الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
عائشة القديسة رواية مصطفى لغتيري
الساعة 13:34 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 


الفصل الأول        
 

حول منضدة، بالقرب من البوابة الكبرى للمقهى، تحلقت ثلة من الأصدقاء، في جلسة مسائية، دأبوا على عقدها كواجب يومي، فرضته ظروف عملهم بهذه القرية القابعة على مشارف البحر، في نقطة محددة، على الطريق الرابط بين الدار البيضاء وأزمور.
 دون اتفاق مسبق، وجد كل منهم نفسه يرتمي في أحضان الآخرين، كنوع من رد الفعل على غربتهم بهذه القرية النائية، غريزة الاحتماء جعلتهم يرتبطون فيما بينهم بشكل حميمي، في غفلة من الزمن تمدد خيوط دقيقة تنقل الدفء إلى أفئدتهم، يجلسون كل مساء في البهو الخارجي  
للمقهى، يلوكون كلمات لا يملون من ترديدها، كل منهم يحرص على أن ينقل للآخرين ما استجد في عمله، ينغمسون في أحاديث لا تنتهي، الحرص على الحفاظ على توازن ما، كان يحبب إليهم ممارستهم هذه..
 أحمد الممرض في المستوصف المحلي، أعشت بصره أشعة الشمس المنفلتة من سطوة السحب المتراكمة هذا المساء، تتملكه رغبة جامحة في الحديث ككل يوم عن مشاكله التي لا ضافاف لها .. أبطالها دائما هؤلاء البدويون الذين يعيشون بينظهرانيهم. تجنب الأشعة، حدق في يحيى الموظف بالبلدية، وبلهجة أرادها أن تكون مشوقة قال له: 
-    يحيى، أتعلم ماذا حدث لي هذا الصباح؟
    رد عليه بلكنة ساخرة: 
-    ماذا؟ هل عضك أحد المصابين بداء الكلب؟
تتلفت قهقهة من العربي الموظف بالجمارك، والذي أجبرته الظروف على ترك مدينة الدار البيضاء والنزوح إلى القرية للإقامة مؤقتا كما يؤكد دائما، في بين أحد أصهاره الميسورين، منحه له عندما اشتكت أخته من عدم قدرة الزوج على تسديد واجب الكراء المرتفع.. لجم ضحكته ثم قال موجها كلامه  ليحيى: 
-    اتركه يكمل كلامه، فأنا كذلك أريد أن أحكي لكم ما حدث لي قبل يومين.
أجال الممرض بصره من حوله، وكأنه يريد من الجميع أن ينصتوا إليه باهتمام .. لاحظ أن سعدا المعلم في مدرسة القرية ما يزال يغوص في كتاب يحمله بين يديه، فوجه له الكلام:
-    آ سي سعد ... ألا تتعب من القراءة؟ اترك الكتب للمدرسة، واستمع إلي.
رد عليه دون أن يرفع عينيه عن الكتاب:
-    ماذا هناك؟ حكاياتك لا تنتهي، وأنا أريد أن أنهي هذا الكتاب لأرده إلى صاحبه غذا.
في تلك الأثناء جاء النادل ووقف جانبا، نظر إليه الممرض شزرا، ثم خاطبه بكلمات خالية من الود: 
-"كالعادة"
انسحب المادل وهو يهمهم بكلمات مبهمة.. فيما لمع بريق في عيني الممرض، وهو يهم بسرد حكايته.. اندلقت الكلمات متسارعة من فمه: 
-هذا الصباح، وقبل أن يلتحق باقي الممرضين بالمستوصف، فاجأتني امرأة متوسطة السن، أستطيع أن أجزم أنها في الأربعين من عمرها، تقدمت نحوي بخطوات مرتبكة، ثم توقفت غير بعيد عني والتردد يترنح على ملامحها.. من خلال ملابسها تبدو أنها بدوية متأصلة في البداوة.. سألتها: 
- تقدمي.. ماذا تريدين؟
اعتلاها الارتباك.. دنت مني بشكل ملحوظ وأخذت تفتح محفظتها.. أخرجت منها ورقة نقدية، دستها في جيبي، فنهرتها قائلا: 
-    ماذا تفعلين؟ ما هذا؟
لم يترك يحيى الفرصة تفوته، فتدخل: 
-    لا تخجل منا. نحن أصدقاؤك.. أنت ترد للمرأة نقودها؟ عجبا !
علامات الغضب ظهرت على وجه الممرض: 
-    ماذا تعني؟ أنا مرتش؟ 
رد عليه بابتسامة تحتل شفتيه:
-    لا. من قال هذا؟ فقط أعني أنها هدية والنبي قبل الهدية..
خفت حدة الغضب من ملامح الممرض حين قال: 
-    أتظن كل الناس مثلك؟
انتقل الغضب إلى عيني يحيى، فوجه كلمات حادة إلى الممرض: 
-    ماذا تقصد؟
رد عليه الممرض: 
-    الله أعلم.
حاول يحيى أن يقول شيئا إلا أن العربي الجمركي تدخل بشكل حاسم:
-    كنا عاقلين، وإلا ذهب كل منا إلى بيته. يحيى أرجوك... تابع آسي أحمد ماذا حدث فيما بعد؟ 
تابع الممرض كلامه: 
-    تصور، المرأة تريد مني أن أساعدها على الإنجاب..
تدخل يحيى وبابتسامة ماكرة تتداعب شفتيه:
-    كيف؟ هل تريد أن...؟
رد عليه الممرض: 
-    العن الشيطان ولا يذهب تفكيرك بعيدا..
اعتدل الجمركي في جلسته.. أخذ سيجارة من العلبة الحمراء، التي يحرص على وضعها أمامه على المنضدة، وفوقها قداحة ذهبية اللون.. أشعل سيجارته، التفت نحو النادل الذي وصل في هذه الأثناء يحمل صينية مستديرة بها "براد" ومجموعة من الكؤوس، وضعها على المنضدة أمام يحيى، وقبل أن ينصرف خاطبه المعلم سعد: 
-    كأس ماء بارد، من فضلك...
وحتى لا ينفلت عقد الحديث، حض الجمركي الممرض على مواصلة الحديث: 
-    وماذا فعلت بعد ذلك؟
أمسك "البراد" بقبضته ثم قال:
-    قلت لها إن عليها أن تذهب إلى طبيب مختص في المدينة.
أردف الجمركي: 
-    ثم ماذا؟
رد بلهجة أرادها أن تكون مؤثرة: 
-    بغتة أخذت المرأة تنتحب.. الدموع تنفر من عينيها بقوة، وهي تتوسل إلي بأن أساعدها، متعللة بأن امرأة أخبرتها أنها كانت تشكو الحالة نفسها، وادعت أنني ساعدتها على الإنجاب.
تدخل يحيى حينئذ، وكان قد تناسى غضبه: 
-    أرسلها لي، وأنا أساعدها على الإنجاب.. حقيقة أنت حمار..
عاد الغضب ليستولي على الممرض من جديد، فوجه إليه الكلام بكثير من الاستخفاف: 
-    تعلم أولا كيف تتحدث مع الناس، ثم بعد ذلك ساعد النساء على الإنجاب.
أخذ الجمركي كأس شاي من الصينية... ارتشف جرعة ساخنة بطريقة استعراضية، بعد أن نفث سحابة من الدخان، ثم قال:
-    وماذا بعد؟ 
أجاب الممرض وعلامات الاستغراب تترنح على ملامحه: 
-    تصور، تريدني أن أكتب لها تميمة كما فعلت مع صديقتها، أيعقل هذا؟
تعالت الضحكات من الجميع، في الوقت الذي انسلت يد سعد إلى علبة سجائر الجمركي.. أخرج سيجارة، فأسرع الجمركي إلى إشعال القداحة، ومد نحو الشعلة المتضائلة .. شكر المعلم الجمركي، أخذ كأس الشاي بين يديه. ارتشف جرعة، ثم تطلع باحثا عن النادل الذي استبطأه.. نسيم بارد ينبعث بين الفينة والأخرى، يذكر الجميع بالمارد الأزرق المرابض في الجهة الغربية للقرية..
 انخرط يحيى في سورة من الحماس ثم خاطب الممرض: 
-    وماذا فعلت؟ 
أجاب الممرض بعد أن لاحظ علامات الترقب على وجوه الجميع:
-    حاولت إقناع المرأة بأن ما سمعته من صديقتها لا أساس له من الصحة، وأنني لست مشعوذا.
تدخل يحيى مستفسرا:
-    وهل اقتنعت؟ 
رد الممرض:
-    أبدا، فجأة انقلبت المرأة إلى وحش كاسر.. انهالت علي بسيل من الشتائم، ثم انصرفت.
التفت الجمركي إلى المعلم محاولا إقحامه في الحديث:
-    ما رأيك يا أستاذ في ذلك؟
أجاب المعلم وهو يتطلع إلى النادل الذي لم يأته بكأس الماء البارد: 
-    وهل صدقته؟
غضب الممرض ورمق المعلم بنظرة شزراء، ثم وجه إليه الكلام:
-    وأنت، هل تظن أن أخبارك خفية عني؟ 
تردد المعلم لحظة ثم سأله بحنق:
-    عن أية أخبار تتحدث؟
أجابه وهو يشيح ببصره عنه فيما، كانت ابتسامة استهزاء تعلو شفتيه: 
-    يقولون، والله أعلم، أنك تنام في القسم.
ظهرت علامات التضايق على وجه المعلم. مر النادل بالقرب منه، فخاطبه بصوت مرتفع: 
-    أين الماء؟ ألا يحترم الزبائن في هذا المقهى؟ ثم التفت إلى الممرض:
-     اتركني صامتا.. هل تريد أن تعرف ما يقولونه عنك انت كذلك؟ 
تدارك الممرض الموقف قائلا: 
-    دعنا مما يقوله أهل هذه القرية الملعونة.. كل ذلك إشاعات تافهة. أخبرنا كيف حال الصيد معك؟ 
لمس الممرض الوتر الحساس في نفس المعلم، فوضع الكتاب من بين يديه، ليحتل مكانه المعتاد على المنضدة، تناول الكأس من النادل.. عب جرعة من الماء البارد، ثم رد عليه:
-    الصيد هذه الأيام ضعيف.. الماء بارد، والسمك يرحل نحو المياه الدافئة..
الشمس تميل تدريجيا نحو الغروب وقد فقدت كثيرا من توهجها.. الطيور انتظمت على  امتداد البساط السماوي الأزرق، مشكلة خطوطا هندسية بديعة.. أكثرها على شكل زاوية من خطين طويلين، تنزلق كالسهم المارق، لا يعلم أحدأين سيستقرفي نهاية المطاف.. من بعيد يسمع صوت السيارات التي تسير في اتجاه الدار البيضاء أو القادمة منها.. سرعتها تحيي في النفوس ذكرياتها لحوادث سير أليمة، عاشت القرية تفاصيلها المحزنة، فخلفت ضحايا لا حصر لهم.. رمى الجمركي عقب سيجارته الأصفر، تناول علبته ثانية، أخرج سيجارة أخرى، أشعلها.. لاحظ الممرض ذلك، فعلق بكلمات محتفية: 
-    مارلبورو .. الله يا عيني.. عمل الجمارك كله خير وبركة.. 
ارتاح الجمركي لتعليق الممرض ثم توجه بكلامه إلى المعلم: 
-    هل تصطاد دائما أثناء الليل؟ 
أجابه بلهجة العارف المتيقن: 
-    في الليل يسهل الصيد أكثر من النهار.
عقد الجمركي حاجبيه ثم قال:
-    ألا تخاف أن تطلع لك ليلة ما "عايشة قنديشة"؟ 
ابتسم المعلم مبديا عدم اهتمامه بمخاوف الجمركي، ثم قال بلهجة واثقة:
-    مجرد أوهام.
رأى الممرض أن الوقت مناسب للتدخل، فقال بتهكم: 
-    أنتم يا – معشر المعلمين- تملؤون رؤوسكم بالأوهام الحقيقية. أعرف أكثر من شخص أكد لي أنه رأى "عايشة قنديشة" وأنت لا تصدق ذلك..
نظر المعلم إلى الممرض مليا ثم قال له:
-    تؤمن بكل هذا، وترفض أن تكتب تميمة للمرأة لكي تجنب.
شعر يحيى أن كلام المعلم نال من الممرض، فتدخل قائلا بسخرية لاذعة:
-    ما رأيك؟ لماذا لا تحول المستوصف لضريح، وتصبح أنت "الحفيظ"..؟
لم يترك الممرض الفرصة تمر، فرد عليه بسرعة:
-    وهل تشتغل معي عرافا؟
ارتفعت القهقهات .. أمام المقهى توقفت فجأة سيارة زرقاء.. نزل منها شاب وفتاة، يبدو أنهما قادمان من المدينة، يحاولان اقتناص لحظة حب بعيدة عن الأعين. تماسكا بطريقة استعراضية.. لم يهتما بالجالسين في المقهى.. تابعهما الجميع بأعين متحفزة.. نالت الفتاة نصيب الأسد. ملابسها الخفيفة، الملتصقة بجسدها المكتنز حرك في أعماق الجميع مياها آسنة.. اتخذ الشابان منضدة منزوية.. أسرع النادل نحوهما بهمة ونشاط ملحوظين.. لجم الممرض نظره ثم قال:
-    الفتاة جميلة..
تناول الجمركي الولاعة من بين يديه، ثم وجه كلامه إلى الممرض.
-    لم تر الجمال الحقيقي، هل هذا هو الجمالفي رأيك؟..
متحاشيا الاستمرار في الحديث عن الشابين، استدرك الممرض قائلا:
-    لا علينا.. دعنا في موضوعنا.. أستاذ، موجها الخطاب للمعلم، هل حقا لا تعتقد بوجود "عايشة قنديشة"؟
أجاب المعلم:
-    كلا ... فتلك ليست سوى خرافة.
أردف الجمركي وقد بدت الحيرة على وجهه: 
-    ولكن الجميع يؤمن بوجودها.
وبلهجة يقينية رد المعلم: 
-    بكل بساطة، لأن الجميع لا يعرف مصدر الخرافة، وقيل قديما إذا عرف السبب بطل العجب .. والناس تخاف ما تجهله. 
-    وكيف تفسر اعتقاد الناس بوجودها؟ استفسر الجمركي.
أجابه: 
-    لقد قلت لك لأنهم يجهلون أصلها.
-    وما أصلها؟ تساءل الجمركي بلهفة: 
جال المعلم بنظره، مسح المكان بعينيه اللتين التمع فيهما بريق الفخر بامتلاك المعرفة ثم قال: 
-    أصل الخرافة، أن امرأة، في زمن بعيد، حين كان البرتغاليون يستعمرون مدينة الجديدة، وكان جنودهم يعيثون في الأرض فسادا، ظهرت امرأة تسمى عائشة، فاتنة الجمال.. أغوت البرتغاليين بقدها المائس وعينيها الفاتنتين.. كانت تلتحف على عادة ذلك الزمان رداء أبيض، لا يظهر منها إلا جزء من وجهها وخاصة عيناها.. وكلما تحرش بها جندي استجابت له بغنج وتدلل، يتبعها الجندي، تختلي به، وحين يهم بأن يقضي منها وطره، كانت تستل خنجرا تغرسه بين ضلوعه.. شاع خبر المرأة عائشة التي أطلق عليها البرتغاليون "الكنتيسة" نظرا لجمالها، الذي جعلهم يعتبرونها في مرتبة الأميرة. وانتشر مع أخبارها الخوف منها، والرهبة من ذكرها.. فقد لاحظ الجنود ارتباط اهتمام أي جندي بها الموت.. وأضحى اسم "عائشة الكنتيسة" متداولا على الألسن مرفوقا بالرعب والموت..

مر الزمان، رحل البرتغاليون إلى وطنهم مخلفين آثارا في المدن التي استعمروها، أسوارا ومدافع وبنايات.. فورث عنهم المغاربةبعض الأعين الزرقاء والخوف من عائشة القديسة، وتحول اسمها إلى "عايشة قنديشة" وأصبحت تظهر على ضفاف البحر ليلا، متلحفة بالبياض، تغوي الرجال فتسلب عقولهم، فيهيمون وراءها، وتصيبهم بالأذى..
ولست في حاجة إلى أن أوضح لك أن الجميع يتوارثون حكاية اعتدائها على الرجال.. والكل يختزن الحكاية في وعيه ولا وعيه، حتى إذا اضطرت أحدهم الظروف ليذهب إلى الشاطئ ليلا، توهم ظهورها له بوشاحها الناصع البياض، وقدميها اللتين تشبهان حوافر الحيوانات، وكل ذلك مجرد أوهام يصنعها دماغ الشخص الخائف فقط.
بدا بعض الاقتناع على وجوه المتحلقين.. لكن الممرض حانت منه ابتسامة، لتشي بعدم اقتناعه. وليؤكد كذلك قال موجها كلامه للمعلم:   
-    وهل تظن أن معرفة هذه الحكاية تكفي لطرد الخوف؟
أجابه المعلم بشيء من التعالي:
-    الأمر يتعلق بشخصية الإنسان ومستوى تفكيره.
أحسن الممرض أن الكلام يتضمن إساءة إليه.. ابتلع ريقه، ثم لزم الصمت. أخذ المعلم الكتاب بين يديه من جديد، وقبل أن يغوص في سطوره، التفت نحو الجمركي وخاطبه:
-    أترافقني هذه الليلة إلى الشاطئ للصيد؟ 
أجابه وبعض التوتر باد على ملامحه:
-    هذه الليلة لا أستطيع .. عندي ضيوف..
تدخل يحيى محاولا النيل منه:
-    إنه يخاف أن تفاجئه "عايشة قنديشة".
أجاب الجمركي محاولا إبعاد التهمة عنه:
-    ا والله العظيم عندي ضيوف.
الشمس في الأفق برتقالة كبيرة معلقة في الفراغ، تدنو من نهايتها الوشيكة.. الشفق اندلقت حمرته تخضب المارد الأزرق.. وفي الطريق الممتدة في اتجاه الشاطئ تناثرت أجساد متضائلة ما فتئت تنمو تدريجيا.. أناس اجتذبتهم دفء الرمال ونعومتها وليونة الماء وبرودته، قضوا يومهم يختزنون أشعة الشمس تحت جلودهم، وقبل أن تختفي الشمس، حملوا أجسادهم المنهكة وغاصوا بأقدامهم في الطريق المتربة عائدين إلى القرية.
قام الشابان من مكانهما، توجها نحو السيارة والفرح يتراقص مع خطواتهما الجذلى.. نظرات الممرض اقتنصت عجيزة الفتاة المتمايلة، همهم بكلمات مبهمة، لاحظ يحيى حركاته، فابتسم ثم وجه إليه الكلام:  
-    العن الشيطان.. البنت في مثل سن ابنتك.
رد عليه الممرض بامتعاض: 
-    لا شغل لك سوى مراقبتي.. هذا الكلام قله لغيري.. أما أنا فأعرفك جيدا..
اضطرب يحيى، تماسك، ثم بلهجة غاضبة سأله: 
-    ماذا تقصد؟
أجاب الممرض وابتسامة خبيثة تتراقص على شفتيه:
-    أقصد سهراتك مع رئيس البلدية.
احتد غضب يحيى، نهض من كرسيه بانفعال، وبكلمات متوترة قال:
-    ملعون من يجلس معكم.
انصرف والتوتر باد على حركاته، فيما لحقته كلمات الجمركي المتوسلة:
-    العن الشيطان.. إنه يمازحك فقط..
لم يهتم بكلامه، واصل سيره، فوجه الممرض كلامه للجمركي: 
-    دعه يذهب.. لو لم يكن متأكدا مما يفعل، لما انفعل بهذا الشكل.
التفت المعلم، في تلك الأثناء، نحو الممرض، رمقه بنظرة معاتبة ثم قال له: 
-    وأنت ماذا تستفيد من ذلك؟.. اتركه وشأنه..
حينذاك، ارتفع صوت المؤذن معلنا عن صلاة المغرب، بعد أن احتجبت الشمس بشكل كامل، وتسلل غبش، أعشى الأبصار، وأضعف الرؤية، فاختفت ملامح الأشياء من حولهم، أضحت عبارة عن أشكال متشابهة إلى حد بعيد، تابع الممرض نداء المؤذن بكثير من الخشوع وهو يردد معه بعض كلمات الأذان.. تدفق عدد من المصلين نحو المسجد الذي لا يبعد عن المقهى كثيرا.. انتفض الممرض ملتحقا بالمصلين.. ران صمت ثقيل على المعلم والجمركي.. تململ المعلم في مكانه، ثم انتصب واقفا، ودع الجمركي قائلا: 
-    إلى الغد، علي أن أذهب الآن.
رد عليه متسائلا: 
-    أليس الوقت مبكرا؟ انتظر قليلا.
أردف المعلم بكلمات أرادها حاسمة:
-    لا .. إن الوقت مناسب.. أريد أن أستعد للصيد..
وبكلمات قريبة من الاستعطاف قال الجمركي:
-    ألا يمكن ان نؤجل الصيد إلى الغذ؟
رد المعلم مستفسرا؟ 
-    لماذا؟
اجابه باحتفاء:
-    أريد أن أدعوك إلى سهرة في بيتي.. جلبت اليوم زجاجتي ويسكي "بلاك أند وايت" ما رأيك؟ 
بدا بعض الاهتمام على وجه المعلم وهو يستفسره:
-    ولكن، ألم تقل إن عندك ضيوفا اليلة؟
رد بلهجة مستخفة:
-    وماذا تريدني أن أقول أمام هذين الرجلين،اللذين لا هم لهما إلا جمع أخبار الناس.
فكر المعلم لحظة ثم أجاب:
-    اعذرني، لا أستطيع.. أحس برغبة لا تقاوم في الصيد.. مرت مدة طويلة لم أمارسه.. ألا تترك السهر إلى ليلة اخرى؟
أجاب الجمركي ومسحة من الود تستلقي على وجهه:
-    لا بأس.. نصيبك سينتظرك.. لا تقلق.. اذهب إلى صيدك.
انصرف المعلم إلى بيته.. تبعه الجمركي بعينين شاردتين.. السيجارة بين أصابعه ترسل خيطا رفيعا من الدخان نحو وجهه.. يتفاداه بحركة خفيفة.. عمدت يده إلى "البراد".. أفرغ ما تبقى من شاي في كأسه.. ارتشف بلذة جرعة الشاي الباردة.. نادى النادل، طلب منه إحضار كأس ماء بعد أن ناوله ثمن المشروب..انصرف النادل، فيما ران الصمت ثقيل على الجمركي، الذي أخذ يتململ فيي مكانه، ينتظر بفارغ الصبر من ينتزعه من شرنقة الصمت.. وهو ينتقل ببصره من مكان إلى آخر.. بعد دقائق لاح له الممرض عائدا من المسجد، يتقدم بخطوات تختزن كثيرا من الوقار.. انشرحت نفسه لرؤيته، فاستقبله بعينين باسمتين وهو يقول له: 
-    الله يقبل..
رد  بخشوع:
-    أمين.
اقتعد الممرض كرسيه وهو يردد بعض الكلمات المبهمة، توحي بأجواء الإيمان التي كان في أحضانها قبل لحظات.. وبعد هنيهة سأل الجمركي:
-    أين الأستاذ؟ 
أجابه باقتضاب:
-    ذهب إلى بيته، يريد الاستعداد للصيد مبكرا.
وجد الممرض الفرصة مناسبة، فعلق:
-    يوما ما سيحدث له مكروه، ولن ينفعه أن يؤمن بوجود "عايشة قنديشة" أو بعدم وجودها.. الجن مذكور في القرآن الكريم، وعلينا أن نؤمن بوجوده، وكفى..
تناول الجمركي كأس الماء من النادل الذي تأخر في جلبه، ثم وجه كلامه إلى الممرض:
-    اتركنا منه الآن.. كل إنسان حر في حياته.. يؤمن بوجودها أو لا يؤمن.. تلك مشكلته.. حدثني عن سهرات يحيى مع رئيس البلدية.. من أخبرك بذلك.. أريد أن أعرف تفاصيل هذا الملف.. لا يوجد في هذه الدنيا جن غيرك.. من أين تحصل على مثل هذه الملفات؟
وقبل أن يبدأ الممرض كلامه ليحكي تفاصيل سهرات يحيى في صحبة الرئيس، لاح ابن الجمركي تحت الأضواء المتعبة للمقهى.. انبثق فجأة من الظلمة التي ما فتئت تتكاثف شيئا فشيئا.. دنا من الرجلين، ألقى التحية على الممرض، فجذبه نحوه وطبع على خده قبلة، ثم قال: 
-    الله يصلح.. لقد كبر الفتى.. أصبح رجلا.
أحس الجمركي بالاعتزاز، وهو يتلقف كلمات الممرض، احتضن ابنه بعينين راضيتين، ثم قال معززا كلام صديقه:
-    إنه يحصل على نتائج جيدة في الرياضيات.
وبعد ذلك وجه كلامه إلى الطفل: 
-    ماذا هناك؟ ماذا تريد؟ 
استجمع الطفل أنفاسه ودارى ارتباكه ثم قال: 
-    ماما تقول لك إن قنينة الغاز فرغت. يجب استبدالها بأخرى.
رد الجمركي غاضبا: 
-    اذهب وقل لها أن تنتظر إلى الغد.
بيد أن الصبي قاطعه: 
-    ولكن طعام العشاء لم يطبخ بعد.
تلفظ الجمركي بكلمات خانقة، نهض كرسيه، ودع الممرض ومضى في طريقه نحو البيت صحبة ابنه.. خطواتهما تتشابك فيما بينهما، شيعهما الممرض بنظرات متكاسلة، رآهما يتقدمان ببطء، ثم ما لبثا أن امتصتهما الظلمة، فاختفى أثرهما.
 تململ الممرض في مكانه، تجول في ذهنه فكرة العودة إلى البيت، مع أنه تمنى لو وجد من يستمر معه في السمر.. التفت يمينا ويسارا.. ليس هناك من يمكن مسامرته..فكر أن يظل في المقهى حتى يؤذن المؤذن لصلاة العشاء، فيؤديها جماعة في المسجد ثم يغادرنحو البيت، لكنه سرعان ما تراجع عن فكرته، وقرر أن يصلي العشاء في حضن بيته.. نهض بتكاسل من على الكرسي.. وبخطوات متثاقلة مضى في طريقه، يقتلع قدميه من الأرض اقتلاعا، وكأنه يحمل على كتفيه ثقلا لا قدرة له على تحمله.. صادف في الطريق بدويا ألقى عليه التحية، ردها عليه دون حماس، وواصل سيره في اتجاه المنزل الذي يقبع وحيدا جانب المستوصف.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً