الاربعاء 25 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
سَفَرْ- بدرية مانع
الساعة 12:42 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 


نظرتُ من النافذة المجاورة ملياً،
يالروعة تلك الأشجار بمنظرها الطبيعي الخلاّب، إنها تفوق بجمالها اللوحات المتخمة باللون الأخضر المصطنع..!
كم تمنيت أن لا تنتهي رحلتي التي كنت بأمس الحاجة لها، فعلاً بقاؤنا بقماقم منازلنا يحيلنا لأباجورات عتيقة يعلوها الغبار !!

نتأخر كثيراً بالداخل..، وحين نهمُّ بالخروج، نسابق الزمن كي نمسح غبارنا..، ولا يتبقى لنا سوى سويعاتٍ قليلة من يومنا المُتعب، المنهك، لنتذكر أننا نسينا أنفسنا، ولم يغادر سوى الظل..!
" كم هو مؤلم أن تمضي وقد تخلى عنك ظلك.." ربما..، وأقنعة أخرى عديدة نرتديها عندما نكون بالخارج!
رفعت عينيّ لألمح الشمس وابتسمت..، "لأول مرة أرى الشمس وأنا لا ألاحق الزمن"
فهي دوماً تهم بالمغادرة كلما رأتني، أو أظنها تعود للداخل حين أهم أنا بالخروج..!

أولئك القرويون المثقلون بالغبار،  إنهم كالشمس ينتهون عندما نبدأ، جميل حقاً تماهي شعورهم، وهم يعملون، بمايدور في الإطار المحيط بهم، أوبما نطلق عليه نحن إجمالاً، المجتمع.
يحرثون أرضهم وهم يترنمون بأغانيهم القديمة..، وبين كل ضجيج العمل، أكثر ما يصلنا منهم هو الهدوء !

فكّرتُ..، حتماً كل تلك النسوة لا يلقين بالاً بِدُور عروض الأزياء ولا يُهِمَّهُنَّ، بأيِّ حال، أمر كريستيان ديور ونيناريتشي..،
" لا بأس، فرائحةُ الأرض دائماً تسود المكان.."
إنهم، وبفخرٍ، يقومون على سقاية أرضهم المباركة ليجنوا قوتهم فيما بعد، ولعلهم يتباهون فيما بينهم بأكفهم المتشققة، وبِسُمرة الشمس..!

يحلمون بعيداً عن عوادم السيارات ومخلفات المصانع، على الرغم من أن الحضارة تزحف ناحيتهم لتأكل أرغفتهم وتلوث غبارهم بالأدخنة..!

صوتٌ قريب..، لعمري أنك ستلوذ بالفرار لمجرد أن تضع قدميك المتزحلقتين على الأرض المليئة بالوحل، المرصع بالحصى..،  فحذاؤك المتلألئة صنعت خصيصاً للأرصفة..!

كان رفيق رحلتي شيخٌ ريفيٌّ مُسِن، ولعله أمعن النظر بشرودي عنه،
نظرت إلى حذائي وأنا أفكر؛ "حسناً، قد يكون على حق"
نظرتُ إلى رفيقي القروي لحظات، ربما حسبها دهراً، لذا طَفقَ يقول: لا زِلتَ طرياً، لكنه التراب منه، وإليه..!

"لا أعلم لِمَ جالت بخاطري صورة مائدة والدتي الممتلئة باللحم و..  جنون البقر"، هنالك الكثير من البقر أيضاً، التفت إلى النافذة مشدوهاً، أعتقد أن كل ذلك يرتبط بالأجبان والزبدة والحليب، إنها رائحة الزمان والمكان.

إبتسم الشيخ المُسِن..، كلها أمور تختلف عن الحقائب والأمتعة.
حسناً.. الآن وجدت نفسي مرغماً على خوض غمار حديث لا أطيقه..،

لا فرق أن يغطيك الغبار أو العطور !، في النهاية جميعنا يعمل ويعود متعباً، لا نحمل معنا سوى العَرَق.

إن ذلك المُسن يضطرني لا ستخدام ألفاظ مقلَّدة، لا تمت للماركات بأي صلة..!
 عذراً شانيل؛ فأنت عطري المفضل، لكنها إجابة جيدة
" أعتقد ذلك"، فقد بدا على الشيخ الرضا..

إستند للخلف متأوهاً، إنه يبدو كسفينة الصحراء نوعاًما؛ تلك التي كنا نطلقها على الإبل، كلما قلَّبنا صفحات كتبنا الدراسية، أو لمحناها بمسلسل بدوي، يقبع بين كومة نفايات الأقمار الصناعية، وما تلقيه إلينا من ترهات !
داهمته نوبة سعال قوية، ظننت أن لا قائمة له بعدها، أسرعت أناوله قنينة الماء، وأبحث في حقيبة اليد علني أجد ما يسعفه لتهدئة سعاله، ولوهلة شعرت بصوته يخترق أذناي، ليخرج من النافذة، لكني ابتسمت بارتياح حين أشار لي بالنفي، وبأنه سيكون أفضل.

عدت لنافذتي، كانت الطبيعة تغلبني..، تسمرت عيناي ترقبان كل تفاصيلها..، " قد أرجع للداخل ثانية، ولا أخرج "
كل تلك اللحظات لن أضيعها، سأكتفي بمراقبة ظلي المنعكس من زجاج النافذة، فأنا أرقب كل شئ من هنا؛ الطبيعه، الغبار، وظلي!
"جميلٌ أن تكون مسيطِراً وأنت بمقعدك..؟!!"

أظن أن جحوظ عينَيَّ الملتصقتين بالنافذة خَيّل إليّ أن تمثالاً من الطين يتصاعد خلال العشب الأخضر، يقترب مني ويحاول اختراقي.
مددت يدي مبدداً هاجسي..،
" إبتعد عن نافذتي، فأنا أرصد العالم وأحكمه من هنا،
فكّرتُ.." تنتابنا أحياناً أفكارٌ تشبه الحشرات، تضطرنا لأن نمد أكفنا بقرف، لصد هجماتها المرتدة"
نظرت بترقب رفيقي المسن، لا أدري لمَ لمحتُ بسحنته التي لفحتها الشمس مراراً، كتمثال الطين..!
قلت وقد انتابني شعورٌ قرويٌ: ماذا عنك الآن أيها الشيخ؟
ابتسمت كل قسمات وجهه الأجعد معه "ما أكثرها، وما أجلّها"
إنهم أولئك الذين لا يقلقهم الزمن، وعلامات الشيخوخة، ولا تعيبهم الكهولة بل تزيدهم وقاراً.

حمد الله بتعظيم، كان يجيد الحمد، وتلك كانت إجابته الدائمة عن حاله،
كما ترى..، شيخٌ مسنٌ متنقل!
لحظات قصيرة مضت وفوجئت به يهم بالمغادرة، حاولت مساعدته لكني رأيت أنَّ لا شئ يستحق
"إنه يحمل كيساً رثاً يتناثر منه البرسيم"
ربما لمح نظراتي المتفحصة لما يحمله، فالتفت إليّ مودعاً، وهو يردد : إنظر ..، أنت كالعشب الأخضر، تتنفس الهواء، تشرب الماء، وتبحث عن الشمس، لكي تنمو..!
إنها الطبيعة، تلك التي تحتاج نقاءك وطهارتك فقط، وما دمت تحلم.. فأنت قرويٌّ كما نحن. 

مضى بهدوء..، تطلعت إليه وهو يتلاشى بفروعه الممتدة في الأفق..، إنني أحلم، وذلك القرويّ
لم يكن سوى "شجرة".

- تمت -

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً