الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
صبري موسى في "أمكنة لا تُفسد أبدًا" - منير عتيبة
الساعة 15:17 (الرأي برس - أدب وثقافة)

 

لأن الضجيج يحاصرنا، والأصوات العالية تستولي على آذاننا، والأسماء الكبيرة الفارغة تسد الأفق أمام أعيوننا، فلن يكون اسم (صبرى موسى) أحد أوائل الأسماء التي تَرِد بالبال عندما تقول من هم أهم عشرة كُتّاب أثروا بك؟ ما هي أهم الروايات التي قرأتها في الأربعين سنة الأخيرة من حياتك؟.

ليس هذا ذنب صبري موسى، إنه ذنب (الحالة) الثقافية الراهنة، الراهنة ربما منذ ما قبل (نحن جيل بلا أساتذة) صيحة محمد حافظ رجب؛ الصارخ بلا جدوى فى برية الثقافة المصرية.

مرت بحياتي فترة تستحق أن يكتب عليها اسم صبري موسى وحده، قرأت بالتتابع فساد الأمكنة، ورحلات صبري موسى، والغداء مع آلهة الصيد، وحكايات صبري موسى، وسيناريو فيلم البوسطجي.

كانت أعماله تقدم لي تجربة قرائية مختلفة، ممتعة ومؤلمة معًا لما بها من صدمة تتلقاها الذائقة التي اعتادت أن تقرأ لمبدعين كثيرين مختلفين لكن يربطهم جميعًا خيوط متشابهة، هذا الكاتب لا يربطه أيّ خيط بأى أحد، هو نسيج وحده.

أخرجتنى فساد الأمكنة من الحارات والشقق الضيقة، إلى براح الصحراء، بريقها وقسوتها، من الأحاسيس المعتادة التى يبرع الكتاب فى اللعب باللغة للتعبير عنها، إلى بكارة أحاسيس وعلاقات فى منتهى العمق والطزاجة لا تمثل اللغة سوى وسيط غير مرئي يدفع بها إلى عقل القارئ فيهزه، وإلى قلبه فيحركه من مكانه ولا يعيده أبدًا مثلما كان.

علمتني الحكايات والرحلات كيف يمكن أن تقول اللغة الكثير جدًا بأقل كلمات ممكنة، وكيف يمكن أن يكون الكلام الكثير لا شئ مجرد (فشار) أو (غزل البنات) هائش ومنفوش وربما جميل الشكل، لكن قلبه خاوٍ من معرفة حقيقية، فهمت أن الكاتب الذى لا يعمل على خلق لغته الخاصة وتطوير هذه اللغة باستمرار هو أى شيئ إلا كاتب.

وقفت كثيرًا أمام سيناريو فيلم البوسطجي الذى يعد واحدًا من أبدع قصص يحيى حقي، فقد كنت مولعًا بقراءة سيناريوهات الأفلام في تلك الفترة، سيناريوهات عربية وأجنبية، كانت فكرتي أن السيناريو هو خطة العمل التي يعدها الكاتب لتكون نقطة انطلاق المخرج لإبداع فيلمه.

لكن صبري موسى أبي أيضًا إلا أن يخلخل هذه القناعة، كتب سيناريو يحقق متعة للقارئ لا تقل عن المتعة التي تحققها قصة يحيى حقي نفسها، كتب لكل من سيقرأ وليس للمخرج فقط، فجعل من كل قارئ مخرجًا، وجعل من المخرج أحد القراء المحتملين لتقديم وجهة نظره من خلال هذا السيناريو.

كنت كالمجنون وأنا ألهث ما بين سطور السيناريو ثم أعود إلى قراءة القصة ثم أدقق النظر فى لقطات الفيلم المنشورة مع السيناريو ثم أنتظر بلهفة عرض الفيلم في إحدى قناتي التليفزيون المتاحتين في هذا الوقت الأولى والثانية لأقارن بين المعروض وبين ما كتبه صبري موسى.
ثم..
نسيت صبري موسى، ليس ذنبه أيضًا أنه لا يحب الضجيج، وأنه مبدع وفقط وليس مدير دعاية وإعلان، وأنه نبيل وليس محاربًا من أجل كل شي إلا الأدب؛ ككثيرين.

تذكرته وأنا أشعر بالإحباط عندما ذكر اسمه لنيل جائزة كبيرة، كان هناك ارتياح وفرحة لدى كل من شاركوا في هذا المهرجان، لكن الجائزة ذهبت لكاتب آخر حصل على كل الجوائز المتاحة حتى الآن، فأثارت لغطًا، وأثارت إحباطًا، انحازت لجنة التحكيم إلى غير المختلف وإلى ما تحت الضوء، فظل صبري موسى هناك في ركنه الخاص، الخاص جدًا، المعتم قليلًا، لكن ما به من ضوء ليس به أى قدر من زيف.

أماكن كثيرة احتلها صبري موسى في عقلي، في قلبي، فى ذائقتى القرائية، فى معرفتى الإبداعية، أماكن لم تفسد كما أتمنى، ويا ويلي إن فسدت يومًا.

 

منقولة من بوابة الأهرام...

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً