الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
سهير شكرى.. امرأة تطل من النافذة - منير عتيبة
الساعة 15:35 (الرأي برس - أدب وثقافة)


عندما يصيبنى الإحساس باليأس واللاجدوى وبأن الحياة انتهت، وأنه لا معنى لأى شيء أفعله، ويضرب رأسى السؤال: ما أهمية الاستمرار؟ وأميل إلى الخمود والركود والاستسلام لشرنقة الملل واللافعل.. أتذكر سهير شكرى فأتخلص من كل ذلك.

سهير شكرى تقدم لك بحياتها وأدبها ما يجعلك تلقى بمقولة (موت المؤلف) بعيدا غير مأسوف عليها، فسهير شكرى مؤلف لم يمت، بل يؤلف ليعيش وليعط الآخرين أسبابا للعيش أيضا.

بدأت سهير شكرى الكتابة السردية منذ عام 2009، فأنتجت رواية (كفر السحلية) وخمس مجموعات قصصية (ومازلت أنام جالسة- أحلام الأفق الغائم- إلا الآن- بهجة مراوغة- امرأة لا تطل من النافذة) وكانت قبلها قد تفرغت للفن التشكيلى لمدة ثلاثة أعوام من2006 إلى 2009 حيث شاركت فى العديد من معارض الفن التشكيلى، أما عام 2003 فهو عام مهم جدا فى حياة سهير شكرى لأنه عام خروجها إلى المعاش.. إلى الحياة!

قرأت كل ما كتبته سهير شكرى، وتابعت حركتها فى الحياة الثقافية، امرأة لا تركن إلى ما أوتيت من موهبة فقط، بل تقرأ وتناقش وتتعلم وتجود، لتنتقل قصصها من الحدوته إلى اللعب بالتقنية القصصية، ومن سرد الواقع اليومى كما هو إلى الغوص فى أعماق المشاعر الإنسانية فى تفاعلها مع هذا الواقع لتنتج فنا متميزا يمس وجدان القارئ وعقله ويمتع ذائقته الفنية.

طلبت من سهير شكرى أن تكتب قصتها فى عمل سردى ولا أدرى لماذا تتردد، فهى بطبيعتها شجاعة، لها رأى دائما، وتعبر عن هذا الرأى، تتواصل فى كل المحافل الثقافية بالإسكندرية، وتتواصل مع مثقفى باقى محافظات مصر بل والوطن العربى، هذه السيدة ترملت وهى فى الأربعين من عمرها، ولم يكن الترمل هو المأساة بل سنوات ما قبله، حيث مرض الزوج بمرض خبيث، وولادة ابن ضعيف المناعة، فكانت تعيش فى محافظة كفر الشيخ، وتعمل فى المحلة، وزوجها مريض بمستشفى بالقاهرة، كانت حياتها مقسمة بين هذه الأماكن الثلاثة، ولم تستطع أن تكون كإيزيس التى تجمع أشلاء أوزوريس، ففقدت الزوج، وبعده بقليل الابن، فعاشت لابنتها الوحيدة وعملها، وبمجرد خروجها إلى المعاش عادت إلى الإسكندرية وكأنها تعود إلى الحياة.

ولم تنس سهير شكرى أنها بدأت كممثلة فى فرقة كفر الشيخ المسرحية، عملت مع على سالم ومحمود دياب، عرفت محمد عفيفى مطر وسيد حجاب.. فقامت منذ ثلاث سنوات تقريبا ببطولة فيلم روائى قصير (رحمة نور) للمخرجة دينا عبد السلام.

فى مجموعتها القصصية الأخيرة (امرأة لا تطل من النافذة) تقدم سهير شكرى اثنتي عشرة قصة قصيرة تعزف كلها على لحن الوحدة بنغمات الفقد والذكرى، وكأنها تقدم حكايات العمر كله بهذا العدد من القصص، كأنها تقدم سنة قصصية تمثل عمرا كاملا من الاغتراب والاشتياق.

إهداء المجموعة لا ينفصل عن قصصها ولا عن مؤلفتها (من امرأة تشهد لحظة الغروب من نافذة الحياة. اللحظة الفاصلة بين نقيضين. النور والظلام. الحضور والغياب. إلى كل امرأة.. افتحى أبواب ذاكرتك على النور حتى يدركك النوم أو الموت) وكأنها بهذا الإهداء تقدم لنا دافع الكتابة وهدفها وأفكار قصصها معا. 

وغلاف الكتاب نفسه يتناقض مع عنوانه، حيث لوحة لامرأة تعطى القارئ ظهرها لتطل فعليا من نافذة يغمرها الضوء وعلى يمينها زهور بيضاء، فتعطى القارئ إحساسا بالأنس والبراح بعكس العنوان الذى يوحى بالضيق والوحدة، وبين العنوان ولوحة الغلاف تضع الكاتبة أفكار قصصها، الواقع والمأمول، ما تعيشه شخصيات القصص فعليا وما تتوق إليه أو ما تحب أو يجب أن تصل إليه.

كل قصص المجموعة تقدم بضمير المتكلم عدا قصة واحدة (كيد الرجال) بضمير الغائب أو الراوى العليم، فالكاتبة تتوحد ببطلات قصصها لتمنحهم بعض عصارة تجربتها ولتعيش من خلالهم فتمد فى حياتها هى أياما وإن تكن أيام شقاء ووحدة، لذا فليس عجيبا أن تأتى القصة المروية بضمير الغائب أضعف قصص المجموعة بتقليدية فكرتها وطريقة حكيها، وكأن الكاتبة تؤدى بها واجبا تجاه البطلة بأن تروى للآخرين حكايتها التى تركتها معلقة لا تعرف هل هى ابنة صاحب القصر الذى عاشر أمها الخادمة أم لا، وهل ما فى بطنها من ابن صاحب القصر أم من العفاريت.

ذكريات الماضى الواعية واللاواعية هى التى تتحكم فى مصائر الشخصيات، فبطلة قصة (الأدهم) يفوتها سن الزواج لرفضها الزواج من جارها العاشق لها د.أدهم، وهى لا تعرف سبب نفورها منه، ثم نعرف أن عمتها كانت تخشى قطا بعيون خضراء وكان هذا القطط سببا فى موت العمة، وأن د.أدهم أخضر العينين. 

و(العرافة) قصة كابوسية عن الفتاة التى تعيش على ذكرى حبيبها الذى غرق فى البحر فى محاولة هجرة غير شرعية فأكلته الأسماك، فترى عيني حبيبها فى سمكة الصياد، ثم ترى وجوه البشر حولها كأنها وجوه أسماك (داهمنى صياد فقفزت من سلته سمكة كبيرة ارتمت فى أحضانى كأنها تستغيث بى، نظرت فى عينها، صرخت إنها عينه)ص14، حتى إنها تخشى أن تنظر فى المرآة فترى نفسها سمكة. 

وفى قصة (التوأم) تلعب الساردة مع القارئ لعبة التخفى وتبادل الأدوار، فقد انفصل التوأم عند توزيع التركة، الشقراء مع الأم والسمراء مع الجد، تحكى القصة على لسان الشقراء التى ترثى لتوأمها لحصولها هى على الرفاهية والنعيم وحصول السمراء على القسوة والشقاء، تترك قصرها وتنزل تحت المطر لإنقاذ توأمها، لكنها تتوه لا تصل لشيء ولا تعرف طريق العودة، وتفاجئنا الكاتبة بآخر جملتين فى القصة على لسان السمراء فلا يعرف القارئ أيهما كانت تحكى مما يفتح باب تأويل أكبر من أحداث ووقائع القصة نفسها. 

واللعبة التقنية نفسها تلعبها الكاتبة فى قصة (امرأة لا تطل من النافذة) فالبطلة امرأة تعيش فى وحدتها مع ذكرياتها، تخشى أن تفتح نافذتها حتى لا يسرقها اللصوص، ولكنها عندما تفتحها مرة أخرى لتشم رائحة المطر تأتيها رائحة حبيبها، يتجسد لها، تراه بعيدا فتناجيه، تراه مع أخرى، تراه مقتولا، ثم نكتشف أنها هى الأخرى عندما تفتح دولابها فتجد فيه (المعطف الصوف الأحمر القصير) التى كانت الأخرى ترتديه، إنها نافذة الذاكرة التى كانت البطلة تخشاها حتى لا تهاجمها منها كوابيس الماضى الحزين. 

والرغبة فى كسر طوق الوحدة السميك تتجلى فى قصة (أنا ووليدى) حيث نجد المرأة التى تتخيل حبيبا، تعاشره فى الخيال، وتنجب منه، وتدعو جارتها وأبناءها لحضور سبوع المولود الذى هو ليس أكثر من كرة جلدية ملفوفة فى بطانية، فقوة الواقع المتخيل تسيطر على الواقع المعيش المرفوض والمكروه فتلجأ البطلة إلى نقل حياتها بالكامل إلى هذا الواقع المتخيل ليكون البديل الآمن لحياة لا تطاق.

وليس أشد تعبيرا عن فكرة الوحدة نفسها من بطلة قصة (فى انتظار القمر) التى تعيش وحيدة ولا تستطيع النوم ليلا، فيتمثل لها القمر كائنا جميلا يؤنس وحدتها، لكن الظلام يصبح هو الآخر كائنا متوحشا يسجنها هى والقمر فى زنزانتين متجاورتين، فالوحدة والوحشة لا تسجن البشر فقط بل تسجن حتى خيالاتهم وأحلامهم.

وقصة (من أحاديث الغروب) تقدم محاولة للتغلب على الوحدة بإعادة إنتاج الذكرى، حيث تعيش العجوز لحظة كان يجب أن تعيشها منذ أكثر من عشرين سنة، وتصطدم عند الإفاقة بأن الزمن لا يمكن أن يعود للوراء. 

وتعود الكاتبة إلى اللعب بضمائر الحكى فى قصة (من هذه المرأة التى تحدق) حيث تروى القصة بضميرين، فلحظة الحكى الراهنة تروى بضمير المتكلم حيث تعبر العجوز عن لحظات يأس ووحدة عميقة وهى ترى صورتها فى المرآة بعد أن تسربت منها السنون من دون أن تشعر بها، وبضمير الغائب تتحدث عن ذكريات الشباب الجميلة التى أصبحت باهتة وبعيدة.

لكن قصة (فرار إلى الذات) أقرب إلى أن تكون مناجاة طويلة عن الحياة التى ضاعت بلا جدوى، طفولة هانئة قصيرة، قهر ذكورى فى الزواج، فقد للابن، محاولة للهروب إلى شاطئ يمنحها شعورا بالبراح لكن أشباح الذكريات تطاردها، وأعتقد أن هذه القصة سيرية بشكل أو بآخر وهو ما جعلها تغرق فى ذاتية بكائية أكثر منها قصصية.

وترغب الكاتبة فى كتابة قصة ذات بعد اجتماعى، لكن الحكى يأتى مباشرا تقليديا عن المرأة التى تطلق لأنها لا تنجب ثم تطلق لأنها مصممة على الإنجاب وذلك فى قصة (من أحاديث الهروب) وكذلك قصة (ليلة رأس السنة) وهى أطول قصص المجموعة، فهى أقرب لفكرة رواية منها إلى قصة قصيرة، مليئة بتفاصيل من حياة خمس نساء كلها تدور حول القهر الذكورى من الأب والزوج وخيانة الرجل.

فى قصصص مجموعة (امرأة لا تطل من النافذة) نجد بعض الرموز التى تكرر استخدامها فى عدد من القصص وكأنها تشكل أحد الأركان الرئيسة فى تشكيل لوحة المجموعة، أهمها العصفور الباحث عن الحرية، الضعيف، مكسور الجناح، والوحيد وسط العواصف. وكذلك البحر العاصف، الهائج، الحنون، المحتو، البراح، الغامض، المخيف. والمطر، رائحته مشتهاة، أجواؤه مخيفة، نقراته على الزجاج رعب وأنس. المرآة، الرفيقة التى نرى على سطحها الذكريات، والمخيفة التى تخبرنا بحقيقة ما آل إليه العمر. والسيجارة رفيق الوحدة، دخانها ينفث الضيق والحزن والذكريات.

(امرأة لا تطل من النافذة) خطوة كبيرة إلى الأمام فى حياة وسرد سهير شكرى التى ننتظر منها الكثير لتعلمنا إياه كإنسانة وتمتعنا به كمبدعة.

منقولة من بوابة الأهرام.

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً