الاثنين 23 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
قراءة نقدية
دراسة في رواية سمَّ الأتراك - نبيلة الشيخ
الساعة 16:54 (الرأي برس - أدب وثقافة)

دراسة في رواية سِمَّ الأتراك 
للروائي عبدالله الإرياني 
نبيلة الشيخ .


لم تلق فترة حكم العثمانيين   في اليمن  ما يجب ان تلقاه من الإهتمام التاريخي  , فالمكتبة اليمنية  ناضبة , وكذلك المدرسة اليمنية  , والمناهج الدراسية , لا تتعرض لهذه الفترة , وتصمت عنها بشكل معيب , للذلك فلهذا النقص الكبير سواء في الكتاب المدرسي أو الحركة الثقافية التوعوية ,  فجوة كبيرة في فهم تاريخنا , واستيعاب دروسه .

 


ووجود رواية  تناقش هذا الأمر سيكون له بالغ الأهمية , وستعالج وتسد بعض الفراغ  والهوة المعتورة لثقافتنا وتاريخنا , هذا ما فعلته , إلى حد ما , هذه الرواية  المميزة في موضوعها , وفي إنتقائها  الذكي .
 

لقد وقف المؤلف في زاوية حساسة وقام بتصوير مشاهد مهمة بكاميرا واعية , ورغم بعد هذه المشاهد , إلا أنها صارت قريبة .
 

والقصة  يمنية خالصة , ويمنية خاصة , بمعني أنها لن تقرأ إلا من نخبة معينة , لخصوصيتها , ولتاريخيتها .هل كانت هذه اليمننة ميزة أم عيب , أمّا ونحن في هذا الفقر الشديد  لهذه الفترة  الهامة من تاريخ وطننا , فأظنها ميزة وميزة كبرى .
 

لكن هل كان يستطيع أن يوسع دائرتها ويشد إليها جمهورا أكبر , ويحافظ على هذه الخصوصية  في نفس الوقت ,  أقول نعم ,  ولكنه لم يفعل و لو فعل لضاعف من حصيلة الميزة الكبرى  بكل تأكيد .

 

 

العناوين 
 

سِم الأتراك , هو سِم بالكسروليس بالضم , وهو يرمز للجنبية , وبه سمَّى الرواية. ومن هذا العنوان نكتشف مفردة نادرة لم نكن نعرفها من قبل , وقليلا ما تحمل العناوين مفردة غريبة وتضيف إلى القاموس المقتنى .
فيما بعد نلاحظ العناوين الفصلية التي ملأت الرواية , وقد تعمد الروائي أن يختار لها عناوين باسم الأئمة الذين تعاقبوا على اليمن , وفي هذا توالي وترتيب للذاكرة المفتقرة لأي إسم ولأي معلومة , وتجلى ذلك في العناوين التسعة عشر التي حملت وعلى الترتيب الزمني لأصحابها , أسماءهم وأهم سمات حكمهم والأحداث التي وقعت فيه . 

 

 

تشعرنا هذه العناوين  بأننا لا نمسك برواية أدبية وإنما  بكتاب في التاريخ تسعة عشر عنوانا تعاقبت لأسماء الولاة الترك  وبلا فاصل , وكان هذا الإختيار ذو حدين , حد يجعلك تستغرق في أحداث التاريخ , وتتابع ايقاعه الحديدي , وحد آخر يوقظك من جو الرواية وخيالها ليصدمك مرة بجدار التاريخ وصلابته .  
هل كان تتابع هؤلا الولاة  كلهم كعناوين أمرا ملحا ؟  إن كان الجواب نعم ,فالواقع قد تغلب على خيال الروائي , وهذا لا يحسب له ,  لأنه استطاع  أن يجره إليه ,ويفرضه  عليه , فلما كان الروائي مشدودا  إلى الوقائع التاريخية, أكثر منه إلى فنيات الرواية وتقنياتها , فإنه قد شدنا معه إلى التاريخ , دون أن يشدنا إلى حبكة الرواية التي ضاعت في تفاصيل  الأسماء , ووقع حوافر خيول الولاة .

 

 

تقنية الرواية
 

استخدم الروائي اسلوب الإختزال , وذلك لجفاف  مادة الأحداث التاريخية , وكان بالتاكيد موفقا , فقد استطاع تغطية تواجد تسعة عشر واليا تركيا تعاقبوا على حكم اليمن او حكم  مناطق منها , وكانت تقنية هذا  التكثيف والإختزال قد قلصت من ملل القارئ غير المهتم بالتاريخ ,  والباحث عن المتعة الفنية في الرواية, وفي نفس الوقت صورت باقتضاب  الولاة  على كثرتهم وأعطت فكرة واضحة عن عقلية ونفسية الولاة الذين تعاقبوا على الحكم , وهم ما بين الزاهد والحكيم والجشع  و اللئيم والصالح والطالح وأوضحت الكر والفر الذي لازم فترتهم مع القبائل , والمرات الكثيرة التي اضطروا فيها للتفاوض مع الإمام .

 

الوصف
 

يكاد الوصف أن ينعدم في الرواية, والوصف من أهم مقومات الرواية الناحجة ,
لأنك عندما تصف  فأنك   تخلق مكانا , و أشخاصا , و أزمنة  , أو حتى أحداثا , لها لون ورائحة وصوت وقوام , حين تصف , فإنك تؤكد موهبتك , والتصاقك بتلك الشخصية , أو المكان أو حتى المشاعر.هذا الوصف  هو الذي يربط ذاكرة القاريء بأي عمل فني , فله أهمية كبرى , وهو المسبار الذي يخبرنا كم تعلق هذا الروائي بروايته وكم هو قريب بروحه أو بعيد عنها , وقد أتت الرواية  شحيحة الوصف 
وبذلك فقدت مقوما هاما من مقومات فن الرواية  الأساسية .

 

 

الحبكة :
 

هذا الطباخ الذي ابتكره الروائي , كان مدخلا جيدا وتقنية غيراعتيادية  للسرد الطباخ الذي كان جده أحد المماليك الذي أبقى عليهم السلطان سليم الأول, بعد دخوله مصر ,الذي استقر أحد أولاده في اسطنبول وتزوج فتاة تركية من عائلة كبيرة , كان بطلنا الطباخ هو أحد أحفاده , والذي أخبره الوالي أحمد مختارباشا ,بأن جده , قد تزوج من أرملة أحد القادة الكبار , وتركها حاملا تواجه مصيرها في صنعاء  , قبل أن يغادر صنعاء بأيام قليلة .
 

هنا كنت أتمنى على الروائي  لو أمسك بهذا الخيط وجعل فنية القصة تدور حول انسانية هذه الحالة بما صادفت من آلام الوحدة والهجر وتربية طفلها وحيدة , ولربطها  بأحداث أخرى حتى تاريخ وصوله شخصيا إلى صنعاء والتقائه بأحد أفراد هذه  الزوجة التركية  المنكوبة مرتين على التوالي بزوجيها , ربما لو خلق هذه الحالة الإنسانية لوجدت القصة أصداء أكثر , وللعب بالفن الروائي بمقدرة أكبر  , لكن أملي خاب  كثيرا , حين وجدت الأمر قد خلى من الحبكة المثيرة هذه,  وركز على الأحداث التاريخية , وكأنه تناسى أنه يكتب رواية  عمادها وقوامها هو التشويق واختلاق الأحداث,  التي ترسم عقد القصة عقدة  بعد عقدة , ليتم بعدها الإنفراج أو التعقيد مرة أخرى .
 

لكنه سار ولم يعقب , غارقا في عالم الولاة وسرد تفاصيل أيامهم,  أكثر مما التفت إلى تقنية الرواية, وبث روح الحماسة  فيها, فجاء السرد خاليا من لحظات التوتر منسابا برتابة العادي , الذي غرق في التاريخ لكنه طفى على سطح الرواية .

 

 

الخاتمة :
 

ناضل الروائي وبطريقة ذكية , اختار محطة هامة جدا , استطاع منها , أن يوجه الرواية من جديد , إلى حافة الإثارة , والتشويق , وإن كان الوقت قد تأخر , لكنه برع في الوصول بالرواية إلى هذه النقطة التاريخية المعاصرة , التي سيكون القاريء شاهدا على أحداثها , ومؤولا لما سيغمض , من الأحداث التي لم تكن مفسرة بما يكفي , وبالتالي يشركه في التخيل , والتوقع , والاستنتاج , وهنا يكون الروائي قد جر بيد القاريء من جديد إلى قلب الرواية .
 

لهذا فقد جاءت النهاية أكثر إثارة , فبلقيس _ اليمن_ الذي قتل إمامه الجائر , فخلفه إمام  أكثر جورا ,  بلقيس التي نشطت كثائرة , تحلم بالخلاص , وتجتمع مع الثوار , تكتب لهم المنشورات , وتحلم بالشمس القادمة معهم .
لكن سِم الأتراك , غدا سِم اليمنيين , ما هكذا كان حلم بلقيس ورفاقها, لقد حلموا جميعا بسقوط سم الاتراك واليمنيين معا ,الذي هو كما قال الروائي , الفساد والظلم والتخلف والجنابي ,لكن الإمام المنتقم الذي سمح للقبائل بنهب صنعاء , فأخذوا كل شئ , وتسمرت بلقيس , حتى حين اغتصبوها , كانت تحترق فالسم هو من اغتالها 
سمِ اليمنيين أنفسهم , اغتصبت بلقيس دون مقاومة , لم يكن أحد بجوارها ,  واختفت عن الأنظار , وعن الثوار .

 

 

وظل حافظ أحد الثوار الأربعة الذي عاش حتى التسعين من عمره , يبحث عن بلقيس في كل يوم , طوال سنوات عمره الستين الباقية , فقد كان في السادسة والعشرين حين تم الفتك ببلقيس , لكنه لم ييئس , ظل يبحث عنها في كل يوم , يتلفت وأمل ما يخبره أنه سيجدها , لكنه مات وهو يناهز التسعين , سقط ميتا 
ما بين ميدان التحرير وساحة التغيير .
وهكذا نخرج من هذه الرواية , وقد استفدنا بكل تأكيد , واستمتعنا أيضا , والتفتنا لزمن من أخصب وأقرب تواريخنا , لكنه من أكثرها تجهيلا وتجاهلا , فالكاتب هنا يحسب له هذا الحس العالي في الانتقاء , وهذا النفس الطويل في السرد التاريخي الغير ممل بالقياس  لجفاف الفترة وغزارة أحداثها , فقد قدمها بجهد كبيرمحاولا أن  يقلل من وطأة وحدة أحداثها .
وإن كان قد  تم ظلم الرواية  كفن مدهش , إلا أنها بقيت علامة مميزة  في إرشيف الروائي  وإرشيف المكتبة اليمنية .

 

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً