الخميس 28 نوفمبر 2024 آخر تحديث: الخميس 21 نوفمبر 2024
قمقم سليمان - حميد عقبي
الساعة 13:10 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)


في وسط السوق الشعبي القديم، توجد عطارة الحاج هاشم عبده وهي مقصد ومحطة مهمة لكل متسوق، تفوح روائح الشرق كلها، يُحس المرء بمتعة رائعة بمجرد المرور من جانب الدكان، يأتيها الناس من كل فج عميق لشراء لوازم كل مناسبة كحالات الولادة والختان والعرس والموت، لكل حالة وموسم مواده وأشيائه الخاصة، هاشم عبده رجل يتقن مهنته ويعرف زبائنه، هو أيضاً صيدلاني المنطقة كلها له خبرة في الأعشاب والخلطات للكثير من الأمراض ويعتمد عليه الناس ويثقون فيه ويمتاز الرجل بلطفه وبشاشه وجهه وتقديره لظروف البسطاء. 
الجديد شيوع خلطة جديدة للرجال الذين يكون عندهم إرهاق في الليل،  يسمونها قمقم سليمان حق الليل ولكن حمودي لم يفهم التسمية، يدفعه الفضول للمرابطة ومراقبة العم هاشم، يتكوم الناس عند الدكان، يظل مندهشاً لحركة عم هاشم الديناميكية كأنه مايسترو يغترف من هذه القصاع التي امامه وعن شماله ويمينه وخلفه وتحت قدميه وأشياء معلقة  فوق رأسه، البحث عن شيء لا يستغرق عنده سوى بضع ثواني، تراه يمازح هذا ويضحك مع ذاك ويردد الصلاة على النبي والتسبيح والتهليل وأحياناً أبيات من الشعر والكثير من الأمثال والحكايات الشعبية القصيرة، الجميع ينصرف فرحاً وخصوصاً اولئك الرجال الذين يحصلون على القمقم.
تردد كثيراً قبل الذهاب لإكتشاف هذا اللغز خوفاً فالتدخل في حاجات الكبار قد تكون عواقبه وخيمة لكن دافع الفضول جعله يخاطر في خوض هذه المغامرة...يقف في صف الإنتظار الثاني، يقترب من مدخل الدكان المغلق بحاجز خشبي وفي المساحة يسمع وشوشات فالبعض يأتي مرتبكاً ولا يصرح بمبتغاه فيهمس للسيد هاشم الذي يدنو برأسه ليستمع أو لينصح ويفسر بعض الوصفات الخاصة.
يقترب الحاج بشير من هذه المساحة، يرحب به العم هاشم ترحيباً خاصاً، يهمس الحاج "قمقم.."
يقاطعه العم هاشم : يا حاج أنت مثل والدي وأخاف عليك..القمقم كله جن وعفاريت وأنت صحتك
يقاطعه الحاج غاضباً : أنت قليل حياء، أنا زايد عليك في العمر ثلاث أو أربع سنوات، وصحتي الحمدلله..قل لي أنك تحابي به وتنافق بالقمقم..كيف تعطي الفقيه الجمل وهو أكبر مني في العمر؟ بلادنا كلها مجاملة وأنانية.
يحاول العم هاشم أن يشرح له لكن الرجل لا يقبل أي رأي...أخيراً يستجيب هاشم لطلبه هنا تتغير لهجة الحاج فيضحك ويدعو للعم هاشم.
يقترب شاب قوي البنية وحسن المظهر، هذا بن بايع الذهب، يفهم هاشم سبب زيارته، يحرك رأسه رافضاً
 يهمس للشاب : يا غنيم.. أنت بصحتك وماشاء الله أكلك كله لحم وعسل وسمن بلدي وأحسن أنواع الحوت...خليك طبيعي وأنت شاب، هذا يساعد الناس المرهقة.
يحاول غنيم سياق تبريرات يرفضها ممازحاً : جسمك كجسم جالوت وزوجتك صغيرة ونحيفة..بناتنا تهاميات ضعيفات..الرحمة 
يرد غنيم : ياعم هاشم أنا تزوجت ثانية جبلية وأنت عارف الجبليات حارات..الله يخليك خليني أبيض بوجهي ووجهكم.
يتدخل أحدهم ضاحكاً : غنيم تزوج جبلية مش مختونة أبو جبل..أبو قباصه، نحن في تهامة نقصوها 
ينظر إليه عم هاشم غاضباً : هذه عادتنا وتقاليدنا منذ زمن نبي الله براهيم عليه السلام..لكل بلاد جوها.. ما يناسب مع الحر إلا الختان.
ثم يدور نقاش لم يفهمه حمودي لكن يبدو أن غنيم يريد الإنسحاب من هذا الجدل، يهمس لعم هاشم أن يخلصه.
يضحك العم هاشم ويناول الشاب مقصده.
هنا يظل حمودي واقفاً، يسترق السمع ونقاشات تدور حول قمقم سليمان، يأتي خطيب الجامع وعاقل قريته والحلاق وأشخاص لا يعرفهم، جميعهم يكون مطلبهم القمقم والقمقم فقط.
يسمع كلمات الشكر والإمتنان والمدح لعم هاشم
ــ ربنا يحفظك لنا يا عم هاشم
ــ ربنا يطول لنا في عمرك
ــ أنت بركة هذه المدينة 
ــ والله القمقم جعل الحرمة تحترمني لما أخذت حق الليل تغيرت أحوالها في الصبح صارت هادئة.
ــ كنا في ورطة الآن كسرنا أنوف الحريم بفضلك وقمقم سليمان.
هنا يقترب أحد رفاقي يصيح بأعلى صوته : خلصني ياعم هاشم أمي تريد قمقم سليمان، قالت إن أبي تعبان في الليل ومش راضي يجيك.
يضحك الجميع ويصاب الطفل بالحرج ولا يفهم سبب سخرية الناس منه.
يشير له العم هاشم بالإقتراب ويهمس : له ليش تصرخ؟
ثم يضحك العم هاشم ملقياً بعض الحكايات، سريعاً ماينسى الناس ما قاله الطفل، يُسرع هاشم بلف القمقم في كيس بلاستيكي أسود لذاك الطفل..ينصرف بعدها راكضاً.
يأتي طفل ثاني يخترق الزحام ليلقي ما طلبته منه أمه، يصيح 
 ـــ يا عم هاشم أمي تريد إبرة خياطة تكون أصلي ومش مدحله تدخل بسرعة وما تعتكس.
يشير إليه عم هاشم  فيقترب الطفل، يسرع عم هاشم بلف شيئاً في كيس بلاستيكي أسود.
هنا ينتبه حمودي للوقت فقد مكث هنا لزمن طويل مع ذلك لم يفهم سر قمقم سليمان، يقرر الإنسحاب مقنعاً نفسه أن هذه حاجات حق الكبار وأنه عندما يكبر سيكتشف ويفهم هذه الألغاز كلها.
   

 

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص