليلاً، كان باهتاً ملّست عليه، عله يلمع كعهدي القديم لكنه أبى.. لا نبض فيه، دون تردد رميته إلى جوف المحرقة فعاد خفقان قلبي"، فكان الخاتم علامة سيميائية صادمة فتحول من الرباط المقدس القائم على تقديس إلى سجن ليس إلا، ورمزاً للرتابة والجمود والسواد، وكان الخاتم رمزاً للخروج، فكان قضية الجسد باحثة عن التجدد والحرية والفاعلية والكينونة الوجودية، خاصة وإن اللغة بتراكيبها "قيد زواجي، كان باهتاً، عله يلمع، عاد خفقان قلبي"، لذلك كأن الرموز ترعب بانفتاح وفتح آفاق للكينونة لتكون صاحبة الإرادة كما تريد لا كما يراد لها وهي هموم للمرأة تنشغل بها فكان الإحراق للأشياء إشارة لاستعادة الهوية بالذات، لذلك كانت قضية الزواج دون تحقيق الأمل بمثابة موت للهوية والكينونة والمشاعر لتطرح قضيتها مع الواقع الاجتماعي ونظرة المجتمع "الباب يفتح وإذا بشخص يتقدم نحوي يرتدي ثياباً ناصعة البياض وذو لحية بيضاء، يتوكأ على عصا، أتيت لأصحابك فلقد انتهى مقامك هنا" ص16. 
 

فالزواج ومن خلال النص يعكس نظرة المجتمع للمرأة لذلك النص ليبحث عن التحول والفاعلية والغنى والانشغال المتحرر بكينونة لها تأثيرها وقدرها الإنساني الكوني ليتأتى التغير الاجتماعي ترسمه القدرات الخلاقة في المجتمع والكون ويتحول الجسد من مقموع إلى متحرر فاعل ومن جسم يُمتلك إلى جسد له رؤيته في الحياة الاجتماعي وله الخيارات التي يستحق الوقوف أمامها ليتحقق السكينة والاستقرار.
 

وإذا ما تأمل القارئ الباب فإنه علامة رمزية لانفتاح الحياة، ولكن بالفكر المجتمعي الأبوي المهيمن، لذلك يرسم صورة من التعسف الاجتماعي "ذو لحية بيضاء يتوكأ على عصا" لتكشف عن الواقع الثقافي والاجتماعي الذي ترزح تحت وطأته، فإذا كان "الباب" ملفوظ لساني إلا تجاوز إلى دلالات رمزية إلى الانطلاق والخروج وممارسة لكنه لم يكن الباب المأمول، بل قهري تعسفي ليتحول الزواج إلى تجرد من الروح "في المنزل كان جسدك حاضراً وتجردت أنا من صرت آلة طبخ وغسل و…" ص19.
 

فكانت الرؤية كاشفة للعلاقات الاجتماعية وعدم قدرتها التأثير بواقع يبدو كالعبودية لترغب الأنثى في خلق علاقات تملأ الحياة وجوداً وتأثيراً وترسل رؤية أن الحياة تستحق الممارسة بواسطة الحب والتوافق الذي يملأ الروح تألقاً وعطاءً لذلك كانت صورة الزواج في النصوص صورة متكررة للرتابة والجمود بعيدة، فتحول البيت إلى سجن وأعباء ومعاناة. 
 

ولأن الزواج وممارسة الحياة حلم كل أنثى وله رؤى متباينة في السرد إلا أنه يصور مشاعر الأنثى العميقة "تمهلت خطواتي، تعثرت بذيل فستاني، ساقي تخوران عن التقدم على لسان الممر الذي لا ينتهي مئات العيون تحملق فيَّ، فهامت تحدق بفرح وأخرى بحسد وأخريات يحلمن بالوقوف مكاني" ص21.
 

مما سبق يلحظ المتلقي تصوير الإرادات القدرية التي لا تستطيع الأنثى اتخاذ القرار فيها لتصور نوعية حياتها، فمن خلال السرد نكتشف "تمهلت، تعثرت بذيل الفستان، تخوران" مما يدل على عدم الرضا بالزواج والفستان لتكوين صورة عن قضية المرأة الاجتماعية والقيم والتقاليد الموروثة وتعكس الحرمان والتوق للالتصاق بالحياة الحلم وكل الدلالات تعطي دلالات التنقيب عن المستور المخبوء الذي تكتمل الحياة كي تتلاءم مع الروح وما هو مرسوم بالأعماق "بجوار الكوشة تجمعت عذروات عائلتي يلوحن بأيديهن ويحطن بي يرقصن حولي" ص21.
 

فإذا كانت الكوشة علامة وإشارة سيميائية تعطي دلالات التتويج والسبق ونفض العزوبية والارتباط المقدس فإنها أشارت للعالم الداخلي للمرأة في البحث عن الخصوبة والفرار من العقم للحلم والحياة ليتجلى الحاجة للانتقال إلى عالم الاستقرار وعالم المرأة النفسي والجسدي بالحاجة للارتباط الذي يتواءم مع الحياة، لذلك كان المكوث بجوار الكوشة له دلالات نفسية، وحظوة اجتماعية، وتميز مسبوق في صيرورة حياة المرأة عموماً. 
 

فكأن النص يسرد الانتهاكات المختلفة لإرادات المرأة ولجسدها، سواءً كان من الأسرة أو المجتمع أو الزوج فإن الانتهاكات والاستغلال من المجتمع يأتي بصورة مدمرة وبشعة، والنص يصور التحرش الاجتماعي المدمر الذي يعطل الكينونة والتأثير الفاعل وتصور الاعتداءات الشاذة من المجتمع محاولاً خلق نوع من التمرد ومعالجة الصورة ليتأتى الاستقرار النفسي والجسدي.
"استيقظت لتجد نفسها عارية على سرير ملطخ بالدماء، ثيابها ممزقة ومبعثرة على أرضية الغرفة، كاسات وقوارير بيرة فارغة، فوضى عارمة في أرجاء الغرفة تدل على بقايا حفلة تتحسس جسدها، آثار الجروح والألم في أجزاء منه تؤكد أنه المحتفل به" ص27.

 

فإذا كان السرير علامة الاستقرار والسكينة إلا أنه تحول إلى صورة للاغتصاب والتدمير وتحول الجسد من علامة للملكية ذات الخصوص والخصوص جداً إلى مستلب ومشاع بفعل الفوضى والانحراف الاجتماعي ليعكس النص رسالة أن المعاناة تأتي من النظرة للمرأة كجسد ومتعة حتى يتأتى للمضمون التمرد وكبح الانتهاكات الاجتماعية المدمرة مما يفضي إلى عدم خصوصية الجسد وخصوصية الخيارات مما يعرقل الولوج إلى عالم الأمومة من بوابة الروح والجسد وهذه بعض الرؤى التي يطرحها النص لانتزاع الحرية والحقوق لتخلق حياة مستقرة ومجتمع له قيم متجددة تحترم إنسانية المرأة، وبذلك يتحول المجتمع إلى مجتمع إنساني مؤنس غير متوحش وحتى يتحقق التوازن السردي في طرح الرؤى فإن النص صور المرأة الانهزامية بأنها ذلك الجسد المرسوم بصورة الضياع بوصف ذلك مصادرة للحقوق الروحية والعاطفية ولأن العلاقة بالجسد تحولت إلى علاقة منفصمة وغير خلاقة ومصادرة الكينونة والفاعلية والتأثير. 
 

لذلك رسمت النصوص صورة المرأة المتصفة بذلك بصورة خارجة عن القيم والهوية وتائهة في الغواية وغير متصالحة مع الذات والأحلام.. 
"أنظري إلى هذه العباية.. إنها نفس قياساتك… ستكون رائعة عليك، جربيها هنا، وإذا أردت فلدينا غرفة قياس..
حقاً.. أين هي؟
ابتسم، وأشارت غمزته إلى المرآة
هنا خلف المرآة" ص39.

 

ومن ذلك، فإن الجسد تحول من مرتكز للشعور بالذات والتقدير له ومحل تقدير من الأنثى إلى مرتكز للضياع والغواية ويتحول إلى صورة غير متراضية مع الذات وبدلاً من أن يكون الجسد محل أسرار روحية عميقة تحول إلى آلة حسية مسكونة بالضياع والانهزام والغواية وتحولت العلاقة العاطفية إلى علاقة خارجة عن القيم والحتميات الاجتماعية ليعبر النص بحيادية عن الصورة النادرة للمرأة وحتى العباية التي هي رمز الحشمة والاستتار تحولت إلى رمز للغواية والإثارة. 
"عيناه تلتهم جسدها المدور في عباءتها الملتصقة بالجسد.. جعلته يعيد قياس الصدر أكثر من.. خلعت ثوب الحياء عنها، كلا أريدها أضيق" ص39.

 

ولأن النص يسرد العلاقة ما بين الرجل والمرأة فإن النص من رؤيته يبحث عن الدفء والمصداقية للولوج إلى عالم من الطهارة والاستقرار ليكون جسد المرأة والرجل خلقاً من الإثارة المقدسة التي تتسم بالوفاء لترسم لوحات من الثراء العاطفي الخلاق المتوهج بالخصوبة والأحلام لتتحقق الرعاية والاهتمام من الطرفين لبعضهما، مما ترتب رسم العلاقة المراوغة بالرجل التي تتوهج لأي جسد وتنتفي مشاعر الحب والإخلاص "يضع النادل المشروب أمامه لا يشعر به، كفاه لا تزلان تحتضنان كفي، صارتا كقطعتي ثلج سحبت يدي، سقطت يده على المشروب الساخن".
فكـانت قطع الثلج معادل رمزي لبرود حياة المرأة وبرود العلاقة مع الرجل القائمة على الزيف وعدم المصداقية و"سقوط يده على المشروب الساخن" إشارة رمزية لانتفاء مشاعر الحب ورسم علاقات المراوغة وتلاشي القداسة من تلك العلاقة.

 

من القراءة السابقة يمكن أن نلخص لما يلي: 
• النص يبحث عن التجدد والتوهج مع الحياة والمجتمع.
• التمرد والرفض في النص يشير إلى استعادة الهوية والكينونة.
• تمركز حول قضايا متعددة منها "الزواج" فكان التمرد على الزواج يعكس دلالات البحث عن مصداقية العلاقة وحرارة العلاقات الحياتية.
• الحياة التي تستحق الممارسة هي الحياة القائمة على الحب واكتشاف عوالم وأسرار الجسد الطاهر.
• لا تتأتى الخصوبة والاستقرار تقدير كل أطراف العلاقة لكينونة الأنثى.
• الزواج حلم كل أنثى، لكن تختلف رؤية كل أنثى له حسب بيئتها وثقافتها.
• تمرد السلطة الاجتماعية بوصفه يصادر مساحات واسعة من حقوقها.
• رسم النص صورة المرأة الخطيئة بحيادية ليرسم صورة للاستسلام والانهزامية.
• كانت علاقة الرجل بالمرأة علاقة مضطربة خالية من الدفء والتوهج محاطة بالزيف والبرود والإهمال.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً