الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
في رحاب "طاغور" أول شرقي يفوز بجائزة نوبل - منير عتيبة
الساعة 23:37 (الرأي برس - أدب وثقافة)

 

لم يكن عبثًا أن يحصل الشاعر الهندي الكبير رابندرانات طاغور على جائزة نوبل في الشعر، فبالرغم من تعدد جوانب هذا الرجل وتفوقه الرائع في مجالات كثيرة تصعب على الحصر، القصة والرواية والمسرحية والفلسفة والنقد الأدبي والفكر والموسيقى والرسم والتربية والتعليم..

بالرغم من ذلك، فإن الشاعر فيه هو جوهرة، هو شاعر عندما يكتب أو يفكر أو يرسم أو يعلم الأجيال، روح الشاعر, صفاء الشاعر, قدرة الشاعر على رؤية ما لا يراه غيره، وسماع ما لا يسمعه غيره، والإحساس بما لا يحسه غيره، وارتياده الآفاق المجهولة من أعماق الحياة.

وهذا هو الشاعر العظيم، والذي كانت أهم صفاته عند "طاغور" البحث عن جوهر الحياة وسرها الأسمى، ومحاولة الاتصال بهذا الجوهر، ومعرفة ذلك السر، والاقتراب منه، والذوبان فيه، لذلك ففي كل عمل من أعماله حتى عندما يتحدث عن المرأة أو الحب، نلمس ذلك الوجد الصوفي المتطلع إلى جوهر وسر الحياة، إلى الله.

ولأن الرجل هو الأسلوب، ولأن "طاغور" أولًا وأخيرًا شاعر، فقد تستطيع أن تعرف "طاغور" أكثر, فترى عالمه، وتسمع ترانيمه، وتحس دقات قلبه، وتشعر تطلعات روحه، من خلال بعض أشعاره، حيث سنقضي معه دقائق أظننا في حاجة إليها، دقائق مع العذوبة والعمق والحكمة.

يقول "طاغور": "إن قلبي يا حبيبتي ليحترق ليل نهار في سبيل أن يلقاك كما يلق الناس الموت المفترس، فلا اكتسح بك كما اكتسح بعاصفة، خذي كل ما أملك، خربي نومي, انهبي أحلامي، استلبي حياتي، ولنصبح بدمار نفسي وعرائها التام مخلوقًا واحدًا من جمال، وآسفاه، باطلة هى رغبتي، أين الأمل في اندماج تام إلا فيك وحدك يا الله؟".

والمرأة نصفها حلم فهو يقول عنها: "أيتها المرأة، لست ملحه الله فقط، بل ملحه الرجال أيضًا، إنهم يزينونك من جمال قلوبهم، الشعراء ينسجون وشائحك من خيوط هواهم الذهبية، والمصورون يخلدون شكل بدنك، البحر يعطي لألته، والمناجم ذهبها، وحدائق الصيف أزاهيرها، لتجملك وتجعلك أثمن مما أنت عليه، رغبة الرجل فيك تجلل شبابك بالمجد، أنت نصفك امرأة، ونصفك حلم".

ويقول "طاغور" على لسان المرأة التي تناجي حبيبها: "إني أحبك يا حبيبي فسامحني على حبي، كنت عصفورًا ضالًا فأخذتني وزعزعت قلبي حتى سقط عنه قناعه، فأغمره بالشفقة يا حبيبي وسامحني على حبي، إذا لم تستطع أن تحبني يا حبيبي فسامحني على ألمي، لا تنظر إلى عن بعد بازدراء، فلا تلو بوجهك عني يا حبيبي وسامحني على ألمي، إذا أحببتني يا حبيبي فسامحني علي فرحي، ومتى رأيت قلبي وقد أجتاحه سيل السعادة فلا تستخف باستسلامي فهو خطير، ومتى رأيتني جالسة على عرش أتحكم فيك وأستبد بك يا غرامي، وأمنحك نعمي، فاحتمل كبريائي يا حبيبي وسامحني على فرحي".

ويقول" طاغور" للمرأة على لسان حبيبها: "نظرتك القلقة حزينة تحاول معرفة فكري, كذلك القمر يريد أن ينفذ إلى البحر هو أيضًا، إنك تعرفين كل حياتي فما أخفيت عنك شيئًا، لهذا أنت تجهلين كل شئ عني".

ويضيف: "لو أن حياتي كانت جوهرة كريمة لحطمتها مائة قطعة وصغت لك من أجزائها عقدًا أطوق به عنقك، ولو أن حياتي كانت زهرة لطيفة صغيرة لاقتطفتها من فرعي كي أزين بها شعرك، ولكن حياتي قلب يا حبيبتي، فأين حدود القلب؟ إنك لا تعرفين حدود هذه المملكة، ومع ذلك فأنت ملكتها، لو أن قلبي لم يكن غير لذة لأبصرته يزهر في ابتسامة سعيدة".

"ولاكتنهت سره في لحظة، ولو أنه لم يكن غير ألم لذاب دموعًا يعكس عليها سره دونما كلمة، ولكنه حب حبيبتي لذته وألمه غير محدودين، كما أن بؤسه وغناه أبديان، إنه قريب منك بقدر ما هى قريبة منك حياتك، ولكنك لا تعرفيه بجمعه أبدًا".

و"طاغور" يرى الله في كل شيء، يقول: "أترك سبحتك، دع نشيدك، من تظن أنك تكرم في هذه الزاوية المظلمة القصية من معبد موصدة أبوابه جميعاً؟! أفتح عينيك تري أن إلهك ليس أمامك, إنه هناك حيث يحرث الفلاح الأرض الصلبة، إنه على قارعة الطريق حيث يكد محطم الأحجار، إنه معهما في الشمس وتحت المطر، إن رداءة مغشي بالتراب".

"فانزع رداءك الورع وأنزل مثله أنت أيضًا في التراب، الخلاص، أبي تظن وجود الخلاص، اخرج من تأملاتك، ودع جانبًا، أزاهيرك وبخورك، قد تتمزق أثوابك وتتلطخ، ماذا يهم، أذهب فجاوره وتقرب إليه بالعمل وعرق الجبين".

وعن الخطايا الأربع يقول: "لماذا انطفأ المصباح؟ لقد أحطته بردائي لأجعله في مأمن من الريح، لهذا انطفأ المصباح، هذا هو التهور، لماذا ذبلت الوردة؟ لقد ضممتها إلى صدري في لهفة وقلق, لهذا ذبلت الوردة، هذا هو خداع الحب، لماذا جف النهر؟ لقد أقمت حياله سدا ليخدمني أنا وحدي، لهذا جف النهر، هذه هى الأنانية، لماذا انكسر وتر العود؟ لأني أردت إرغامه على تأدية نبرة عالية، لهذا انكسر العود، هذه هى الكبرياء".

ويقول عن فردوس الحرية: "هنا حيث العقل لا يعرف الخوف والرأس شامخ، هنا حيث العالم لا يُجزأ بين جدران ضيقة منفصلة، هنا حيث المعرفة تصطخب كأمواج البحر، هنا حيث تتصاعد الألفاظ من أعماق الصدق، هنا حيث المجهود المطرد يمد ذراعيه نحو الكمال، هنا حيث مجرى العقل الصافي لم يسر ضالًا إلى الفناء في صحراء العرف والتقاليد القاحلة، هنا حيث يتقدم الذهن تحت قيادتك نحو التوسع الدائم في الفكر والعمل، أذنك يا إلى أن تجعل وطني يستيقظ في فردوس الحرية هذا".

ويقول "طاغور" للموت: "أنها الموت، يا موتي، قل لي: لماذا تهمس في أذني بمثل هذا الخفوت؟ لقد تسللت إليّ في هدأة بلا مساء، والزهر يذبل، والماشية تعود إلى المذود، ثم جلست خلسة بجواري، وطفقت تنطق بكلام لا أفهمه، أتعتقد أني أخافك؟ أتأمل بكلامك أن تداهنني فتأسرني؟ ثم ترقدني في غمغمة خاطفة تحت أفيون قبلاتك الباردة".

"أيها الموت، يا موتي، أريد أن يقام لعرسنا قداس رائع، أريد أن أبصر أكليلًا من الياسمين منعقدًا حول جدائل شعرك الوحشي، أريد أن ترسل إليّ من يتقدمك حاملًا علمك، أريد أن تلتهب الظلمة كلها من نار مشاعلك الحمراء، أيها الموت، يا موتي، فتعال إذن، تعال على نغم اصطفاف صنوجك الصدفية، تعال في ليالًا فارقها النعاس، ألبسني الرداء القرمزي، وضم يدي إلى يديك وخذني، لتكن عربتك بيابي على استعداد، ولتصل خيولك من عدم اصطبارها، أمط الثام، وأنظر إليّ مواجهه وفي أنفه وأنقدني، أنقذني من غدر الحب وغدر الأمل وغدر الحياة، أيها الموت, يا موتي".

أما هذا النشيد فهو من أعذب ما عرفته الإنسانية من الشعر وأصفاه وأعمقه: "أيها النور، يا نور قلبي، أيها النور الغامر العالم، يا قبلة العيون، ورقة القلب، أيها النور، آه، إن النور ليرقص في صميم حياتي، وإن حبي ليدوى تحت مضرب نورك ألا لهي يا حبيبي، السماوات تتفتح، والربح تقفز، وضحك السعادة يجوب الأرض، على محيط النور يا حبيبي يفتح الفراش أجنحته، وقمة موج النور تلتمع زنابق وياسمين، إن نورك يا حبيبي ليفتت الذهب علي السحب، وينثر الأحجار الكريمة في سخاء على الأرض، إن الفرح يا حبيبي ليمتد من ورقة إلى ورقة، ويغمر الكون كله، إن نهر السماء غرق ضفتيه، وكل أمواج الفرح قد طغت علي الأرض".

ولد طاغور في مدينة كلكتا بالهند سنة 1861, وعاش ثمانين عامًا، وحصل على جائزة نوبل في الآداب سنة 1913 بعد أن ترجم بنفسه إلى اللغة الإنجليزية ديوانه " القربان الشعري"، وهو أول شرقي يفوز بهذه الجائزة.

زار طاغور مصر مرتين، وكان متعدد المواهب, فقد كتب أكثر "150.000" بيت من الشعر ما بين القصيدة والنشيد والمسرحية، كما كتب عددًا كبيرًا من القصص والروايات تبلغ ضعف إنتاجه الشعري، وقد ألّف ولحن ما يزيد عن ألفي مقطوعة شعرية، كما كان مصورًا بارعًا، وممثلًأ مجيدًا، وقد كان متميزًا ومتفوقًا في كل مجال من هذه المجالات.

بدأ طاغور في الكتابة وهو في سن الخامسة عشره، وهو لم يلتحق بمدرسة نظامية, لكنه ثقف نفسه بنفسه، وتلقي العلم على أيدي مدرسين خصوصيين، وقام برحلات متعددة داخل وخارج بلادة، وأتصل بعدد كبير من أشهر الأدباء والمفكرين في العالم، وكان هذا الأسلوب في تلقي العلم هو الذي فتح مواهبه وجعله بعد ذلك ينشئ مدرسة، متحررة من المناهج والنظريات والفصول المغلقة، وقام بنفسه بدور المعلم والمربي والمثقف وتطورت هذه المدرسة حتى أصبحت من أهم جامعات الهند وهى جامعة " فسفا بهاراتي" التي كان نهرو عميدًا لها لفترة.

يقول عنه الزعيم الهندي الشهير جواهر لال نهرو: "وماذا كان هو؟
أكان شاعرًا صاحب إلهام وأحلام؟ أم مغنيًا, أم فنانًا وموسيقيًا, أم مؤلفًا مسرحيًا وممثلاً، أم روائيًا وكانت مقاله، أم معلمًا وتربويًا، أم قوميًا وعالميًا، أم فيلسوفًا ورجل عمل؟ حتى هذا السجل الموجز لجوانب حياته وتعدد مواهبه لا يفي بأكثر من صورة متواضعة لما كان عليه، إن لنا من كلماته وأغانيه لسحرًا".

"فإحدى هذه الأغنيات أصبحت نشيدًا قوميًا جميلًأ لنا وهى أغنية" جانا جانا مانا"، لقد لعبت أسرة طاغور دورًا ضخمًا في شتي حركات الإصلاح في "البنجال" خلال القرن التاسع عشر, وكان فيها رجال لهم من عظمة الروح شأن كبير، وكتاب وفنانون ممتازون, لكن "رابندرانات" بزهم جميعًا وسما عليهم، وتنازل عن رتبة السير التي نالها عام 1915 – احتجاجًا على المظالم الوحشية الرهيبة التي أنزلها الاستعمار البريطاني بمواطني "جاليانوالاباغ" سنه 1919 – ومع أنه كان هنديًا في أعماقه، وأنه كان يستلهم تربة الهند وفكرها، إلا أنه كان في الحقيقة مواطنًا عالميًا, وكانت قوميته تطابق أوسع مجالات الدولية، وقد عمل أكثر مما عمل أي هندي سواه على ربط أفكار الشرق بأفكار الغرب، وتوسيع رقعه القومية الهندية.

وعن المسرح عند طاغور- والمسرح هو قمة الأداء الشعري والأدبي- يقول الشاعر المصري عبد الرحمن صدقي في كتابه "طاغور والمسرح الهندي": "إن طاغور المسرحي متعدد الجوانب في أساليبه المسرحية، فهى تارة في الصميم من تقاليد المسرح الهندي، وهى تارة ثانية متأثرة بالمسرح الشكسبيري, ثم غير هذا وذاك في كثير من الأحايين، ولكنها جميعًا تنظمها وحدة من حيث تصور طاغور للفكرة الدينية والقيم الأخلاقية، ولا غرو فإن نابغة الهند طاغور لم يكن فنانًا فحسب، بل كان فنانًا إلى جانب كونه مفكرًا, ثم إن تفكيره كانت له دعامتان راسختان في طبيعته وهما الإيمان وقوة الشخصية، وهذا ظاهر في أشعاره ظهوره في قصصه ومسرحياته وسائر آثاره".

إن النقاد، خصوصا الغربيين ما فتئوا يجادلون في مكانه طاغور بالقياس إلى قمم الأدب العالمي أمثال، هومير ودانتي وشكسبير، ولكنهم بعد كل خلاف متفقون وإيانًا على أنه ترك في التراث الإنساني العالمي، في الشعر والقصة والدراما وفي سائر مقالاته ورسومه، آثارًا من أجمل الآثار الأدبية التي تعبر في مختلف العصور الفنية عن روح الشرق الخالدة بلغة عصرية.

وقد قيل عن مؤلفات "طاغور" أنها دائرة معارف تملأ أسماؤها في أصلها البنغالي سبع صفحات، ومن أهم أعماله: القربان الشعري، الهلال، البيت و العالم، ساد هانا، البستاني، جيتنجالي، رسوم وأناشيد، أغاني المساء.

--------------- 
* "في موكب العظماء"، إبراهيم المصري.
* "رابندرانات طاغور"، خليل جر حس خليل- وتقديم ثروت عكاشة.
* "طاغور والمسرح الهندي"، عبد الرحمن صدقي.

 

منقولة من بوابة الأهرام.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً