الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
فاطمة وهيدي تكتب قصصا "كسيرة"جدا - مصطفى لغتيري
الساعة 12:51 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)


لا شك أن القصة القصيرة جدا قد قطعت أشواطا كثيرة ومتسارعة في المشهد القصصى العربي، وقد تحقق ذلك بعد أن رسخ هذا الجنس الأدبي الجميل أقدامه في الساحة الأدبية العربية، من خلال انتشاره على رقعة الوطن العربي من الماء إلى الماء، عبر كثرة الإصدارات والمتابعات النقدية لنصوصه ومن خلال تعدد المهرجانات المحتفية به.
 

وإن كان لكل من سوريا والعراق والمغرب قصب السبق في الاهتمام بهذا الجنس الأدبي الوليد فإن دولا بعينها سجلت حضورا قويا ومتناميا في الاحتفاء بالقصة القصيرة جدا كالسعودية وفلسطين والأردن واليمن والسودان... وفي المدة الاخيرة أطلت علينا مصر بوجهها الإبداعي الجميل المحتفي بهذا الجنسي الأدبي الأجمل من خلال ثلة من المبدعين، الذي أبوا إلا الدلو بدلوهم في صياغة مصير هذه المحبوبة القصيرة جدا، ومن بين هؤلاء المبدعين ضيفتنا الكريمة الكاتبة فاطمة وهيدي، التي دأبت على نشر كثير من إبداعاتها على شبكة الأنترنيت متغلبة بهذا التوجه على مشكلة وصول الكتاب الورقي إلى عشاق هذا الجنس الأدبي في الوطن العربي.
 

والمطلع على المجموعة القصصية القصيرة جدا، عفوا "الكسيرة جدا" للمبدعة فاطمة هويدي والتي ارتأت أن تعنونها ب"ما لن تقوله شهرزاد" سيلاحظ لا محالة أن الكتابة القصصة عند وهيدي تتميز بخصائص معينة، فالإضافة إلى أركان القصة المتوفرة في نصوصها، من قبيل التكثيف والجملة القصصية المناسبة لهذا الجنس، والحدث الوامض، والاعتماد على خلق المفارقات، فإن الكاتبة جعلت من السخرية عمادا أثيرا لإبداعاتها، إذ لا تكاد قصيصة من قصيصاتها تنأى بالقارئ عن هذا الملحمح، سواء كان ذلك بشكل مباشرأو بشكل غيرمباشر.
 

ويمكن أن نلمسه انطلاقا من التجنيس الذي اختارته المبدعة لقصصها القصيرة جدا، والقصد هنا "قصص كسيرة جدا" فهنا روح الفكاهة والسخرية حاضرة من خلال التلاعب بالكلمات، فكأنها الكاتبة تقول لنا من خلال هذا التجنيس الطريف إن هذه القصص صغيرة في السن، وما تزال تروض اللسان على الكلام السليم، حتى أنها لا تحسن نطق حرفي القاف والصاد بشكل ملائم ، فهي تعاني من لثغة في اللسان فنطقت القصيرة "كسيرة".
 

وإذا ما تجاوزنا العتبات وولينا وجهونا قبل النصوص، فإنناغب كل قراءة لقصيصة من قصيصات المجموعة أو أغلبها ترتسم لا ريب على شفاهنا، تلك الابتسامة التي تنتج عن التوظيف الذكي للمفارقات، التي تكون واضحة ومستفزة حينا ومضمرة ولينة أحيانا أخرى، تقول الكاتبة:
 

غَيْـرَة
تشتعلُ النارُ في صَدرِها ،
كُلَّما غَضَّ بَصَرَهُ وازدادَ وَرَعًا وتَقْوَى .
سألهَا مُتعجبًا : لِــمَ ؟
قالت : ستدخلُ الجنةَ ، وتَأسِرُكَ حُوريّاتٌ عِينٌ ! .

 

فنلاحظ هذه المفارقة في هذه القصصية الناتجة عن الغيرة، فالحبيبة تخشى دخول حبيبها الجنة لأنها تخاف من منافسة حورالعين لها على قلبه، فكلما استقامسلوكه وغض بصره وهو عنوان للتقوى كما يعرف الجميع، تشتعل النار في صدرها غما وكمدا خوفا من هذا المصير الذي سيجعلها في حالة يرثى لها.
 

أما في قصة عاطل التي تقول فيها:
قَدَّمَ خيالُ المآتة طَلبَ استقالةٍ.
سأله صاحبُ الحقلِ مُتعجبًا :
مَكثْتُ وقْـتًا طويلاً في تَهْيِئتِكَ
وَكِسْوتِكَ بِبعضِ ملابسي
فما الذي يُزْعِجُكَ ؟
أجاب :
فَعَلْتَ كُلَّ هذا ، ونسيتَ زِراعةَ الحَقلِ !

 

لقد وظفت القاصة مايسمى بالفزاعة التي تنتشرفي الحقول من أجل صد الطيور حتى لا تلتهم الحبوب، من أجل خلق مفاقة ساخرة، فصاحب الحقل ينخرط في حوار عجيب وغريب مع خيال المآتة الذي يطلب الاستقالة، لأن الفلاح صرف كل وقته في تهييئه بالملابس حتى أنه كساه بثيابه الخاصة، فيما نسي أهم شيء ألا وهو بذر القمح، فأضحى خيال المآتة عاطلا عن العمل، إنها قصة تزخر بالرمزية العنية بالمعاني والدلالات، التي يمكن لآلية التأويل أن تستنطقها بما أبت السطوران تصرح به على رؤوس الأشهاد، وذلك لعمري هو ديدن الإبداع الحقيقي الذي يلمح أكثر مما يصرح.
 

وقد طالت السخرية في المجموعة الكتابة نفسها وممارسوها،الذين يفتتقرون للجديةالمطلوبة في مقاربة النصوص، إذتطغى عليهم المحاباة، خاصة في الأجواء الجديدة الذي خلقتها الشبكة العنكبوتية ومن بينها طبعا الموقع الاجتماعي الفايسبوك، الذي يفتقد فيه المبدعون الموضوعية المرتجاة في التعامل مع النصوص، فما إن يكون النص لامرأة حتى تتناسل البصمات المحتفية والكلمات والمهللة، بل لا يكتفي نوع من القراء بذلك بل قد ينصبون صاحبة النص رائدة للحداثة، كما جاء في قصة حداثة التي تقول فيها وهيدي:
 

حداثـة
على مائدةِ الجِدالِ ،
أخذوا يُشَرِّحُون النصَّ ،
حينما أعلنت حسناءُ عن مِلْكيَّتها له ؛
مَلَكَتْ قلوبَهم ،
فـ نَصَّبوها رائدةً للحداثة ! .

 

والملاحظ أن الكاتبة قد نوعت مواضيعها بشكل كبير فحاولت أن تأتي من كل "فن بطرف"، فجعلت من العلاقات الإنسانية ضالتها، تترصد حركاتها وسكانتها بكثير من الصبر والأناة، جاعلة من كل تجلياتها مادة خصبة للسخرية، ولم تسلم من ذلك حتى العلاقة الزوجية، حين قالت القاصة :
 

لِقـاء
أَقْسَمَ أنّه لن يُكرِّرَ خِياناتِهِ ،
أَقسَمَتْ أنّها لم تَخُنْهُ قَطّ ،
الْتَقَيَا مصادفةً عند شَيْخِ مَسجِدٍ ،
يَسْألانِهِ عن كَفّارةِ اليَمين .

 

فكل من الزوج والزوجة في هذه القصة يعاني من نفس المشكل ويسلك نفس السبيل، بما يعني أن المجتمع قد عرف تحولات عميقة لم يعد معها الاستسلام إلى الاقتناعات القديمة واردا، فكل شيء يتغير بسرعة غير مألوفة، حتى أتنا أصبحنا أمام أشكال أخرى في تصريف وتدبير العلاقات الإنسانية وضمنها العلاقات الزوجية طبعا.
 

ويلاحظ كذلك أن الكاتبة اعتمدت في جل قصصها لغة وصفية تحاول أن تكون محايدة تنقل الحدث بكثير من التجرد، لتجعل القارئ وجها لوجه مع ظواهر اجتماعية ونفسية وثقافية، ليتأمل ويطلق عليه أحكامه في نهاية المطاف دون أن يكون قاصيا في حكمه فالأمر لا يتعلق – في البداية والنهاية- سوى بقصص كسيرة جدا.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً