الاثنين 23 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
المتقي يجترح نص الفقرة عناقيد قصصية شعرية - محمد الغربي عمران
الساعة 12:45 (الرأي برس - أدب وثقافة)


سمة في مبدعي المغرب تجسير العلاقات الإبداعية مع المجتمعات العربية.. جغرافيا سميت المغرب بالمغرب الأقصى لموقعها الجغرافي النائي .. لكن كثيرأً من مبدعي المغرب تغلبوا على الجغرافية ..وكأنهم الضوء لا يعترفون بالأقصى والأدنى.
 

وممن ينشطون لتجسير تلك العلاقات من مبدعي المغرب .. القاص الشاعر عبدالله المتقي والقاص الناقد حميد ركاطة .. والقاص الروائي مصطفى لغتيري والشاعرة نعيمة زايد.. وكذلك جماعة جسور بالناظور.. وجمعية الأنصار بخنيفرة الأستاذ عبد العزيز ملوكي وجمعية السلام ومركز الأندلس بقلعة السراغنة الأستاذ عبدالله ساورة.. وجمعية التواصل للثقافة والإبداع بالصويرة الأستاذة ليلى مهيدرة.
والأديب الأريب عبد الله المتقي يأتي في طليعة من لهم اهتمام كبير بالتحايل على الثبات الجغرافي وتحويل المغرب إلى قلب يتصل بأدباء المغرب والمشرق.. فهو على الصعيد الإعلامي ينشط بالتواصل مع الأدباء عند تعرضهم للتهديد أو مصادرة أو منع إصداراتهم بالمقابلة والخبر الصحفي والتضامن .. ولي تجربة في عام 2010م حين منعت رواياتي مصحف أحمر كان المتقي وركاطة ولغتيري في طليعة أدباء وأديبات عرب بالتجاوب والتضامن مع تلك الرواية التعيسة والمنكوبة.

 

وهذا ليس موضوعنا في هذه السانحة الجميلة بقدر ما أحببت أن أحيي تلك المواقف وتلك الأنشطة والتواصل والتجسير الثقافي لفرسان الأطلس .
وما وددت تناوله في مقاربة سريعة وموجزة لإضمامة قصصية بعنوان الأرامل لا تتشابه.. الصادرة عن وزارة الثقافة المغربية 2012م للمبدع الجميل المتقي. المجموعة تضم ثلاثة عشر نص قصيرا ومقالة حول الإبداع المغربي أتت كتوطئة في بداية الإصدار.

 

وبداية بالعنوان "الأرامل لا تتشابه" عنوان يحمل من الدلالات ما يحمل .. عبدالله المتقي في جُلّ كتاباته يأتي بالمختلف.. والمفضي إلى إيحاءات قد تمس وتتحرش بذهنية القارئ وكوامنه النفسية. بحيث يفسح لنا العنوان لنتساءل فيمَ التشابه المقصود وفيمَ لا تتشابه أرامل المتقي؟ هل يعني الملامح؟ أم الرغبات؟ أم يقصد هيئاتهن؟ أم في ما يجيده الإنسان وما لا يجيده من لذة وألم؟ أم أن للمعنى أوجهاً أخرى.. وعنوان إضمامة اليوم ليس وحيدة الإدهاش.. فلكاتبنا عدة عناوين صدرت منها"قصائد كاتمة الصوت" و "الكرسي الأزرق" و "قليل من الملائكة" والمتأمل لتلك العناوين سيجدها عناوين ملفتة وفارقة .. بل وعميقة.. وهذا ديدبان المتقي في جل حروفه. وما نحن بصدده اليوم نصوص الأرامل لا تتشابه. وسنركز على نقطتين بشكل رئيسي.
- فنيات الشعر لدى المتقي.
- أسلوبه الساخر الضاحك.

 

وبداية باستخدام المتقي تقنية شعرية .. أو الإتيان بفنية من فنيات الشعر إلى ساحة القصة.. ليس على طريقة النص المفتوح.. بل ما يصوغه كاتبنا ويبتدعه أبعد من ذلك.. حين يأخذ من القصيدة استقلالية البيت أو الضلع كنص قائم بحد ذاته في داخل القصيدة ليستخدم ذلك في بنى القصة. عبدالله جاء بهذا في نصوص قصصية كثيرة.
أي بمعنى أوضح أنه يقدم لنا عناقيد نصية .. يأتينا بالمعنى في بنى منفصلة ومتصلة في الوقت نفسه في أكثر من نص.. بل وداخل الجزء الواحد نلاحظ نصوصا قائمة بمعناها وفكرتها.. تتصل إن أردنا بما يسبقها وما يليها داخل النص الواحد.

 

كثيرون من يكتبون وقد وزعوا كل نص إلى عدة عناوين فرعية .. لكنها تظل نصوصا ذات مضمون واحد ولا تتجزأ.. المتقي يخط عناقيده بحيث يقدم لنا أكثر من نص داخلي مكتمل المبنى والمعنى.. وبما لا يخل بالسياق العام للنص .. فقد نجد ذلك النص المكتمل تحت عنوان فرعي وقد نجده على شكل فقرة ضمن نص.. كل تلك نصوص مركبة بالدهشة..وبلغة شعرية رشيقة.
في نص بعنوان "الرجل والقطة" يستبطن عناوين داخلية هي: الرجل..القطة.. القطة والرجل. وفي نص آخر بعنوان"ماء تساوت" يتفرع النص إلى عناوين فرعية: حكاية الفقيه.. قفل الحكاية. وهكذا في نص "الجنون الذي أكل صاحبه" ونص "فلوات" و"السيد باء يبتلع لسانه". تلك النصوص وغيرها تفرعت كما ذكرنا سابقا إلى عناوين داخلية. إلا أن المتقي لم يكتف باستخدام العناوين الفرعية بل استخدم الأرقام لتجزئة بعض النصوص .. ومنها :الأرامل لا تتشابه.. جغرافية ولصوص.. ذاك الحنين .. الجنون الذي أكل صاحبه.

 

ولا يعني ذلك أن المتقي اقتصر في نصوصه على تلك العناقيد السردية المجزأة إلى عناوين وأرقام .. بل قدم أكثر من نص وقد احتوى بداخله على أكثر من نص .. بحيث تأتي بعض الفقرات نصوصا سردية مكتملة.. دون عناوين أو أرقام وقد صاغها المتقي بمضمون فني رفيع.. ولذلك نجد أن جميع نصوص هذه الإضمامة قد تكونت من عناقيد حكائية .. تميز بها المتقي.. وابتدعها شكلا ومضمونا.. بل وأجزم أن ذلك يعد بصمة أو أسلوباً خاصاً به.
وهو القائل في بداية مقدمة هذا الإصدار وتحت عنوان "زمن القصة المغربية" "لندع الناس تكتب تغامر تشاغب تفتض بكارة الأشكال الراسخة ف:لكل كاتب الحق أن يخلق ما يستطيع من الأشكال التي لا توجد في الأدب لكن دون غرور ...."
إذا هي دعوة للحرية في الكتابة .. وقد بدأ الكاتب بنفسه.. دعوة لمبدأ التجريب ..رافضا للتقليد والسير في دوائر مغلقة.

 

" وصلا معا الشقة 33 .. دخلا غرفة النوم.. تنصل الرجل النحيف من سرواله.. من تبانة.. ولم يكن هناك فوق الخصيتين أي عضوي..أي قضيب.. أي ثعبان, فغر الرجل فاه. حدق في عيني المرأة. وتحدق في عينيه اللتين تحدقان في عينيها , ثم استرسلا في الضحك حتى مات الكلب" هي فقرة ..لكنها تمثل نصا قصصيا مكتملا ..ضمن فقرات نص بعنوان "اركسترا" . ويمكننا تأمل تلك الجمل المتلاحقة بعيدا عن استحضار بقية جمل اركسترا .. تلك الإيحاءات والدلالات التي تحملها كل جملة .. وفي نهاية النص الفقرة ..يبتسم القارئ لأسلوب المتقي الساخر الكاتب ..الذي تدعونا مفارقته للضحك متزامنة مع ضحكة الرجل النحيف والمرأة السمينة..بعد أن جاءت النهاية ساخرة عكس ما يتوقعه القارئ.
 

وفقرة .. نص آخر من نفس العنوان"المرأة والرجل لديهما طفلة.. اسمها خلود.... الطفلة تركب حصانا كهربائيا في حديقة المقهى وتعترف في قرارة نفسها.. بأن والدها النحيف ارتكب إثما كبيرا بزواجه من أمها المكتنزة, ولهذا السبب كانت تتسلى أحيانا بخنق الطيور بيديها" نهاية قاسية أن يمارس الطفل العنف مع طيور انعكاسا لنفسيته المعلولة.. وما تمثل تلك النهاية لما يعتمل في نفسية الطفلة التي تعيش ضمن أسرة تتخلل علاقاتها الجنون .
ومن نص بعنوان "سبعة أيام" والذي يحمل في طياته أكثر من نص "وفي اليوم الثالث كان يمشي على رصيف الشارع.. فاكتشف أنه يسير بلا سروال, شعر بزلزال لم يقرأ له حسابا, حتى في خصامه مع السعال, ثم ريثما تنفس الصعداء, حين وقع بصره على المارة يمشون مثله بدون سراويل..." يضعنا الكاتب في وضع غير طبيعي ومعيب في أعرافنا .. أن يسير الناس عراة.. رمزية تقودنا إلى تصور الناس يعيشون دون أغلفة.. يتعاملون على حقيقتهم .. فكيف بعيوبنا ونواقصنا. وكلنا عيوب ونواقص. انتهى النص بمفارقة غير متوقعة .. ما يبث في روح القارئ سحر السخرية الباسمة وهو يرى الشارع وقد امتلأ بالعراة ..خاصة من النساء الأرامل.

 

"قبل أذان ظهر اليوم الخامس, اشترت أمه سلة من الخبز وطلبت منه أن يذهب إلى الضريح, ليوزعها على الفقراء, فجدته أوصت ببيع بيتها , وتوزيع ثمنه خبزا, فقد يخفف عنها من عذاب القبر.وحين عاد للبيت وجد أمه تفتش جيوب أبيه" ماذا يعني أن ترسله أمه ليوزع الخبز حسب الوصية ..ثم يجدها تقاسم جيب والده عن طريق السرقة.. علاقات أسرية غاية في الغرابة أن نصلي ونكذب.. أن نتصدق ونسرق.. أن نصوم ونلعن.. أن نمارس الشعائر في اتجاه ونعمل مع المحيط بكل فسوق وعنف.. نص مدهش وفاضح من خلال تلك النهاية المليئة بالسخرية .
"السيد باء يبتلع لسانه" نص يدهش المتلقي بتعدد أوجهه فكل فقرة نص مكتمل ومنه "في ذلك الصباح نفسه .. في تلك الزاوية نفسها.. كان السيد باء يضع ساقا فوق أخرى.. إنه يحدق في الكراسي.. في النادل.. في الفراغ .. وبشكل يثير الشفقة.. كان أصدقاؤه يثرثرون.. كانوا يضحكون.. لكن السيد باء كان يحس أنه خارج عنهم.
قالوا: السيد باء تقطعت حبال صوته.
قلنا: السيد باء ابتلع لسانه"

 

من أجمل النصوص لغة ومبنى .. مشاهد وتقنية .. هي تلك الفقرات أو النصوص التي احتواها هذا النص ومنها ذلك السيد باء الذي قرر اعتزال الجميع والصوم عن محادثة الجميع.. مفارقة أن تبتلع لسانك.أو أن نكون ضمن مجتمع انتهوا من بلع ألسنتهم.
ومن نص " الجنون الذي ابتلع صاحبه" هذه الفقرة النص " غضب عبد الصبور.. دخن كثيرا.. وظل صامتا يستمع لضجيجه.. ثم عاد للمرآة ليجد نفس الرجل الذي يشبهه.. وقد حلق لحيته.. لفها في ورقة.. مدها إليه ساخرا باستئثار و..التمس منه أن يرميها في كيس القمامة" نص يذكرني بواقع الثورات العربية.. أو ما سمي بالربيع العربي.. لكن نص المتقي يشير إلى حلق لحانا حين نرى بأنها تقدمنا ككبار سن.. كما يصور كاتبنا الفرد بشخصيتين شبحية تتنازع كل منا .. ومن السهل تغيير أشكالنا في محاولة لأن نكون أكثر شبابا.. اللحية ترمز لأكثر من معنى.. وقد جاء النص في نهايته ليكون مكان قبضة الشعر مآلها سلة النفايات.
ومن "شريط القصة" عنوان نص تفوق بلغته وشكله الشعري..ومنه
" ثرثرة
ضحك
شوينكم
تصفيق
سوق
و..انطفأت مصابيح القاعة
صفير
ضجيج
أفواه واسعة
صداع الرأس

 

و.. أضاءت مصابيح القاعة الدامسة" مشهد مسرحي للحظات حضورنا عرض سينمائي.. وقد نسي الجميع أنهم تجمعوا لمشاهدة عرض يحتاج للهدوء.. فنغير كل شيء من هدف إلى لقاء يحتويه الهرج والمرج.
ومن نص "أحلام متمردة" هذه الفقرة النص "فرويد رأى طفل الزوج يبكي بين يدي جدته التي لم تمت بما يكفي, وفي محاولة للتخفيف من عوائها, أسندت رأسه الملتوية على المخدة المحشوة صوفاً, فبدا جسده الصغير أزرق, والذباب يدثره, وحين التحق الزوج بغرفة النوم, كانت زوجته هناك وراء المرآة تصفف شعرها, وكان هناك تابعه الرجل الذي يشبهه, مستلقيا على السرير , أقول كان عاريا" الشبيه أو القرين يتكرر في جل نصوص المتقي.. وبذلك الأسلوب يقدم لنا شخصيات ممسوسة.. الوهم جزء من تكوينها النفسي..اللا مبالاة.. أن يحتضر طفل بين ذراعي جدته.. وذلك الأب وتلك الأم يمارسان العجز .. نهاية نص فارق توحي بالكثير.

 

ومن نص "الرجل والقطة" " ملأت مخيلته ما , صورة ثدي زوجته وقد نخره الداء الوبيل, التفت بهدوء, فوقع بصره على صورتها معلقة على الجدار, بقي ينظر إليها صامتا , كان شعرها الأشقر مقصوصا باعتدال , وكان صدرها منتفخا كالبالون" وكانت هي .. لكنه السرطان من أفقده زوجته وما يرمز إليه الثدي من عطاء وخصب.. لتبقى الصورة والذكرى.. في مفارقة يضعها المتقي وكأن اللحظة حين نحبسها في صورة لا تموت.. وكاتبنا فنان متعدد سردا وشعرا .. وله باع في فن التصوير.
- أسلوب ساخر ضاحك.

 

هو المتقي بألاعيبه ونظرته للوجود ولنفسه تتجلى في ما يبدع. ولذلك تجد نفسك متأملا تلك النصوص وما يرمي إليها وقد قدمها بلغة رشيقة مفعمة بالحيوية والضحك .. تجد نفسك مبتسما تحاول ألا تقهقه وكأن المتقي يدفعك بسخريته وخفة دمه ودماثة تعامله. أو أنه حاضر يحدثك بأسلوبه الشيق والباسم.
 

كلمة كلمة .. جملة جملة كل ذلك يبث فينا الابتسام .. تلك المفارقات المضحكة.. هي المتقي. حين تقرأ نصا يدعوك إلى بقية النصوص.. وعندما تكمل تلك المجموعة تتمنى المزيد من أدب المتقي.
لم أتوسع في تناول فنيات تلك النصوص التي تثير في روح القارئ روح المرح والمتعة , وتستفز الكاتب للكتابة التحليلية واستبطان مكنوناتها ومدلولاتها المتنوعة. واكتفيت بأبرز ملمح لتلك النصوص .. أو فيما يتميز به المتقي في كتاباته.

 

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً