الأحد 02 فبراير 2025 آخر تحديث: السبت 1 فبراير 2025
"لسان الأخرس" لعبدالله المتقي بين اللعب على التوازي والتضاد - محمد باقي محمد
الساعة 17:51 (الرأي برس - أدب وثقافة)

 في لعب محسوب على التوازي يوغل عبد الله المتقي في الاشتغال على الأضداد ، ربّما لأنّ الماهيات تتضح بأضدادها ، حسناً .. هذا على مستوى الفلسفة ، فماذا عن المستويات الأخرى !؟ أليس هذا هو السؤال الذي قد يتبادر إلى الذهن !؟ وهل يُمكننا أن نقوم بإسقاط اللعبة على الأدب أو الفنّ مثلاً ، لنلعب على الدلالات تحويراً وتدويراً أو بناء لمصلحة الفنيّ والأطروحيّ ، أي لمصلحة المتن معنى ومبنى !؟ على هذا سنتساءل أن كيف تجلى العنوان الرئيس في وظيفتيه السيميائيّة والمعرفيّة ، المناطتين به عادة !؟ إنّ الأخرس في – ” لسان الأخرس ” ، النايا للدراسات والنشر ، بيروت 2014 – بحسبنا ساكت عن الوقائع بحكم البكمة ، لكنّ أخرس المتقي يقوم بطرح أسئلة الإنسان وهواجسه في مطالع القرن الواحد والعشرين ، وهي أسئلة تضع التشويق في مغازيها ، بهذا المعنى – ربّما – تضع العنونة القارىء على عتبات النصّ ، في محاولة لاستجلاء كوامنه ، ما يشي بنجاح القاص في تخيّر عنوان موح ودال بآن ، عنوان يشي بفضاءات المتون ، من غير أن يفضحها ، ما كان سيئد لعبة التشويق التي يقوم عليها !

 

أمّا علامَ ينهض عالم المتقي القصصيّ في أسّه العميق ، فيمكننا أن نختصره في مُفردتين : الحرية ، والكرامة ! لهذا سيدفع القاص أبطاله نحو مفازاتهم ، جنتهم أو جحيمهم ، فإما أن ينتصروا على شرطهم الإنسانيّ ، أو ينكسروا ! وعلى نحو أكيد ستتجلى تعبيرات ذينك الأسّين بغير لون أو هيئة أو تفصيل أو – حتى – مُسمّى ، لكنّها – كيفما تمظهرت – ستندرج في البابيْن المذكوريْن ، اللذين لا تستوي الحياة الإنسانيّة من غيرهما ، لتنداح على مساحة المجموعة بأكملها ، على هذا سيتضح لنا أنّ العلاقة بين العنوان والمتون تتجاوز علاقة التجاور إلى التمفصل بله التفاعل ! ما يطرح تساؤلات ملحة ، أن كيف لنصوص جدّ قصيرة أن تنهض بعبء أسئلتها !؟ وكيف لها أن تحقق وظائف جمالية تناط بالفنون عادة !؟

 

نحن في حضرة الـ : ق ق ج إذاً ، بما هي جنس وليد قيد الممارسة والتقعيد ما يزال ، ولأنّ الأذن أسيرة لما ألفته ، ها نحن نقف بموقفين شديدي التباين إزاء هذا الجنس الوليد ، ذلك أنّ قسماً من الدارسين لم يعبأ بهذا الضرب من القصّ ، بل وأنكر عليه شرف الانتماء إلى جنة القصّ ، في حين أنّ آخرين استسهلوه بسبب من قصره غالباً ، فقدّموا نماذج بالغة الرداءة ، اكتفت بالوقوف بلحظة التضاد على أنّها الـ : ق ق ج ، في حين أنّ التقاط تلك اللحظة يؤسّس للعمل الفنيّ – قصة وقصة قصيرة جداً – لكنّها ليست قصة ولا قصة قصيرة جداً ! فيما أسهم قصور العمارة النقديّة في انتشار تلك النماذج على نحو واسع ، ما أربك اللوحة في كليتها ، وأشكل على القراء طويلا  !

 

وها هو المتقي يجتهد في وضع لبنة في المدماك ، فيلجأ إلى تكثيف شديد ، كخصيصة لصيقة بالـ : ق ق ج ، تكثيف يتاخم مفهوم التبئير في قصيدة النثر ، ففي ” جثة جافة ” يتلقى الشيخ عبد الباقي إعلاناً – مجازياً – بأنّ وقت رحيله قد أزف ، ولم يبق له إلاّ أن يلتحق بالملأ الأعلى ! لكنّه – أي المتقي – على ذلك يهرب من التقعّر على مستوى الحدث ، وعلى مستوى اللغة أيضاً ، أي على مستوى الكل والأجزاء ، فيلجأ إلى الاستدراك ، ليتذكّر بأنّ قفل باب الشيخ صدىء مثلاً ، أو يتذكّر بأنّ ساعي البريد مشدود إلى حقيبة قديمة ورسائل عمرها ستة عقود ، ثمّ أليس هذا بالضبط ما اجترحه في قصة ” بدون ستائر ” أيضاً ، محكتماً إلى قانون الحذف والاصطفاء ،  الحذف لما هو – بحسبه – عارض ، لا يصلح للكتابة ، والاصطفاء لما هو جوهريّ !؟

 

ثمّ ها هو القاصّ يعمد إلى شاعريّة محسوبة ، بعيداً عن الإنشاء الذي كان سيسم نصوصه بالترهّل ، شاعرية تمتح نسغها من شاعرية المقام ، إذ ها هي الشخصية المحوريّة في ” بدون ستائر ” ” تتفحّص عينيه البنيّتين ، وتتمنى من أعماقها لو يعودا إلى رائحة البحر ، لجنون الغجر .. بعيداً عن أعين النهاريّين ” فقاص بخبرة المتقي يدرك أنّ للغة الشاعريّة أفياؤها وظلالها وتورياتها ، ما يتيح لها أن تقول تلميحاً ما لم يقله النص تصريحا ، بشكل يتساوق والتكثيف ، من غير أن يغيب عنه – ولو للحظة – خطورة اللغة إذ تقوم بالإغواء ، ما قد يوقع المشتغل في فخّ شاعريّة تغيّم الحدث أو تغيبّه ، فتطوّح بأحد أهمّ أركان القصّ ، على نحو يتطلب ميزان الصائغ في حساب الشاعريّة ،  وإن كان هذا الركن – أي الحدث ذاته اليوم – موضع تساؤل ، وذلك بعد أن انعطف القصّ نحو قصة الحالة أو المناخ ، تلك التي راحت تتاخم الشعر أكثر فأكثر !

 

ولكي يمايز نصّه من التخوم إذ تتداخل بالخاطرة أو بقصيدة النثر أو – حتى – بالمقال ، عمد المتقي إلى حدث جليّ في تمظهره ، ألجأه – في غير نصّ – إلى الفعل الماضي ، الذي يُحيلنا إلى ضمير الغائب الشهير ” هو ” ، هل نستشهد بـ ” مات الكلب ” ؟ في قصة ” مات الكلب ” يبدأ القاص نصه بـ : ” الحافلة توقفت ….. وأطلق شرطي المرور صفيراً حاداً ” ! ما يسندنا إلى زمن ماض ، نعم .. ليس ثمّة تحديد ؛ رقميّ مثلاً ، ولكن ألا يذهب بنا الفعل الماضي إلى حدث انقضى !؟ ولكي يتحايل على رتابة السرد التقليدي نوّع في أنماط القصّ ، فأشرك حدثاً قلبياً إلى حدثه الظاهر كما في ” بدون ستائر ” ، إذ بدأها بـ ” آخر المساء وقفا قريبين من محطة قطار ……. ” ليكملها بـ ” وتمنت من أعماق قلبها …….. ” ، أو عمد إلى ما يتشبّه بتعدّد الضمائر كما في ” مُدونّة ” ، التي بدأها على النحو التالي ” هو .. كان مستلقياً فوق السرير …… هي .. كانت فيالمطبخ تغسل مخلاته من بقايا العلف ”

 

هل ثمّة حاجة لأن نتذكّر بأنّ زمناً فيزيائياً تقليدياً سيوس كمّاً من نصوص المتقي ، تلك التي احتكمت إلى السرد كبنية !؟ ولكن نحن لسنا بصدد نفي السرد من جنة القصّ ، ولا الادعاء بأنّه قد استنفذ مهامه ، جوهر المسألة أنّه تجاوَرَ وأساليب حديثة ، ليس هذا فحسب ، بل ها هُمُ الشكلانيّون الروس يرون في النصوص المُنفذة بدلالته قصصاً فائقة الجمال ! كيف !؟ إذا أحسنت التوليفة ! هذا هو جوابهم ، ولا نظنّ بأنّ التوليفة المتقنة جانبت القاصّ في خياراته ، فيما تكشف أنماط القصّ الأخرى إحاطة واسعة بأشكال القصّ ، هذا غير بحثه الجديّ في مشكلات القصّ داخل القصّ ، ليضاف إلى اشتغال جماعيّ يقوم به القاصون ، مجترحين الحلول لمشاكل تعترضهم ! ولكنّ أشكالاً أخرى للزمن ستطلّ برأسها ، ولنا في ” بدون ستائر ” خير مثال ، ذلك أنّ الفعل القلبيّ ينتمي إلى المستقبل لا الماضي ، ثمّ أنّ الانتقال من الفعل الماضي إلى المضارع المعمّد بسين الاستقبال ينقل الزمن إلى خانة المنكسر منه ، ولا نظنّ هذا الضرب من الزمن ينضوي في خانة التقليديّ من أشكاله ” مات الكلب ، مثالاً ” !

 

ولن تغيب عناصر الأسطرة عن نصوص المتقي ، وهذا يُسجّل له ، ناهيك عن حضور ما قبل الأدبيّ بتعبير رينيه ويليك في مَثل – ربّما – أو في أهزوجة ، بيد أن تلبثاً في الاشتغال على المكان قصّر في تحريره ، ما كان سيحوّله إلى فضاء قصصيّ يندغم بمصائر شخوصه ، ويقف إلى جانبهم كند ، أي كبطل ! حضر المكان الواقعيّ في النصوص إذاً ، فبيّأ الحدث ، ووقعنه ، إذ نسبه إلى مكان محدّد ، يعيش فيه بشر مُحدّدون ، بمواصفات محدّدة ، وفي زمن مُحدّد ! وفي غير موضع – يندّ عن التمثيل ، بسبب من الكثرة – حضر المكان النفسيّ ، ذاك الذي ألفاه أبطاله كما صورته لهم منازعهم أو أحوالهم ، بيد أنّ المكان بمستواه السحري – على حضور عناصر الأسطرة التي أتينا عليها – وهى أو غاب ، ولو أنّه حضر ، إذاً لانتمت القصص إلى مقام آخر ! ذلك أنّ القفلة الصادمة ، تلك التي تقوم على المغايرة والإدهاش لم تغب عن خواتيم المتقي ، إذ يصعب على القارىء الادعاء بإمكان توّقعها ، ناهيك عن النهايات المفتوحة ، تلك التي تتعدّد بتعدّد القراءات ، ولو أنّ المقام والمقال تواءما بشكل كامل – على توافر جلّ عناصرهما ، تلك التي أتينا عليها – إذاً لتوافرت للقصص قدرة – غير متناهية – على الكشف والتنوير ، ما كان سيمحضها – من كلّ بدّ – إمكان التحصّل على نقطة تقاطع وبؤرة تفجير  ، ما اقتضى التنويه !

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص