الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
بمناسبة عيد الأم: - مصطفى لغتيري
الساعة 17:26 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)


هذه أمي كما عرفتها وأحببتها.. وباسمها أهدي ما خطته يداي في هذا الكتاب إلى جميع الأمهات ، اللواتي يهبننا الحياة، ويسعين جاهدات ليقدمن لنا العالم كغنيمة حرب، نتصرف فيها- في كثير من الأحيان- برعونة ، غير عابئين بما تكابده تلك الجنديات النبيلات من أجل أن ننعم بتلك الهدية..
 

الفصل الأول: البرتقال
 

مقطع
لأمي رائحة البرتقال ونعومته 

 

.. إلى يومنا هذا كلما تناولت حبة برتقال بين يدي، وشرعت في تقشيرها، تمثل في الذهن والقلب صورة أمي، متألقة، ناعمة، ومفعمة بالأحاسيس الجياشة .. أخلص البرتقالة من قشرتها قطعة قطعة، تدغدغني هشاشتها ... أبتسم ... أحلم .. ويغمرني شعور بالأمان .. يتناثر رذاذ خفيف يشبه غازا ينبعث من مسام القشرة، التي تنتشر كثقب صغيرة ودقيقة على امتداد سطحها الأملس، الناعم.. مع كل قطعة أتخلص منها يحضر ملمح من ملامح أمي.. تدريجيا تستقيم صورتها، فينبني في أعماقي بصيص من فرح .. ذكرى سعيدة .. أحلام داعبت وجداني في لحظات منفلتة من الزمن الجميل ... ذلك الزمن البعيد/القريب، حين تسللت كلمات أمي إلى لب سمعي، دافئة، شفافة، ومترقرقة .. تستقر في بركة الذات، هادئة مطمئنة لتؤثثها بصفائها الأزلي الأثير.. تتسرب كلماتها عبر طلبة الأذن، ثم تسلك طريقها من خلال شعيرات دقيقة، تقتحم الخلايا.. تحنو عليها، فتدفعها بلطف نحو الباحة السمعية.. هناك يتحفز الدماغ مبتهجا، يستقبلها كأجمل الهدايا المحتملة في مناسبة سعيدة. يترجمها إلى أجمل المعاني وأرقاها، منه تبعث إشارات إلى القلب، يفهم الرسالة، فيخفق جذلا، كعصفور فاجأته شساعة العالم بعد أن قضى في الأسر مدة طويلة، بعد ذلك تتواطأ جميع الحواس لتخزن العبارة في أكثر الأمكنة مناعة ، في أحد رفوف الذاكرة. ينفتح الرف، يستقبلها بلطف ثم يدثرها برياش ناعم خوفا عليها من أي عطب محتمل. من مكانها هناك تطفق تغذيني بما يلزمني من طاقة وقوة.. حتما سأحتاجها في الأوقات الحرجة، حين تلعب الحياة مع لعبتها، وتهوي ثقتي بنفسي إلى الدرجة الصفر على سلمها الزئبقي. كلمات أمي كانت بسيطة وعميقة، وكأنها لم تنطبق بها أبدا، فقط ارتسمت على محياها، فبدت وكأنها أفصح عبارة تبتكرها اللغة، منذ أن فطن الإنسان إلى هذه الأداة الخطيرة. قالت أمي تخاطبي في لحظة لا أتذكر تفاصيلها: "أنت أجمل طفل في العالم. إياك أن تسنى ذلك. أو تسمح لشخص أن يقنعك بغير ذلك". 
 

ولم أنس ذلك أبدا
.. بمرور الزمن ترسخت هذه الكلمات في ذهني، أمي ساعدتني على ذلك. كل ما تقوم به تجاهي يساهم بقسط وافر في تثبيتها في رف الذاكرة. 
كلما تذكرتها يخفق قلبي، فأحس وكأنه عازم على مغادرة مكانه، يتوق إلى التحليق عاليا في الأجواء البعيدة
.. على أساس هذه الكلمات أمضي في حياتي، معتزا بنفسي، نرجسيا، فخورا بكوني أجمل طفل في العالم . حتى المقارنة مع أقراني. لم أتكن ذات جدوى. لا معنى لها ولا أحتاجها. يكفي أن أمي نطقت بها، وملأتني بظلال معانيها الجميلة. 
دوما كنت مفعما بذلك الإحساس الجميل، الذي منحني القوة والإصرار بفضل كلمات أمي لأشق طريقي في دروب الحياة .. بفضله كنت قد نلت الكثير الكثير .. ... ظلت كلمات أمي مترسخة في مكان ما من الذهن والذاكرة والوجدان، عالقة في أناي القديمة، تقاوم بإصرار المحارب، ولا يمكن لأحد أن يمحوها إلى الأبد . 
لا زالت إلى اليوم تحكم حياتي، تختلس لها طريقا سريا
, وتفرض نفسها على كل الحقائق الجديدة التي راكمتها الذات يوما بعد يوم . دوما أقنع نفسي بأنني كنت الأجمل . يشبه ذلك إلى حد بعيد ومن بعض الوجوه المتفائلة رئيس دولة سابقا أو سفيرا سابقا أو على الأقل مسؤولا سابقا، ألفظها في خفوت وخجل، لكنها تعطي مفعولها، وإن لم يكن ذلك بالشكل المتوقع .. حينما أجدني ضحية لظروف صعبة، تبعث على الحزن والإحباط، أرجع القهقرى، أفتش على كلمات أمي، حضنها الدافئ، ولا يخيب مسعاي أبدا، ما إن يحدث ذلك حتى ينبعث في نفسي فرح غير متوقع. يكفيني أن أتذكر أنني كنت أجمل طفل في العالم لتنبت الفرحة في أعماق أعماقي، وتشق طريقها بإصرار ومرونة نحو شفتيّ فتفترا بلطف عن ابتسامة تطيح بكل القلق الذي كان إلى فترة قريبة يحاصرني.. وتطوح به بعيدا حيث لا أمل له في العودة إلا بعد حين.
إنني أجمل طفل في العالم، وفضلا عن ذلك أتناول كل يوم برتقالا هشا، لطيفا ولذيذا، دلحا، يتدفق ماؤه في جسدي الضئيل ، بعد أن أضغط بأسناني الصغيرة على لبه المائل إلى البياض
. قبل أن أفعل ذلك كان يعجبني أن أتأمله. أمسك بين أناملي أصبعا من أصابعه، التي كانت ملتفة حول نفسها لتكون كويرة بديعة الصنع.. كانت تأسرني تلك الخيوط البيضاء الدقيقة، شديدة العطب، التي تنتشر على امتداد أصابع البرتقال. بصبر أنزعها خيطا، خيطا، والحبور لا يفارق وجهي الصغير.. ثم أشق البرتقالة إلى نصفين، أنزع الأصابع متتالية وبحرص أرتبها أمامي.. أتناول واحدة. أنظر إليه بفرح وتوقع واعد .. شبكة من العروق الدقيقة تتمدد متداخلة، تبدو كمتاهة لا توصل إلى أي مكان بعينه. أشق أإصبعا أرى داخله حويصلات صغيرة مستقلة عن بعضها البعض، ومترابطة في الآن نفسه. تلك الحويصلات تمتلئ بالسائل الأصفر اللذيذ. أعض على نصف إصبع، يتحلب في فمي.. تنتشر اللذة تدريجيا في كل جسدي.. يتنمل لساني للحظات ينقبض دماغي قليلا، ثم يرتخي فجأة. يشعرني ذلك بكثير من الانتشاء. أتوقف قليلا. أتلمظ مذاق البرتقال الوالغ في فرادته.. بعد حين أضيف النصف الآخر، ثم أجهز على البرتقالة كاملة، محافظا على نفس الطقوس، وكأنني أخشى أن تنفد الأصابع، غير أن ما تناولته يشعرني في نهاية المطاف بكثير من الامتلاء والنشوة.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً