الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
"لسان الأخرس" لعبدالله المتقي بين اللعب على التوازي والتضاد - محمد باقي محمد
الساعة 17:51 (الرأي برس - أدب وثقافة)

 في لعب محسوب على التوازي يوغل عبد الله المتقي في الاشتغال على الأضداد ، ربّما لأنّ الماهيات تتضح بأضدادها ، حسناً .. هذا على مستوى الفلسفة ، فماذا عن المستويات الأخرى !؟ أليس هذا هو السؤال الذي قد يتبادر إلى الذهن !؟ وهل يُمكننا أن نقوم بإسقاط اللعبة على الأدب أو الفنّ مثلاً ، لنلعب على الدلالات تحويراً وتدويراً أو بناء لمصلحة الفنيّ والأطروحيّ ، أي لمصلحة المتن معنى ومبنى !؟ على هذا سنتساءل أن كيف تجلى العنوان الرئيس في وظيفتيه السيميائيّة والمعرفيّة ، المناطتين به عادة !؟ إنّ الأخرس في – ” لسان الأخرس ” ، النايا للدراسات والنشر ، بيروت 2014 – بحسبنا ساكت عن الوقائع بحكم البكمة ، لكنّ أخرس المتقي يقوم بطرح أسئلة الإنسان وهواجسه في مطالع القرن الواحد والعشرين ، وهي أسئلة تضع التشويق في مغازيها ، بهذا المعنى – ربّما – تضع العنونة القارىء على عتبات النصّ ، في محاولة لاستجلاء كوامنه ، ما يشي بنجاح القاص في تخيّر عنوان موح ودال بآن ، عنوان يشي بفضاءات المتون ، من غير أن يفضحها ، ما كان سيئد لعبة التشويق التي يقوم عليها !

 

أمّا علامَ ينهض عالم المتقي القصصيّ في أسّه العميق ، فيمكننا أن نختصره في مُفردتين : الحرية ، والكرامة ! لهذا سيدفع القاص أبطاله نحو مفازاتهم ، جنتهم أو جحيمهم ، فإما أن ينتصروا على شرطهم الإنسانيّ ، أو ينكسروا ! وعلى نحو أكيد ستتجلى تعبيرات ذينك الأسّين بغير لون أو هيئة أو تفصيل أو – حتى – مُسمّى ، لكنّها – كيفما تمظهرت – ستندرج في البابيْن المذكوريْن ، اللذين لا تستوي الحياة الإنسانيّة من غيرهما ، لتنداح على مساحة المجموعة بأكملها ، على هذا سيتضح لنا أنّ العلاقة بين العنوان والمتون تتجاوز علاقة التجاور إلى التمفصل بله التفاعل ! ما يطرح تساؤلات ملحة ، أن كيف لنصوص جدّ قصيرة أن تنهض بعبء أسئلتها !؟ وكيف لها أن تحقق وظائف جمالية تناط بالفنون عادة !؟

 

نحن في حضرة الـ : ق ق ج إذاً ، بما هي جنس وليد قيد الممارسة والتقعيد ما يزال ، ولأنّ الأذن أسيرة لما ألفته ، ها نحن نقف بموقفين شديدي التباين إزاء هذا الجنس الوليد ، ذلك أنّ قسماً من الدارسين لم يعبأ بهذا الضرب من القصّ ، بل وأنكر عليه شرف الانتماء إلى جنة القصّ ، في حين أنّ آخرين استسهلوه بسبب من قصره غالباً ، فقدّموا نماذج بالغة الرداءة ، اكتفت بالوقوف بلحظة التضاد على أنّها الـ : ق ق ج ، في حين أنّ التقاط تلك اللحظة يؤسّس للعمل الفنيّ – قصة وقصة قصيرة جداً – لكنّها ليست قصة ولا قصة قصيرة جداً ! فيما أسهم قصور العمارة النقديّة في انتشار تلك النماذج على نحو واسع ، ما أربك اللوحة في كليتها ، وأشكل على القراء طويلا  !

 

وها هو المتقي يجتهد في وضع لبنة في المدماك ، فيلجأ إلى تكثيف شديد ، كخصيصة لصيقة بالـ : ق ق ج ، تكثيف يتاخم مفهوم التبئير في قصيدة النثر ، ففي ” جثة جافة ” يتلقى الشيخ عبد الباقي إعلاناً – مجازياً – بأنّ وقت رحيله قد أزف ، ولم يبق له إلاّ أن يلتحق بالملأ الأعلى ! لكنّه – أي المتقي – على ذلك يهرب من التقعّر على مستوى الحدث ، وعلى مستوى اللغة أيضاً ، أي على مستوى الكل والأجزاء ، فيلجأ إلى الاستدراك ، ليتذكّر بأنّ قفل باب الشيخ صدىء مثلاً ، أو يتذكّر بأنّ ساعي البريد مشدود إلى حقيبة قديمة ورسائل عمرها ستة عقود ، ثمّ أليس هذا بالضبط ما اجترحه في قصة ” بدون ستائر ” أيضاً ، محكتماً إلى قانون الحذف والاصطفاء ،  الحذف لما هو – بحسبه – عارض ، لا يصلح للكتابة ، والاصطفاء لما هو جوهريّ !؟

 

ثمّ ها هو القاصّ يعمد إلى شاعريّة محسوبة ، بعيداً عن الإنشاء الذي كان سيسم نصوصه بالترهّل ، شاعرية تمتح نسغها من شاعرية المقام ، إذ ها هي الشخصية المحوريّة في ” بدون ستائر ” ” تتفحّص عينيه البنيّتين ، وتتمنى من أعماقها لو يعودا إلى رائحة البحر ، لجنون الغجر .. بعيداً عن أعين النهاريّين ” فقاص بخبرة المتقي يدرك أنّ للغة الشاعريّة أفياؤها وظلالها وتورياتها ، ما يتيح لها أن تقول تلميحاً ما لم يقله النص تصريحا ، بشكل يتساوق والتكثيف ، من غير أن يغيب عنه – ولو للحظة – خطورة اللغة إذ تقوم بالإغواء ، ما قد يوقع المشتغل في فخّ شاعريّة تغيّم الحدث أو تغيبّه ، فتطوّح بأحد أهمّ أركان القصّ ، على نحو يتطلب ميزان الصائغ في حساب الشاعريّة ،  وإن كان هذا الركن – أي الحدث ذاته اليوم – موضع تساؤل ، وذلك بعد أن انعطف القصّ نحو قصة الحالة أو المناخ ، تلك التي راحت تتاخم الشعر أكثر فأكثر !

 

ولكي يمايز نصّه من التخوم إذ تتداخل بالخاطرة أو بقصيدة النثر أو – حتى – بالمقال ، عمد المتقي إلى حدث جليّ في تمظهره ، ألجأه – في غير نصّ – إلى الفعل الماضي ، الذي يُحيلنا إلى ضمير الغائب الشهير ” هو ” ، هل نستشهد بـ ” مات الكلب ” ؟ في قصة ” مات الكلب ” يبدأ القاص نصه بـ : ” الحافلة توقفت ….. وأطلق شرطي المرور صفيراً حاداً ” ! ما يسندنا إلى زمن ماض ، نعم .. ليس ثمّة تحديد ؛ رقميّ مثلاً ، ولكن ألا يذهب بنا الفعل الماضي إلى حدث انقضى !؟ ولكي يتحايل على رتابة السرد التقليدي نوّع في أنماط القصّ ، فأشرك حدثاً قلبياً إلى حدثه الظاهر كما في ” بدون ستائر ” ، إذ بدأها بـ ” آخر المساء وقفا قريبين من محطة قطار ……. ” ليكملها بـ ” وتمنت من أعماق قلبها …….. ” ، أو عمد إلى ما يتشبّه بتعدّد الضمائر كما في ” مُدونّة ” ، التي بدأها على النحو التالي ” هو .. كان مستلقياً فوق السرير …… هي .. كانت فيالمطبخ تغسل مخلاته من بقايا العلف ”

 

هل ثمّة حاجة لأن نتذكّر بأنّ زمناً فيزيائياً تقليدياً سيوس كمّاً من نصوص المتقي ، تلك التي احتكمت إلى السرد كبنية !؟ ولكن نحن لسنا بصدد نفي السرد من جنة القصّ ، ولا الادعاء بأنّه قد استنفذ مهامه ، جوهر المسألة أنّه تجاوَرَ وأساليب حديثة ، ليس هذا فحسب ، بل ها هُمُ الشكلانيّون الروس يرون في النصوص المُنفذة بدلالته قصصاً فائقة الجمال ! كيف !؟ إذا أحسنت التوليفة ! هذا هو جوابهم ، ولا نظنّ بأنّ التوليفة المتقنة جانبت القاصّ في خياراته ، فيما تكشف أنماط القصّ الأخرى إحاطة واسعة بأشكال القصّ ، هذا غير بحثه الجديّ في مشكلات القصّ داخل القصّ ، ليضاف إلى اشتغال جماعيّ يقوم به القاصون ، مجترحين الحلول لمشاكل تعترضهم ! ولكنّ أشكالاً أخرى للزمن ستطلّ برأسها ، ولنا في ” بدون ستائر ” خير مثال ، ذلك أنّ الفعل القلبيّ ينتمي إلى المستقبل لا الماضي ، ثمّ أنّ الانتقال من الفعل الماضي إلى المضارع المعمّد بسين الاستقبال ينقل الزمن إلى خانة المنكسر منه ، ولا نظنّ هذا الضرب من الزمن ينضوي في خانة التقليديّ من أشكاله ” مات الكلب ، مثالاً ” !

 

ولن تغيب عناصر الأسطرة عن نصوص المتقي ، وهذا يُسجّل له ، ناهيك عن حضور ما قبل الأدبيّ بتعبير رينيه ويليك في مَثل – ربّما – أو في أهزوجة ، بيد أن تلبثاً في الاشتغال على المكان قصّر في تحريره ، ما كان سيحوّله إلى فضاء قصصيّ يندغم بمصائر شخوصه ، ويقف إلى جانبهم كند ، أي كبطل ! حضر المكان الواقعيّ في النصوص إذاً ، فبيّأ الحدث ، ووقعنه ، إذ نسبه إلى مكان محدّد ، يعيش فيه بشر مُحدّدون ، بمواصفات محدّدة ، وفي زمن مُحدّد ! وفي غير موضع – يندّ عن التمثيل ، بسبب من الكثرة – حضر المكان النفسيّ ، ذاك الذي ألفاه أبطاله كما صورته لهم منازعهم أو أحوالهم ، بيد أنّ المكان بمستواه السحري – على حضور عناصر الأسطرة التي أتينا عليها – وهى أو غاب ، ولو أنّه حضر ، إذاً لانتمت القصص إلى مقام آخر ! ذلك أنّ القفلة الصادمة ، تلك التي تقوم على المغايرة والإدهاش لم تغب عن خواتيم المتقي ، إذ يصعب على القارىء الادعاء بإمكان توّقعها ، ناهيك عن النهايات المفتوحة ، تلك التي تتعدّد بتعدّد القراءات ، ولو أنّ المقام والمقال تواءما بشكل كامل – على توافر جلّ عناصرهما ، تلك التي أتينا عليها – إذاً لتوافرت للقصص قدرة – غير متناهية – على الكشف والتنوير ، ما كان سيمحضها – من كلّ بدّ – إمكان التحصّل على نقطة تقاطع وبؤرة تفجير  ، ما اقتضى التنويه !

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً