الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
"حضور الغياب".. بين المختارات والنص المفتوح - منير عتيبة
الساعة 12:52 (الرأي برس - أدب وثقافة)

 


"حضور الغياب" هو الكتاب الأول للباحث والناقد د.مدحت عيسى الذى يقدمه من منطقة جديدة عليه تتماس مع النص السردى وفن المختارات فى تجربة جديدة. صدر الكتاب عن دار ليليت للنشر والتوزيع بالإسكندرية عام 2016. 

التضاد فى العنوان، حضور الغياب، يفيد تضاد الحالات التى يمر بها العاشق ومشاعره حتى فى اللحظة الواحدة، ويعلى من شأن الغياب ،فالعشق عمل جوانى سرى، لكنه حاضر، فيجعل الكفة الراجحة فى العنوان للغياب وإن يأتى هو الكلمة الثانية فى تركيب المضاف والمضاف إليه. 

وحضور الغياب هو عنوان أحد فصول الكتاب، وهو أيضا الحالة التى يمكن أن تجمع بقية الحالات فى إطارها، أوالتى يمكن أن يكون بينها وبين بقية الحالات تماسات ما.

العنوان الفرعى (تأملات فى العشق) يلقى الضوء بالتخصيص على مطلق الحضور والغياب فى العنوان الرئيس بأنه حضور وغياب يخص منطقة العشق، ويوضح آلية عمل الكاتب فى هذه المنطقة بالاتكاء على التأملات فى موضوع العشق، والتأملات عقلانية أكثر منها وجدانية، وهو ما يشي بأن الكاتب سيخضع ما هو وجدانى (العشق) لما هو عقلانى (التأمل) لكى يفهمه أو يوضحه أو يقترب منه إلخ.

لا يشتمل الكتاب على إهداء، لأن الإهداء بطبيعته إما أن يكون شخصيا يخص الكاتب والمهدى إليه، أو يكون موجِهًا للقارئ بشكل أو بآخر، وقد حرص الكاتب على نفى الشخصانية حتى لا يخص الكتاب أحدا، ويخص كل أحد، وحرص على عدم توجيه القارئ مكتفيا بما سيشرحه فى مقدمة الكتاب.

وقد أكدت المقدمة ما أوحى به العنوان الفرعى، حيث يبدأ الكاتب بالإشارة إلى أشهر الكتب التى تتناول العشق وأحوال العشاق، ثم يتحدث عن (منهج) الكتاب، حيث ينقسم إلى قسمين، الأول يدخل فى باب التأليف وهو ما كتبه مؤلف الكتاب بنفسه ليصف حالات العشاق، ولم يرد أن يرتبها ترتيبا منطقيا كما يقتضى البحث، بل ترك هذه (الحالات العشقية مضطربة الترتيب كاضطراب العاشق فى جل أحواله) ص6. 

وهذا القسم وجدانى أدبى يقترب من القص بشكل أو بآخر وإن لم يكن قصا فى المطلق(فلن يتساهل الناقد مع نفسه بإطلاق مسمى قصص على كتاب يعرف علميا أن ما به ليس قصة قصيرة بالمعنى الدقيق).

أما القسم الثانى فهو المختارات التى اختارها الكاتب لكل حالة من هذه الحالات العشقية، وقد راعى أن تكون المختارات فى أغلبها نثرية وليست شعرية، ليتناغم الأسلوب الذى كتب به الحالات العشقية مع أسلوب المختارات، لكنه من حيث الموضوع حرص على التنويع فى المختارات فلم تكن دائما متوافقة مع الحالة العشقية بل مثلت هذه النصوص بالنسبة له (تلقائية الاستجابة العاطفية والإطار الأدبى المتفاعل مع الحالات بالتفسير، أو بالقبول، أو بالاختلاف)ص6. 

والمختارات فن عربى قديم، مارسه الكثيرون، ولعل أشهر أعمال المختارات الشعرية (ديوان الحماسة) لأبى تمام، وفى العصر الحديث هناك الكثير من المختارات منها (أحلى عشرين قصيدة فى العشق الإلهى) لفاروق شوشة على سبيل المثال، وقد كانت المختارات فى الغالب شعرية، لذلك حرص الكاتب هنا على أن تكون معظم مختاراته نثرية. 

ولأن الكاتب قدم حالات القسم الأول كطرح أدبى، فقد حرص على أن تكون مختاراته أدبية فى المقام الأول فلم يتطرق إلى أقوال الفلاسفة وعلماء النفس والاجتماع فى موضوع العشق. 

ولابد أن أشير هناأن التقسيم إلى القسم الأول والثانى فى كلامى هنا قد لا يكون دقيقا تماما، بل الأفضل أن نقول القسم الأعلى والتالى، لأن الأول والثانى توحى بقسمين منفصلين، لكن الكاتب قسم فصول الكتاب بحيث يبدأ كل قسم بحالة عشقية تليها مختارات هذه الحالة، وكأنها صدر وعجز البيت الشعرى.

يقدم الكاتب 27 حالة عشقية معظمها مفتوح النهايات ليمنح القارئ فرصة المشاركة فى التفاعل وإنتاج النص الذى ليس قصة بالضرورة ولكنه سرد أقرب إلى البوح أو الفضفضة، والحالات مكتوبة بلغة تجمع بين تقنية التكثيف كسرد ووصف الحالة كبحث، وتتكئ الحالات على المشاعر الرومانسية غالبا التى تفجرها أفكار العاشق أو الأحداث اليومية فى سرد بسيط لا يدعى التعقيد، ولا يدعى الكاتب أن ال27 حالة هى كل الحالات العشقية الممكنة، لكنها كل الحالات التى استطاع رصدها ومعايشتها ساردًا هذه الحالات.

وبداية من أول حالة عشقية (بين الصمت والبوح) سيكون علينا أن نفصل بين الكاتب والسارد، فالكاتب الذى وضع عنوان الكتاب ومخططه وأسلوب العمل فيه وكتب مقدمته، يترك مساحة السرد لسارد آخر هو من عايش وعانى الحالات العشقية، والسارد يروى جميع الحالات بضمير المتكلم بصفته ساردًا مشاركًا، ويقوم الكاتب بمتابعة هذه الحالات بالتعليق عليها من خلال المختارات التى عنى الكاتب باختيارها بينما يعانى (فرحًا وألمًا) السارد بمعايشتها.

وإذا قرأنا عناوين هذه الحالات متتابعة فإنها يمكن بتجاورها فقط أن ترسم صورة بانورامية لحالات العشق التى عاشها السارد (بين الصمت والبوح.. صورة غائمة.. انتظار.. لغة أخرى.. ألق.. حضور الغياب.. الطيف.. وآويت إلىَّ.. أما بعد.. طقوس.. من أول السطر.. لا بد منها.. الهدية.. ظلال البعيدة.. التورط.. النافذة.. فى الحب شيئ من كل شيئ.. الأفعال تتحدث بصوت أعلى.. قلق دائم.. الجسد.. الرفيق.. الرسول.. تفاصيل.. غضب.. الوصايا.. وانفرط انسجام الكون.. تماثل).

فلم يترك الكاتب الأمر للصدفة فى ترتيب الحالات كما اعترف فى المقدمة، فهو على الأقل تعمد وضع الحالة الأولى التى تصف التردد بين الصمت وكتمان الحب وبين البوح بالمشاعر، والحالة الأخيرة التى هى مآل المرور فى كل الحالات العشقية المتناقضة وهى حالة التماثل بين الحبيبين. ونلاحظ أن معظم عناوين الحالات من كلمة واحدة غير معرفة، أو من مضاف ومضاف إليه، عناوين قليلة هى التى جاءت فى جملة كاملة، لكن الكلمات المفردة المعرفة وغير المعرفة، والمضاف والمضاف إليه، والعناوين الجمل، كلها تشير إلى عموميات ولا تحدد معنى واحدًا أو معانى واضحة يمكن أن نعرفها من العنوان فقط، إذ العنوان مجرد مفتاح إشارى لن يفهمه القارئ ولن يتمثله إلا إذ فتح الباب وولج بكله إلى الحالة العشقية فتمثل ساردها فى نفسه.

ويختم الكاتب كتابه بقائمة المصادر التى استقى منها المختارات النثرية والشعرية المناسبة لحالاته العشقية، وهو هنا يمثل أنبل ما فى فكرة المختارات، فأساس هذه الفكرة هى الإعجاب بشئ، والسعادة به، ثم الرغبة فى نشر هذا الإعجاب وتلك السعادة لتشمل أكبر عدد من الناس، لذلك يفتح الكاتب الباب على مصراعيه لمن أراد أن يشاركوه إعجابه وسعادته ليتعاملوا مع المصادر نفسها، فكأنه أعطاهم شربة ماء، ودلهم فى الوقت نفسه على طريق النهر.

يمكن أن تقرأ هذا الكتاب بطريقتين، الطريقة الأولى فصلا فصلا، تقرأ الحالة العشقية ثم مختاراتها، الطريقة الثانية تقرأ الحالات العشقية متسلسلة وحدها، ثم تقرأ المختارت وحدها، وستصل بك كلا الطريقتين إلى النتيجة نفسها، الأديب مدحت عيسى عندما قدم كتابه الأول وبه نصوص سردية أقرب إلى فن القص فإنه صاغها بيدين، يد الأديب ويد الباحث معا، ثم تردد أن يقدمها للقارئ ليحكم عليها وهو الذى طالما حكم على أعمال المبدعين، وهى جديرة بأن تقدم للقارئ منفردة كنصوص سردية بدون تجنيس..

لكن المبدع احتمى بالباحث فقدمها مع المختارات التى اتكأ فيها الباحث على آخرين لا يمكن ألا يرضى القارئ عن معظمهم إن لم يرض عنهم جميعا، محمود درويش ومصطفى صادق الرافعى وصلاح عبد الصبور ونزار قبانى والعقاد والسراج وابن حزم وابن قيم الجوزية وداود الأنطاكى وأحمد عبد المعطى حجازى وجبران وغيرهم، حتى إذا لم يستقبل القارئ السرد الاستقبال الذى يليق به وجد على الأقل ما يرضيه فى المختارات، وتلك المختارات تشير إلى الذوق الراقى فى الانتقاء من حيث تذوق اللغة والفكرة معا، وأتمنى ألا يخشى السارد فى الكتاب القادم قارئه ولا يحتمى بالباحث فى مواجهته.

 

منقولة من بوابة الأهرام ...

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً