الخميس 28 نوفمبر 2024 آخر تحديث: الخميس 21 نوفمبر 2024
الطفل و"كائن من كان" - محمد أحمد عثمان
الساعة 13:08 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 

 

 

العاشرة صباحا. ولم أكن قد تناولت إفطاري بعد. انسحبت من صالة المطالعة التابعة للمركز الثقافي الفرنسي حيث كنت عاكفا حتى اللحظة على كتاب، وذلك من باب التظاهر بأن حياتي لم تخلٌ من المعنى بعد، إلى "مقهاية الشيباني"، في "شارع حدة"، بالقرب من "تقاطع الرويشان"، وعلى مبعدة مائتي خطوة تقريبا من المركز...                                                                  
                                                              
لدى عودتي. وكانت عبر شارع مقفر يتفرع من الركن حيث تقع البوفيه، استوقفني هذا المشهد: طفل يستلقي على ظهره في ظل جدار متاخم، بينما يجثو إلى جواره كهل وينحني عليه متفوها بكلمات ما كان لي أن اسمعها من على هذا البعد. وبمجرد ذلك، لا أدري لماذا، اللهم بدواعي ما تتداوله الصحف من وقت إلى أخر من أخبار عن اختطافات تطال أطفالٍ، انتابني الشعور بأن الطفل في مأزق: تعرض للاختطاف هو الآخر. وها هو ذا، بعيدا عن الأنظار، بين يدي المختطف ويتعرض للتهديد!
 بردة فعل لا شعورية، لا تخلو من الحذر مع ذلك، رحت أدنو منهما إلى الحد الذي معه سيتبين لي لا صدقية شكوكي: هذان الآدميان اعرفهما! أنهما طفل وأباه، أو طفل وأخاه الأكبر، أو طفل وقريبه... أو أيا ما تكون الرابطة بينهما، فما هو ملاحظ أن مصيريهما يرتبطان ببعضهما بطريقة لا يتصور معها لأحدهما وجودا دون الآخر! تشهد على ذلك أرصفة "شارع حدة" حيث تكررت، على مدار سنوات، مشاهدتي لهما وهما يفترشان بساطهما غير السحري. وفي كل مشاهدة، كان احدهما، الطفل، يتخذ وضعية الاستلقاء على ظهره بينما الآخر، أباه أو أخاه أو كائن من كان، يجلس القرفصاء إلى جواره، بنظرات متوهجة، ينقض على القطع النقدية التي يلقيها عابرون عند قدمي الطفل قبل أن يسارع إلى دسها في جيوبه. وذلك أن الطفل معاق، أحد أولئك الذين تستعملهم عائلاتهم المعدمة في التسول، وبملامح ملتبسة تحول دون  تخمين عمره الحقيقي. إذ يمتزج في هذا الوجه، وذلك على غرار وجوه كل المرضى الأزليين، وجهان على الأقل، احدهما لطفل والأخر لشيخ فلا نفرق أيهما ينتمي إلى الطفل وأيهما الدخيل. وإذا كانا، في هذه اللحظة -الطفل وكائن من كان- يتواجدان في هذه الناحية الداخلية والمقفرة من الحي، فمرد ذلك على الأرجح ما ألم بوجه الطفل من حدقتين تخبوان في محجريهما مع كل دفقة قيء، ومن بياض لا حمرة ولا صفرة ولا خضرة فيه. دفعا ب"كائن من كان" إلى إحضاره إلى هنا حيث يسعه، بعيدا عن زحام الشارع الرئيسي، الاعتناء به بطريقته الخاصة التي تتكون، كما يتراءى لي، من تحدب رؤوم على الظهر مضافا إليه قبضة مناديل ورقية يجفف بها "كائن من كان" القيء البلا لون الذي يتدفق تحت عنايته الخاصة التي لا تخلو من حنو مضطرب لا يُعرف على وجه التحديد مصدره أين: عاطفة أبوية، أخوية، عاطفة قرابة وثيقة أم بعيدة، أم أن الأمر برمته لا يعدو كونه من قبيل العناية التي يوليها بائع المجوهرات بواجهة دكانته الزجاجية، بما أنها، الدكانة، هي مصدر رزقه الوحيد؟!! وكان هذا التساؤل هو كل ما استطعت القيام به إزاء البؤس الماثل أمامي، إذا ما استثنينا طبعا وقوفي المتذبذب على بعد خطوات منه ومتابعتي ما يدور ببلاهة من فقد القدرة على الإتيان بأية مساعدة!!

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص