الاثنين 23 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
من الملامح الفنية في رواية "صنعائي"
الساعة 18:48 (الثورة ـ رياض حمادي)

تبدأ "صنعائي" بسرد الفنانة التشكيلية, مستخدمة ضمير المتكلم دون أن تفصح عن اسمها, فتصف لنا موت أبيها وجهلها أسباب هجرته إلى القاهرة ثم إعادته إلى صنعاء ميتاً بعد ثلاثين عاماً لتنفيذ وصيته ليُقبر في مقبرة "خُزيمة". ثم تنتقل لوصف عشقها لصنعاء القديمة, ثم بداية عشقها لحميد. وفي القسم الثاني يستهل "حميد" السرد بنفس وتيرة العشق للمدينة فيدخل في منافسة سردية مع "صبحية". حميد هو الذي يعرفنا على "صبحية" ومعهما تتحول صنعاء القديمة إلى امرأة تهبط في ثياب الندى فتصير أسطورة.

في عشق الجنسين, الذكر والأنثى, للمكان دلالة على حيادية المكان والجمال وقدرتهما على لفت الأنظار دون أن يكون للنوع دور في تقدير الجمال حين يكون للروح لا للعين الدور الأكبر. وفي ذلك إشارة إلى المضمون الإنساني الذي يوحدنا جميعاً. كما أن السرد من منظور الأنثى والرجل يجعلنا ننسى ذلك الجدل القائم بين الكتابة النسوية والذكورية خصوصا عندما تنجح الكاتبة في إقناعنا على تقمص هوية الراوي ذكراً أو أنثى. 

بساطة السرد وتلقائيته الخالي من التكلف, هو ما يميز أعمال نادية الكوكباني منذ قصصها الأولى. في روايتيها "حب ليس إلا" و "عقيلات", قد تقفز فوق بعض المفردات, وربما تتجاوز بعض الفقرات, لكنك في "صنعائي" ستلاحظ تطور السرد وتلقائيته, لتجعلك تتمسك بتلابيب المفردات والعبارات وتشدد على إيقاعاتها ومضامينها حتى نهايتها المفتوحة, التي تعدك بلقاء آخر في مدينة لا تجرؤ على إغلاق أبوابها. 
العتبات في بداية كل قسم من أقسام الرواية هي حكايات قصيرة تستهل بها كل قسم وتربطها بالمتن. من هذه القصص: القصة الدائرية للأم مع ابنتها التي تصير أماً (ص 77), وقصة "المقهوية" (ص 105), وقصة عشق راغب التركي للصنعانية (ص 145), وقصة قدسية الجامع الكبير (ص 157), ثم قصة "البُدات" السحرية كنموذج لمزج الواقعية بالقصص السحرية والأسطورية (ص 239). وغيرها من القصص الحياتية التي توزعت في ثنايا الرواية والتي تصور ملامح المدينة وحياة سكانها. 

ملمح فني آخر, تتجلى من خلاله أصالة الفنان ووظيفته في آن, هو أرجحة الحدث أو التهويم به بين الحلم والواقع, وقلب الحقيقة إلى وهم أو العكس, نجده في عدة أمثلة منها هذه الفقرات: 
يقول "حميد":
"اختارت "صبحية" الهرب على أن نستكمل حلم اللقاء. تأكد لي أن الرغبة بلا حدود هي "حوريتي مسك", وكل حدود الرغبة هي "صبحية". في النهاية "صبحية" ليست "حوريتي مسك", و "حوريتي مسك" ليست صبحية."

ما يزيد في جماليات العبارة التي استهلت بها الفقرة والتلميح إلى أن اللقاء في الواقع كان وهماً أو حلماً, هو "حلم اللقاء" المشترك بين "حميد" و "صبحية" في الفعل "نستكمل". هذه الفقرة التي توهم بحلم اللقاء أو باللقاء الحلم, تشير إلى نوع العلاقة التي ربطت "حميد" بكل من "حورية" و "صبحية". علاقته بالأولى كانت جسدية, وعلاقته بالثانية روحية لم تتطور لتصير جسدية, لذلك كان من الضروري وضع حدود لهذه العلاقة كي لا تنتهي إلى ما انتهت إليه الأولى, على اعتبار أن "صبحية" هي صنعاء وصنعاء هي صبحية, مثلما أن "حميد" كذلك, والروح هو ما ربطهما بالمدينة أكثر من ارتباطهما الجسدي. 
وتقول "صبحية":
"رائحة خفيفة عبقة من عطر "حميد" العبق أهدتني إياها نسمة هواء رائقة سرت في أوصالي نشوة خجلة جعلت سؤالي يتكرر : هل هذه لحظات حلم أم حقيقة؟!"
بالرغم من وجود شواهد مادية على وقوع الحدث, وهو هنا رائحة العطر التي تخاطب الحواس مما يجعلها أكثر يقيناً وإثباتاً لوقوع الحدث, إلا أن صبحية بالرغم من ذلك توحي بأنها لا تصدق لقاءها بحميد. وكأن اللقاء بين حميد وصبحية لم يكن واقعاً بل حلم. هذا النوع من التساؤل القريب إلى الانكار لا يكون إلا عند لقاء الأرواح لا الأجساد!

المناجاة التي يوجهها "حميد" لروح "صبحية", يزيد من احتمال "حلم اللقاء". يقول "حميد" : "ما سأقوله ولو في الغياب ! ... اسمعي ولو في الغياب !... بي رغبة عارمة بالحديث لك ومناجاتك في خيالي أكثر من أي وقت مضى ... لو قبلتِ دعوتي صبحية, كنت سأحكي لك بل سأعترف لك بقصة ستدهشك ..." ثم يبدأ بسرد ماضٍ لم تعشه "صبحية". مناجاة بين حاضر وماض ! ربما لذلك كان اللقاء حلماً لم يكتمل ! وبهذا الحلم تناجينا الرواية رغبة في تحقيق لقائنا بماضٍ جميل لم نعشه لكن يمكن استعادته لو !

أختم هذه النقطة ببعض الصور الشعرية في الرواية, والتي أنتقي منها ما يلي: 
"شُرب ملامح وجهه", "تقطيع مشاعري وآمالي", "دحرج لي ابتسامة", "الحزن المعجون بشوق لم يزُل من قلبها يوماً أو حتى تخبو ناره", "نصطاد معاً دهشة المدينة بخطواتنا من الأزقة ومن وجوه العابرين ومن نظرات الفضوليين المطلة علينا من شقوق المنازل ومن نوافذها.", "كنت بحاجة إلى كمون الشرنقة قبل أن تحلق في فضاء الحياة من جديد", "اكتفى والدي بتلميع ألمه كل مساء.. واكتفى حميد بزراعة ذكرياته في أرجاء المدينة وريها بدموعه كلما مر بها", "قلبي خاوياً منه كإناء نحاسي تدخله ريح الحياة فيصدر أنيناً جارحاً".

التشويق 
التشويق لا يعني الإخفاء أو الغموض دائماً, فهناك تشويق يكون في عدم إخفاء أي شيء في الرواية منذ أول كلمة فيها, في نفس الوقت الذي لا تكشف فيها شيئاً حتى آخر لحظة فيها. أما التشويق في "صنعائي" فيلعب في المنطقة الوسطى بين الكشف والحجب.

أجادت الكاتبة اللعب بعنصر التشويق وهي سمة أخرى تجيدها منذ روايتها "حب ليس إلا", لكنها هنا تلعبه باحتراف. يبدأ التشويق عندما تحكي لنا "صبحية" عن رجل غامض يحوم حول قبر والدها, ثم غموض الهجرة إلى القاهرة. وفي سياق الغموض الذي يكتنف حياتها تتساءل: "هاهم الغامضون يتكاثرون من حولي: امرأة الستارة, رجل المقبرة, ورجل المأدبة, والغامض الكبير حميد". 

يتخذ التشويق أسلوب التدرج في ولوج الشخصية الغامضة من الإشارة إلى الاسم إلى الوصف: من "رجل المقبرة" إلى "عبده سعيد". ومن "رجل المأدبة", "الرجل الغامض" إلى "رجل المتحف" إلى "غمدان". ومن "امرأة الستارة" إلى "حورية". وقد رأينا كيف أن ظهور "امرأة الستارة" أو "حورية", بدأ بالغموض وانتهي بالغموض, بدأ بالظهور المفاجئ وانتهي بالاختفاء المفاجئ, وكأن ظهورها واختفاءها حلم عاشته "صبحية" أو حكاية من حكايات "البُدات" الأسطورية! 

اختفاء "العم عبده سعيد" ثم التلميح إلى احتمال أن يكون هو رجل المأدبة الذي ضل يراقب غمدان وصبحية "طيلة الوقت ويشبه إلى حد كبير "عبده سعيد" بعد نقعه بالماء لمدة ثلاثة أيام وإلباسه تلك البدلة الفاخرة التي تدل على رخاء العيش!...", وغموض اختفاء حورية, ثم غموض موت والد صبحية الذي يترك الباب مفتوحاً لاحتمال موته الاختياري من أجل عودة أسرته إلى اليمن, إلى المدينة التي أحبتها وحزنت لمغادرتها. إضافة إلى التأجيل السردي والمتقطع الذي لا يفصح دفعة واحدة عن الأحداث, كلها عناصر أسهمت في التشويق. 

يضاف إلى عنصر التشويق تناوب السرد بين شخصيات الرواية وتنوعه بين عدة شخصيات: "صبحية", "حميد", "غمدان", و "حورية", ثم والد صبحية من خلال رسالته إليها التي تقرأها بعد موته حسب وصيته, لتتعرف على تاريخه النضالي وأسباب اختياره النفي الطوعي للقاهرة. هذا التنوع في السرد منح الرواية الحيوية والحركة ومنعها من الوقوع في الملل. 
كل رواية تفرض نهاياتها 
وفقاً لجورج إليوت, فإن نهايات الروايات "هي أضعف نقطة عند معظم المؤلفين". ويقول ديفيد لودج في كتابه "الفن الروائي": "كان ختام القصص شيئاً مزعجا بصفة خاصة بالنسبة للروائيين الفيكتوريين لأنهم كانوا دائماً يتعرضون لضغط القراء والناشرين كيما يجعلوا نهايتهم سعيدة, وكان الفصل الأخير من الروايات يُعرف لدى أبناء الصنعة باسم "جمع الشمل" الذي وصفه "هنري جيمس" ساخراً بأنه "توزيع الجوائز والمعاشات والأزواج والزوجات والأطفال والملايين, والفقرات الملحقة والملاحظات البهيجة."

انتهت العلاقة بين "صبحية" و "حميد" إلى أن تكون جارحة لتنسجم مع تاريخ التحولات التي أصابت المدينة وأهلها, والتي منها التحول في علاقة الرجل بالمرأة المنفتحة والتي تنتهي غالباً بإساءة فهم الرجل لها. النهاية مفتوحة, لكن الكاتبة لا تتركها لتدبير القدر, "لأننا من يصنعها خلافاً للبدايات التي لا نختارها عادةً". تتشكك صبحية من احتمال حبها للمدينة بعد فقدان من أحبتها فيه أو احبته فيها. لكنها تنتهي إلى أن المدينة لا تحتاج لحميد كوسيط بينها وبين من تحب, في رسالة مفتوحة إلينا بوجود أمل ما!
نهاية "صنعائي" مفتوحة وتعطي أمل بلم الشمل, من خلال اللقاء الأخير الذي يجمع بين "صبحية", "حميد" و "غمدان". لم شمل يتجاوز الثلاثة ليجمعنا جميعاً حول مدينة صنعاء باعتبارها رمزاً لكل اليمنيين.

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً