الاربعاء 25 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
من وحي الذاكرة -1- أحمد جابر
الساعة 13:23 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)


عند أطلال قريتنا التي دمرها زلزال 1982وقفت بهيئة عجوز قد انقضى نصف عمره أو يكاد ، وقد غزا رأسه بياض الشيب ، أنبش في ذاكرة الحجر والشجر والطين ،وأمام هيبة الزمن تلبثت مطرقا ، أجادل بعض ذاتي ، أفتح على نفسي نار الحنين ، والذكريات تنهمر علي كجلمود صخر حطه السيل من عل ، وقفت بحال أشبه بامرئ القيس الجاهلي المعتوه ، وهو يعبر عن قلقه الوجودي بقوله :
كأني غداة البين يوم تحملوا 
لدى سمرات الحي ناقف حنظل 
أجدني في مقامه الذي أشجاه ولوعه الذي أبكاه ، راثيا أطلالا قديمة ، وما التحق منها بركب الفناء ، شكيل هذا الوجد هأنذا أعتصر ألما حينما أغوص في ذاكرة المكان ، وقد أفضى إلى الخراب ، واندثرت حميمية الأرواح التي كانت تقطنه ، انسحبت بذاكرة معاقه ، جاهدا أحاول أن التقط بعض الاشارات القديمة ، وأنى لي أن استرجع مشاهدا كنت فيها طفلا حدثا ما بين الثالثة أو الرابعة ، ضغطت على زر الذاكرة flash back لأستعيد نشوة الماضي وبراءة الطفولة ، تلك الأيام الخوالي لازال طيفها يتجلى هنا بين كومة من الأنقاض ، وصدى رحيل الأحبة يقرع أجراس الخيبة ، وفي لحظة انخطاف الزمن وكحالة صوفية أخذت الأرواح تتصل ببعضها خلال وقت مستقطع عن الواقع ، وعلى هامش الخيال يقفز صوت من غابر الزمن مرددا: 
سلط الدهر والمنون عليهم 
فلهم في صدى المقابر هام 
بين جدران الخرائب ، عشت هنا يوما ما ، كما عاش أبي وأسلافي ، كانت صرختي الأولى تنبعث من هنا ، الجلبة التي أحدثتها حينما صافحت وجه الحياة ، بقايا الشجن والحنين ، طفولتي المفقودة ، وأشيائي الصغيرة التي غارت في لحظة الزلزال ، تأملت مليا ، توزعت بنات عقلي تبحث عن شيء ما هنا ، بقايا منزل وخرائب وأنقاض ، لم يتبق من زاوية أو محيط كي التقط فيها صورة فوتوغرافية لمعالم منزل ، سوى أضلاع من الحجارة هنا وأخرى مبعثرة في الوسط ، وأعجاز خشب مغروسة في قلب بعض الجدران المنهكة ...
فتحت عيني على هذا المشهد ، وهممت بضحكة ساخرة من الحياة وهي تتكشف عن قناع مزيف وتسحيل أكذوبة في نفسي ، دلفت من بوابة المنزل ، حيث كنا نلج دائما إلى داخل الدار ، لازالت مرادمه ، وعقوده تصارع جهل الطبيعة وعبث الإنسان ، ثمة حجرة صغيرة كانت تتصل بالباب ، وفي اليسار كانت السمسرة التي نجلب فيها الأعلاف وبجوارها حجرة صغيرة تربض فيها بقرتنا ثنية ، وعلى يمين المدخل درج متصل بالطابق الثاني وفي أسفله عند صالة المدخل براميل تحتضن في بطنها ما نخزنه من حبوب ، على جدران الدرج توجد خزانات داخلية تتراكم فيها أواني فخارية من قصوص ومقالي ومدر ، والدوح يتكي على نافذة صغييرة صوب الشارع تسمح بدخول الهواء كي يبقى الماء فيه باردا ...
الطابق العلوي يحوي ديوانا ومنظرة وديمة (مطبخ) وحمام ، المنظرة هي الركن الذي يسكنني ، أجد فيها عبقا أزليا وروحانية تخامر اللب ، شغف صوفي يتملكني كراهب اعتاد على بيت عبادته ، قسوت على مخيلتي وأنا أعيد صياغة كل شي ، وبألوان الزمن الجميل ، ألحفة من الزعل الأسود ومساند قديمة تتغطى بقماش أخضر ، معشرة نحاسية دائرية الشكل ، وموقد من النحاس يحتضن جمرات من اللهب الهادئ ، وفوقه جمنة تغلي على حياء وفي بطنها قهوة معتقة تفوح رائحتها في كل الأرجاء ، المداعة معلقة كعادتها وقصبتها الملفوفة بالقماش الوردي المشبك ، بندقية قديمة تتدلى ، صندوق خشبي يحوي بداخله كل ما كنا نعتقد أنه ثمين من أوراق وبصائر ونقود وزينة من الفضة البيضاء ، وكعد السمن تتزاحم بداخله ، سرير منهك مغطى بكومة من البطانيات ...
انقطعت تلك الصور فجأة لأجدني محاصرا بين الركام ، فضولي كان يدفعني أن أفتش عن أشياء قديمة ، نبشت بعض الأحجار وأزحت عنها التراب ، بقايا أوان فخارية محطمة ، وزجاج مهشم وقماش مهترئ وممزق، معلبات قديمة وبقايا صحون ران عليها الصدأ ، رفعت بصري نحو جدران الديوان العارية ، بقايا طين ممزوج بالنورة ، أخذت حفنة من التراب وشرعت أشتم عبقها ، كنت أرحل في جراح الزمن ، أطلقت العنان لمخيلتي ، اختفت ألوان ذلك العهد ببياضه وسواده دونما منتجة أو فيتشوب يكبح من جماح ذلك الخيال... أطلقت وابلا من الحنين ، وزفرات تتوالى من جوف أوجاعي تهدهد هذا الصمت ، تلك الصور قذفت بي نحو ثقب الزمن لأعود إلى طفولتي أتصفح وجوه الأحبة الذين سكنوا هنا ، أطلقت الحنين من عقاله فتدحرجت دمعتان سميكتان وأنا أستعيد صورة جدتي رحمها الله ، حبها الخالد في قرارة نفسي يمنع الزمن أن يطمر هذه الذكريات ، كانت هي الدار والسكن ، والحنان والحب ، والطيبة والنقاء بهيئتها القروية تتجلى من عمق الماضي كائنا من العطر ببياض بشرتها وابتسامتها الدافئة وصوتها الذي يهطل بالشجون...

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً