الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
أنيس الرافعي قاص على الناصية الأخرى - علي أزحاف
الساعة 15:41 (الرأي برس - أدب وثقافة)




    ليس غريبا عن القاص المغربي أنيس الرافعي أن يظل واقفا بأقدام راسخة على أرض اختياراته الفنية والجمالية، وفيا لمنهجه المتميز والمختلف في صوغ متن حكائي وقصصي موسوم بطابع التجريب والممانعة، هو الذي عانى الأمرين في بدايات تجربته. إذ قوبلت نصوصه بنوع من الجحود النقدي، كما يقابل ابن غير شرعي في مجتمع محافظ مهووس بالأنساب المسندة. فلقد رأى فيها بعض سدنة الهيكل ومشايخ طرق السرد المغربي ضربا من الجنوح المسكون بميل جارف وإرادة مبيتة لخلخلة الأساليب التقليدية للسرد القصصي، واعتبرت نصوصه بدعة مستحدثة تخرب ولا تجرب، وهدما مقصودا لأعمدة القصة وبنياتها المتوارثة، وخروجا بالنص المعتمد في طبعته المحلية من تشكلاته الدلالية المتعارف عليها إلى أشكال تقنية تمجد الشكل وتضحي بالحكاية والمضمون، وهو  طبعا كلام مردود يراد به باطل.
 

 

    لكن أنيس الرافعي  في زهده الصوفي اختار لنفسه أن يكون ” حجرا بعيدا في تلة المقام، لا حجرا في ضريح شيخ الطريقة ” . وبإصرار من يمتلك القدرة على تحدي المألوف والاجتهاد في خلق عوالمه الخاصة، استمر في نسج أضموماته القصصية المتميزة المفتوحة على احتمالات الدهشة والمغامرة. حتى وإن اضطر أن يختار لنصوصه منفى أدبيا خارج الوطن، لتجد لها أحضانا مرحبة في دور نشر عربية محترمة، وتعود إلينا في طبعات عديدة وأنيقة ليتعرف عليها القارئ المغربي العادي والمتخصص، و تستقبل بفضول فيه توق ورغبة.
 

  وكأن القاص أنيس الرافعي كان مضطرا أن يعمد قصصه الضالة في مياه الشرق المباركة كي تحظى باعتراف كهنة وحراس بوابات معابد القص المقدس  في بلدنا الأمين.
 

  في قصص الرافعي جنوح ومغامرة لخلق عوالم غريبة، تقف بك  بين ما هو كائن وما هو محتمل في المسافة الفاصلة بين الواقعي والمتخيل، أو تضعك في مساحة زمنية ملتبسة في منطقة ” اليوم الزائد بين الاثنين والثلاثاء” . تلك ” المنطقة الأكثر شفافية “، التي قد تعميك أحيانا، حيث تتشكل حكايات غرائبية ومرعبة، تتراقص في دهاليزها  الشخوص مثل ظلال أفلاطونية تقتفي آثار نفسها وتبحث في مرايا سحرية عن الشبيه والقرين.  تتحرك ضمن أنساق دلالية يستحدثها الكاتب انطلاقا من تشعبات  مشاربه الثقافية وإحالاته الرمزية المتعددة والغنية بمرجعيات تتجاور فيها الأشكال والمعارف وتتجاوز نفسها أحيانا ( سينما، فن تشكيلي، تصوير فوتوغرافي، تراث شعبي، عمارة، موسيقى، طقوس اجتماعية…) ينفتح فيها الكاتب على حقول معرفية  تسكن إلى بعضها لإنتاج المعنى وتضمينه، في نصوص، رغم إيغالها الملحاح في البحث عن سبل جديدة لصوغ المتون وتقديمها إلى القارئ،  إلا أنها لا تضحي بالحكاية كما يذهب البعض في شطحاته النقدية. فالحكاية حاضرة في نصوص أنيس، لكنها تلبس لبوسا جديدا وأقنعة سوريالية عصية على المتلقي العادي، إذا لم يكن مسلحا بترسانة من الخلفيات الثقافية في تنوعها الشهي. وكيف لا تكون الحكاية حاضرة في نصوص كاتب تشرب الحكي من منابعه  الأصيلة ( جامع الفنا، التراث السردي العربي والعالمي، والسينما …).
 

 

  أنيس الرافعي كاتب مولع بتدمير الأشكال السردية المتقادمة، لكنه تدمير غائي يتوخى من ورائه بناء أشكال جديدة  وأساليب حكي لا تشبه سوى نفسها، وغالبا ما نجد السارد في نصوصه يلتجئ إلى ما يمكن أن نسميه ﺒ” الميتاقص “، فيضع بعض المفاتيح التي تأتي كحواش معرفية أوملحقات بصرية بين أيدي القارئ، ليساعده على عملية تفكيك النصوص و فهمها، أو ليضع قدمه على العتبة الأولى  للدخول إلى  مدارجها الرحبة،  الدخول من أبواب قد تكون أحيانا أبوابا  خلفية وخاطئة. هي إذن كتابة واعية بنفسها تؤسس لاختيار جمالي وتقني  مختلف. هو ليس تدميرا من أجل التدمير، فالتدمير عند أنيس الرافعي يشبه ما يفعله نحات مهووس بالتعدد اللامتناهي للأشكال الهندسية مع صخرة عادية حين يعمل فيها إزميله ليخلق منها تمثالا  أو تحفة فنية تبهر و تدهش  حتى وإن  كانت موغلة  في أقاص يتقاطع فيها الواقعي والغرائبي والعجيب.
 

 

  قصص أنيس الرافعي هي ” الشارع الخلفي لمدينة جسده الفارغة “، أوهي ” ارتياده المتكرر لدهاليز صموتاته الداخلية ” كما يحلو له أن يعبر عن تجربته .هي أيضا عين ثاقبة تقتنص اللحظات والحالات النفسية بكاميرا غير مرئية عاكسة لتشوهات وأورام واقع ينزلق نحو وحدة قاتلة، لكن بلغة تصويرية مشعرنة تكسوها ليونة مريحة حينا وقساوة مستفزة أحيانا أخرى. هي لغة تمزج بين ما هو عادي في تفرده، لكنه

 

عجأبي في أنسيابه داخل السياق العام للنص القصصي، يتعانق فيها الحسي والمجرد، وترفل بزهو في انزياحاتها الباذخة.  لغة للجديد فيها لذة وللقديم شوق.

  أنيس الرافعي كاتب” أقلية أدبية ” مسكون ببعد إنساني شاهق، يترجمه قصصا وحكايات خارجة عن التصنيف، أو كما قال في إحدى اشراقاته المضيئة، هو ” كاتب قادم من أمريكا اللاتينية ” مدجج بأسلحة سرية لا يملك فك مغاليقها إلا من سلم نفسه  لقيادة دليل غامض استعار لرأسه قبعة كافكا،  أو تلفع بمعطف غوغول . هو نفسه الرجل ” حامل المظلة “، الدليل الذي يدعوك على حين غفلة لنزهة صباحية بين أحراش ” غابة معتقلة في زجاجة”، أو لزيارة ” مصحة ” مسكونة بدمى وشخوص خارجة من كوابيس هيتشكوكية تروي حكايا وتصنع عوالمها ومصائرها الخاصة، وحين تتعب من التجوال في غرائبية أجنحة ” المصحة متعددة الاختصاصات ” ، ينزل بك إلى” الشركة المغربية لنقل الأموات” ويركبك حافلة سحرية تتجول بك في المعابر السرية لمدن عجيبة وحكايات غريبة، وقد يقف بك لتتأمل قليلا فسيفساء  و بساتين حديقة ماجوريل، فلا تتعجب إذا ما قابلت في مدخل الحديقة امرأة شاردة العقل تفكر في ما تصنعه بساقها الثالثة، وربما عرج بك إلى  ساحة جامع لفنا ، حيث ” الحكايات فقط ما سيستمر في هذه الساحة إلى الأبد “. فلا تبدي استغرابا وأنت ترى بورخيس متأبطا ذراع جورج أورويل في مسيرة متأنية وراء جنازة يطن حولها الذباب، أو تصادف تشرشل متنكرا في لباس العامة، مثل قرينه هارون الرشيد يسعى في الأسواق بين الناس، دون أن تتعرف عليه عين رقيبة في بحث قلق عن الجزء الضائع من لوحته غير المكتملة، أو يبدو لك  إلياس كانيتي محدقا في تقاسيم جدران وممرات أزقة المدينة القديمة. وحين تجنح بك الدهشة، يقف بك الدليل، ينزع قبعته التخفي، أمام صرح بنائي مشغولة جدرانه بمنمنمات فارسية وعربية، على مدخله تصطف شخوص، وكائنات هلامية مطموسة الوجوه مجردة من ظلالها، ودمى مشوهة الأجساد والمصير، في انتظار  ميقات انفتاح باب كبيرة، مكتوب فوقها بخط كوفي جميل : هنا ” متحف العاهات “.
 

 

( قاص وشاعر مغربي )

منقولة من الموجة الثقافية ...

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً