الاربعاء 25 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
أحلام النوارس رواية - مصطفى لغتيري
الساعة 12:01 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)


مقطع منها:

 

"1"
 

دعيني أشتهيك بالشكل الذي يجعلني أتخلص من كآبتي، لعلي أنفلت من شرنقة الجسد وأهيم في الملكوت مترامي الأطراف.. أشرع أبواب الروح على مصارعها كي أعب النسيم باشتياق التائه في قيض الصحاري.. أرتشف القطرات السابحة في المدى المتمدد أبدا كنهاية لا تحقق إلا وهما، في خضم أحلام تكبر رويدا رويدا حتى تتاخم حدود الحقيقة، ثم ما تلبث أن تنكص في صمت، تتقاذفها خيبات الزمن، فتتهاوى بثقل صخرة "سيزيف".. تتقوقع في سويداء القلب حبة سوداء، ما لبثت أن تتمدد في رحابه وتنفث سمومها في أرجاء الجسد الواهن، فلا تزيده إلا وهنا، وتنبت في مشاتله ارتعاشات، سرعان مال تتبرعم في أفنانها أزهار الألم، تلك التي يعبق شذاها في كل الخلايا المتعبة.
أيتها المنفلتة من قبضتي.. كالرغبة المستعرة في تخوم الجسد.. كالحلم حين يغازل أوتار فؤادي، فيتسارع وجيبه، ويرتفع صراخه الصامت في أحشائي في اللحظات الحرجة.. كالصمت النائم في حضن القتامة.. كالسوسنة اليتيمة في البراري المقفرة.. دعيني أراك وشاحا أبيض يدثر شجيرة لوز منفردة على ضفاف جدول، ينساب بتدفق طفولي، يغازل جذورها بانتشاء، يكشف عن أسرارها، فما تكاد تستأنس بدفقه وليونته حتى تجف منابعه، فينقبض قلبها حسرة.. تمني النفس برجوع وشيك.. تنتظر وتنتظر... وكلما انطفأت إحدى وريداتها تتأجج الحرقة في شرايينها، وتزداد في أعماقها الرغبة في أن تحمل كيانها وترحل ضاربة في الآفاق، تبحث عن ذلك الجدول الذي فارقها.. بيد أن الجذور المنغرسة في أعماق التربة تتشابك بقوة وعنفوان لتشدها إلى الأرض الصلبة القوية، المتمسكة إلى أقصى الحدود بكل ما ينتمي إليها.

 

 

"2"
 

أيتها النائمة في رحاب القلب.. أنت أيتها البعيدة القريبة.. أنت التي الآن بين أصابعي صورتك.. أخاطبها بكلمات يتردد صداها في غرفة قصية، تربض في آخر طبقة من هذه العمارة.. تشرف على أرض فارغة، موحشة، لا يرتادها إلا المتفردون أولئك الذين فقدوا الرغبة في أن يربطوا أية صلة من أي نوع مع العالم .. ربما كانوا قد أصروا على ذلك مرات ومرات، ولما أحسوا أن كل محاولاتهم تحطمت على صخرة صلبة، لجأوا إلى هذه الأرض المقفرة يحاولون في خلسة من الزمن أن يربطوا معها علاقات من نوع خاص، تعوضهم عن ذلك الإحساس المقيت بالرفض والصدود.. يحملونها أسرارهم ويمارسون على أديمها لعباتهم .. تحدوهم رغبة عارمة في أن يتعاطوها دون أن يشاركهم فيها أولئك الذين لازالت المدينة تحضنهم بلطفها وحنانها الخنثوي.. ذلك الذي، أقنعوا أنفسهم، أنهم رفضوه بعد أن فقدوا القدرة على أن يرتشفوا من ثديه قطرات يعيشون عليها في لحظات القسوة التي التفت حول رقابهم ...
هأنذا أشرف على الفراغ المتمدد، تنتابني أحاسيس لم أفلح في تحديدها وأنا أتأمل بين لحظة وأخرى تقاسيمك الوديعة، أغوص في هدوئها، علها تمد ظلالها نحو نفسي المتعبة.. أرى من بعيد أحد أولئك المتشردين- الذين حدثتك عنهم- يتقدم بخطوات ثابتة، وخلفه المدى يعوي في أركانه الخواء، وتلك الزرقة التي أضحت تحفز في نفسي كل أنواع المقت والكراهية، لم أعد أتحملها .. إنها تضاعف في أعماقي الإحساس بأنني وحيد حتى النخاع.. 
أهرب الآن إلى عينيك، اللتين ينبعت منهما نسيم أشعر ببرودته تلاطف سحنتي و يهيج في داخلي الذكرى، فيتدفق سبيل الماضي يغرقني في قراره...

 

 

"3"
أتذكر بكل امتنان وروعة اليوم الذي حدثتك فيه عن أحلامي الرائعة .. تلك التي ظلت منغرسة بجذورها في تربية وجداني ، سقيتها بدموعي وانفعالاتي حتى أورقت وأيعنت خضرتها، فظللت بفيئها الوارف خطواتي المتعثرة في درب الحياة.. ثم ما لبثت أن داهمها الحر فاصفرت وذبلت، جاء خريفها قويا قاسيا لا يرحم فتساقطت وأنا أحملق بذهول كبير لا أكاد أصدق شيئا مما يحدث.. هل يعقل هذا؟ كل شيء في لحظة أضحى حطاما.. شظايا ذكرى بقايا أحلام أسترجعها بشكل ممل وبإصرار يبعث على التقزز لا شيء سوى أن أؤنس وحدتي القاسية، التي لم تزدها الأيام إلا قسوة حتى غدت لا تطاق..ومع ذلك لا زلت مستمرا في لعبتي هذه التي لا معنى لها.. الصورة الآن وكأنها تحدثني تحاول أن تلفظ بعض الكلمات لتمزق رداء الصمت.. نعم الصمت الذي أضحى الحقيقة الوحيدة التي أحياها.. والتي لا يمكن أن أشك في وجودها.. أتقلب في ثناياها.. أستريح في حضنها وأشعر بكل كياني إنها أصبحت جوهر حياتي، خاصة
بعد أن أوصدت أبواب الذات، وانكفأت في غرفة قصية أجتر مرارتي.. آه كدت أنسى.. لا تحاولي أن تقطعي حبل أفكاري.. دعيني أخبرك أنني ما زلت أرى من ظننته متشردا، ولا أظنه غير ذلك.. يتقدم من بعيد.. في خط مستقيم وكأن طريقا سريا يقود خطواته في اتجاه قد لا يعممه غيره.. وربما يفكر في أشياء سأكون حتما كاذبا إذا زعمت القدرة توقعتها..إنه لا يرى من تلك المسافة التي تفصله عن المدينة سوى أشكال هندسية يلعلع البياض في كل نواحيها..
سأكون معك صادقا مرة أخرى لأقول لك أنني مرات عديدة عندما أكون في ذلك المكان الذي أراه فيه الآن،بعد القيام بجولتي المعهودة، يتملكني إحساس بالقرف، وبرغبة عارمة في عدم الوصول، تمنيت جماع قلبي لو أنني لا أصل أبدا إلى المدينة التي يشعرني بياضها بالغثيان .. بالامتعاض والرغبة في التلاشي في الاندثار ..في أن أتحول إلى أي حشرة من أي نوع وألج أي ثقب من الثقوب المنتشرة تحت الأحجار المتراكمة في هذا المدى مترامي الأطراف.. كانت الخطوات مسامير تنغرس في أحشائي فأصرخ قي أعماقي صرخة يتردد صداها في كل تجاويف الجسد..
اعذريني إن سببت لك أي احراج أو صدمة بهذا الكلام، الذي يبدو غريبا عما تعودته مني..ربما لم تتوقعي يوما، إلا أن أكون أنا كما تعودت علي قويا معافى متشبثا بحقي في الحياة وفي المستقبل الذي لم أكن أراه إلا متألقا وناجحا.. للأسف كل ذلك أصبح جزءا من الماضي.
اعذريني فللبوح طقوسه، التي ربما لن تتكرر مستقبلا بالشروط نفسها ..فدعيني أنغمس في أعماقي وأغترف كل أنواع التعاسة التي ركدت في بركة الذات حتى أسن ماؤها ..لعلي أتخلص من هذا الألم الذي يعتصر شغاف قلبي و يتملك كياني ويهصره هصرا بلا رحمة ولا شفقة.. لعلي أنفلت من شرنقة الزمن الرديء الذي التفت حباله حول رقبتي، و كلما حاولت التخلص منها ازداد ضغطها علي بشكل يكاد يطيح بي نحو المجهول..

 

 

"4"
الصورة التي أحملها الآن بين يدي هي كل ما تبقى لي في هذا العالم.. هي تلك الشعرة التي تربطني بهذا الشيء الذي نسميه الحياة ..وهذه الغرفة التي تحتويني، أحس بأنها تضيق علي ليلة بعد ليلة، و لحظة بعد أخرى ..
هل تعلمين أن مساحة الضوء داخلها تتقلص بشكل مثير ..وأنني لم أعد أملك القوة لممارسة تلك اللعبة التي مللتها حتى الثمالة.. لم يعد يعنيني في شيء أن أقاوم تقلص الضوء أو أن أتغلب على هذه الظلمة التي تزحف باتجاهي بشكل تدريجي.. أعدك أنني سأستسلم في الوقت المناسب، وأنا راض كل الرضا..لأنني فقدت القدرة على أن أكون –بشكل مستمر –شاهدا لا يهمه شيء إلا أن يسجل ما يرى دون أن يتدخل فيه.. أبدا لن أكون كذلك ..وليس هناك في العالم من قوة لا تستطيع أن تجبرني على ذلك ..إنها لعبة مقيتة ولا معنى لها..وأنا أرفضها بكل ما أملك من قوة .. هذا الدور لا يناسبني .. إنه يضاعف من الاحتقار الذي أشعر به نحو ذاتي، ونحو العالم المحيط بي، لقد تعودت دوماأن أساهم بنصيب في كل ما يحيط بي أبدا لم أختر يوما دور المتفرج، إنه ببساطة دورلا يلائمني.. 
الشعور بأن العالم يرفضني يعمق الجرح في وجداني، ولن يشفي غليلي إلا رفض مقابل أكثر فظاظة وقسوة .. هل يفيد ذلك؟ .. لا يهم.. ربما هذا مجرد لعبة استمرأتها وأتمسك بها إلى ما لا نهاية.

 

 

"5"
في هذه اللحظة التي أبوح لك فيه بكل ما ترسب في داخلي اسمحي لي أن أخبرك أن الرجل القادم في اتجاه المدينة مال نحو جهة أخرى، وهو الآن يتقدم بخطوات أكثر سرعة.. لا أستطيع أن أؤكد لك أن شخصا ما يمكن أن يكون قد دعاه إليه.. أو ربما تذكر فجأة شيئا ما كان قد غاب عن ذاكرته، ثم لمع فجأة، كما يحدث عادة في لحظات لا يتوقعها المرء.. بالطبع أنت تفهمينني.. أو ربما فقد الرغبة في التوجه نحو المدينة.. أو أن البياض الراشح من كل نواحيها أعشى بصره، فبعث ذلك في نفسه تلك الأحاسيس التي طالما انتابتني وأنا في مثل مكانه.. أو أنه بكل بساطة أتعبه المسير فالتجأ إلى أقرب مكان ليستجمع فيه أنفاسه ويواصل سيره من جديد.. كل هذه الاحتمالات قد لا تصدق منها واحدة، وليست سوى امتداد لهلوساتي التي لا معنى لها.. لكن ما يهمني من كل هذا أن ذلك الشخص الذي بعث الدفء إلى قلبي قدرا من الزمن يكاد الآن يختفي ليتركني وجها لوجه مع صورتك الجميلة الرائعة التي لا أقوى على النظر إليها.. فهي تحيي في نفسي ذكريات أحاول جاهدا أن أرميها خارج اهتمامات الذاكرة، أن أطمرها في أرض قاحلة مقطوعة، لا يخطر فيها كان حي. 
الذي طالما حدثتك عنه.. أتذكر تلك الكلمات التي كنت أود أن أحدثك بها ولم أتمكن من ذلك.. فغصتها لا تزال في حلقي.. أنا الآن أحاول أن أشتهيك بالطريقة التي أرغب فيها، وملامحك المنتصبة أمامي تحفزني للارتماء في أحضان هدوئك ورقتك اللذين لا مثيل لهما.. لكن غياب ذلك المتشرد أضاف إلى همومي هما جديدا.. لقد جعلني رغما عني أنشغل بمصيره .. الأسئلة في هذه الأثناء تنبت كالفطر في أعماقي، تتكاثر بشكل يعذبني ويؤجج في أحشائي الحيرة، وكلما حاولت أن أتجاهلها أصرت على أن تبدو أكثر قوة وكثافة.. أين اختفى؟ لماذا لم يواصل سيره بعد أن أضحى لا يفصله عن أول بناء في المدينة سوى مسافة لا يمكن أن تضيف إلى تعبه شيئا يذكر؟ .. إلى أين يمكن أن يكون قد ذهب؟ وهل أحتمل الفراغ الذي خلفه، والذي تمدد أمامي بهيئته المقرفة إلى أبعد الحدود؟..

 

 

"6"
لماذا تحملقين في وجهي بعينيك اللامعتين،اللتين لم يغادرهما ذلك البريق الذي أسر فؤادي في أول لقاء جمعني بك.. فلم أقو على الانفلات من جبروته؟ لماذا تنكئين الجرح ليدمي من جديد، وينزف كأول عهدي به؟ لم تحاولين أن تنسجي خيوطا جديدة تسحبني إلى ما لا أشتهي؟..
كفي أيتها العزيزة عن الاستمرار في هذا العبث.. أتذكر الآن حين حدثتك عن رغبتي التي لا يعتريها الفتور في أن ابني عالما يسع كل أحلامي التي – رغم تعاليقك الساخرة- كنت أعض عليها بنواجذي.. ولم يكن ليضعف إيماني بها أبدا.. أتذكر حين حدثتك بحماس عن الظلم الاجتماعي.. عن القهر الذي نعاني منه كطبقة مسحوقة، تحيا على الهامش وتقتات من الفتات.. حدثتك عن قراءتي التي ما فتئت تنير لي الطريق بعد أن كنت أظن مثل الباقين أن كل شيء قدر محتوم، فتبينت أن الخلاص لابد أن يتحقق يوما إذا تملكنا مصيرنا بأيدينا.. إذا ما حاربنا تواكلنا ومعتقداتنا البالية.. إذا ما عانقنا هموم شعبنا والتحمنا به وأنرنا له الطريق الذي يبدو شديد الظلمة، فتخرج جميعا من النفق الحالك الذي نتخبط فيه.. أتذكر حين حدثتك بحماس لا تزال بعض شعلته تلتمع أمام عيني كلما استحضرت تلك اللحظات البعيدة، وأنا أتكلم عن المثقف العضوي، الذي عليه أن ينخرط في هموم الطبقات الشعبية وأن يكتوي بنارها.. لا أن يقبع في برجه العاجي، يجتر نظريات لا تقدم ولا تؤخر.. عليه أن يكتوي بنارها .. يكدح ليخرجها من ظلام الجهل ويجعلها قادرة أن تطلع دون وساطة على الكتابات التي تخلصها من الوهم والخرافة الضاربين بأطنابها في لا وعيها الجمعي.. يحاول أن يبسط لها الكتابات الفلسفية الكبرى، بأسلوب قريب من لغتها اليومية، ويعلم الناس أن الجهل والظلم والفاقة التي يحيونها بهذا الشكل المشين لا يفيد سوى أعدائهم.. وأن يضمن أفكاره في قصائد وأناشيد يمكن أن يرددوها في كل وقت وحين.. حين يستيقظون.. وحين ينامون، وحتى قبل أن يمارسوا حقهم الطبيعي في مضاجعة زوجاتهم..
حين كنت أحدثك عن كل ذلك بجذوة من الحماس لا يخبو لهيبها كانت تنتابك سورة من الضحك، ما تفتأ أن تنقلب إلى غضب تصبين جامه على تفاهتي، وعلى أحلامي الرومانسية التي تبدو لك أنها السبب في تأجيل مشروعنا المشترك في أن نجتمع تحت سقف واحد.. 
من جهتي كنت أحاول أن أغرس في قلبك الأمل في أن ما أقوله ليس حلما ولا وهما، وإنما حقيقة لا تحتاج سوى إلى تخطيط وحزم وتضافر جهود من يؤمنون بأن الانعتاق لابد أن يتحقق، وأن رياح التغيير ستهب لا محالة على هذا البلد، لتجعله ينعتق من براثن الفقر والجهل والطغيان.. ورغم المرارة التي كنت تعبرين عنها، فإن إصراري على ما أقوله كان ثابتا قويا لا يلين.. كل ذلك أتذكره الآن، ويبدو لي كأنني عشته بالأمس القريب.

 

 

"7"
ها أنذا الآن أحمل صورتك التي لم يبق لي في هذه الدنيا غيرها أحاول أن أبث فيها الحياة بهلوساتي التي لا تنتهي.. حقيقة أنها الوحيدة التي تؤنسني في لحظتي هذه،
بعد أن فقدت الاتصال بذلك المتشرد الذي اختفى عن بصري، ولم أعد أرى سوى الفراغ الذي يحفز في نفسي الرغبة في أن أتذكر، أن أمتزج مع ذرات الهواء المتراقصة على امتداد الفضاء.. ولولا صورتك هذه التي تجعلني متأكدا لحظة من أخرى أنني لا أزال في هذه الغرفة التي ما فتئ كرهي لها يتضاعف.. ورغبتي في مغادرتها إلى الأبد تقوى، لتغدو سيلا جارفا يسحبني إلى مصبات لا حدود لها، غير أن شيئا ما، لا أستطيع تبينه، يشعرني أن اللحظة الحاسمة، والتي ربما سأضمحل خلالها، لم تعد بعيدة، بالشكل الذي كنت أتوهمه، أشعر في أعماقي أن ساعتها قادمة تزحف نحوي ببطء لكن بإصرار وثبات.. وليس علي سوى أن أحتفظ ببرودي وأنتظر.. فإحساسي بأن النهاية ستكون في هذه الغرفة لا أقوى على الانفلات منه، وكـأنني سبق لي أن عشته بكل تفاصيله.. مرات عديدة، لا أعرف أكان ذلك حلما أن حقيقة، يتراءى لي طائر ضخم ينبثق فجأة من العدم، من الأفق الذي يصيبني امتداده بالغثيان، يدخل بعنف من هذه الشرفة التي أتطلع من خلالها الآن إلى اللاشيء.. يحضنني بقوة، حتى أشرف على الإغماء، ثم يحملني تحت جناحيه، ويطير بي في الأجواء، ثم لا يلبث أن يتلاشى ويختفي، وفي مرات أخرى أشعر وأنا أنوس بين الحلم واليقظة أنه يعبر بي بوابة ضخمة، ليحملني إلى عالم جديد، مختلف، لا يمت لعالمنا هذا بأية صلة، يقذفني في أعماقه، ثم يتابع طيرانه، فيما ترتفع صرخة تنفجر من أعماقي، لتجلجل في زوايا ذاتي أشعر أنني أهوي من ارتفاع شاهق، وقبل أن أصطدم بالأرض، تتلقفني أياد غريبة، وتثبت أقدامي في بساط لم أر مثله من قبل، تتمدد في رحابه أجسام بأشكال مختلفة، تنبعث منها روائح متناقضة، فيما ألوانها لا تستقر على حال، أمشي وكأنني في حلم.. أشعر أن شيئا كنت أفقده يتسلل إلى كياني، فأحس باطمئنان افتقدته منذ تأكدت أن الحلم تكسر وتفتت شظاياه واختلطت بحبات رمل لا عدد لها في صحراء لا نهاية لها. وقد حدث ذلك في اليوم الذي أطلقوا فيه سراحي، خرجت أحمل عاهتي التي عرفت بأسى عميق أنني لن أتخلص منها أبدا، ستلازمني ما حييت، إنما غدت جزءا من وجودي. 

 

"8"
صعب أن أسترجع كل ذلك.. لكن لا مفر، فملامحك تحفزني على الغوص في أعماق الذاكرة لأستحضر كل اللحظات بل وأقساها.. هونت من الأمر. واحتفظت بالأمل يرتعش بين جوانحي، وقلت لنفسي محاولا إقناعها بأنني سأجدك وأنك ستعوضينني عن كل ما عانيته من عذاب وقهر.. وأن ما حدث – رغم شراسته- لا يمكن أن يثنيني عن تشييد الحلم الذي عشننا سويا، من أجله.. ذلك الحلم الذي رعيناه معا، ورأيناه أمام ناظرينا يترعرع وينمو بشكل كان يدهشنا، فننخرط في انتشاء لا مثيل له.. لا شيء في العالم يمكن أن يقف أمام بناء حلمنا الصغير بعد أن تحطم أمام عيني حلمي الكبير.. حلمي الذي ترعرع لسنوات وأنا أرعاه بكل كياني سأبنيه متحررا، قويا، وسأؤجل بناء الحلم الكبير- الذي لم أقو على تحقيقه- للأجيال القادمة.. أجيال ربما ستكون لها القدرة على الانخراط في بنائه بعزم وقوة، دون أن تلتفت إلى الوراء لأن ظروفها ربما ستكون أفضل من ظروفنا.. حلمت بمشروعي الصغير.. بأسرتي الصغيرة التي سأحاول أن أشيدها لبنة لبنة.. لم أتخيل أبدا أن يكون ذلك مع غيرك، أبدا، أبدا.. لم أتصور- اللحظة- أن الحلم يمكن أن يتحقق دونك، لا يستحق أن يكون حلما جميلا وأنت لا تشاركين في تأثيثه بابتسامتك الرائعة التي طالما انتشلتني من قتامتي، لترمي كياني بأكمله في حضن دافئ.. جميل، يذكرني بردائه المنمنم الشيك الرائع.. ذلك الذي يحيي في القلب الرغبة في أن أعيش الحياة إلى آخر رمق..
ما جال بخاطري أبدا أن أفتح عيني كل صباح على وجه غير ذلك الذي تنتظم فيه قسماتك التي طالما ارتشفت من صفائها وهدوئها القوة على الاستمرار، وقهر الصعوبات مهما كانت قسوتها.. منذ أن غادرت السجن حتى تملكني إحساس جارف بالذوبان فيك حتى آخر ذرة من كياني.. أعطاني مجرد التفكير في وجودك إحساسا بالانتماء، بل في الوجود.. تعرفين كل يصعب على الإنسان أن يحس بلا جدوى وجوده، وأن لا شيء يبرر انتماءه إلى هذه الحياة.. حينئذ يغدو من المستحيل على المرء أن يستعذب شهقات الهواء التي يتنفسها.. يصبح من الصعب أن يستمرئ أي لذة كيفما كان نوعها، وتستحيل آنئذ الحياة عبئا يحمله على كتفيه، ويتشوق إلى أقصى الحدود، لذلك اليوم الذي يتخلص فيه من حمله الثقيل.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً