الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
جمال الدين الأفغاني زعيم الحرية - منير عتيبة
الساعة 15:17 (الرأي برس - أدب وثقافة)

 

لا نحتاج إلى مناسبة للحديث عن جمال الدين الأفغانى، وإذا كنا نحتاج إلى مناسبة فهى حاضرة دائما، فمن يقرأ مقالة للسيد جمال الدين الأفغاني في العروة الوثقى، أو حديثا وصف فيه حالة أمم الشرق في عهده (منذ أكثر من مائه عام)، يعتقد أنه كتبها الآن ولم يجف مداد القلم بعد، وأنه وصف حالنا اليوم.. 

فرغم التغيرات الهائلة التي حدثت علي السطح لم يتغير الجوهر.. مازلنا الأضعف والأجهل، "والاستعمار بمعناه الصحيح ومبناه الصريح هو تسلط دول وشعوب أقوياء علماء علي شعوب ضعيفة جهلاء.. القوة والعلم يحكمان ويتحكمان في الضعف والجهل، سنة ثابتة، وقانون متبع في الكون"، على حد تعبير السيد.
***
يصفه المؤرخ عبد الرحمن الرافعي بأنه" أول زعيم للحرية في الشرق وأول باعث لنهضته الحديثة" .. وقيل إنه كان يوزع السعوط –النشوق- بيمناه والثورة بيسراه!

ولد السيد جمال الدين الحسيني الأفغاني سنه 1838م( 1254ه) في "سعد آباد" إحدي قري العاصمة الأفغانية" كابل" , ويتصل نسبه بالسيد علي الترميذي المحدث المشهور, ويرتقي إلي سيدنا الحسين بن علي بن أبي طالب كرم اللهّ وجهه, ويقول عنه صديقه وتلميذه الإمام محمد عبده " فخور بنسبه إلي سيد المرسلين صلي اللهّ عليه وسلم, ولا يعد لنفسه مزية أرفع, ولا عزاً أمنع من كونه سلالة ذلك البيت الطاهر" .. وقد درس منذ صباه اللغة العربية والأفغانية والفارسية, وتلقي علوم الدين والتاريخ والمنطق والفلسفة والرياضيات, كما درس اللغة الفرنسية بعد نفيه من مصر وإقامته بباريس, يقول أديب اسحق " ومن عجائب ذكائه أنه تعلم اللغة الفرنسية أو بعضها حتى صار يقدر علي الترجمة منها ويحفظ من مفرداتها شيئاً كثيراً في أقل من ثلاثة شهور بلا أستاذ إلا من علمه حروف هجائها في يومين.

وكان يتتبع حركه المعارف الأوربية والمكتشفات العصرية, ويلم بما وضع أهل العلم وما اخترعوه جديداً حتى كأنه قرأ العلم في بعض مدارس أوروبا العالية"!

كان السيد جمال الدين الأفغاني عاشقاً للرحلات والتجوال في أنحاء العالم الإسلامي، فزار الهند والحجاز وتركيا ومصر وإيران.. وكان يشعل نيران الثورة علي الاستعمار واستبداد الحكام أينما ذهب, لهذا لم يبق السيد في مكان واحد مدة طويلة، إنه عدو الظلم ورائد الحرية- فأين الحاكم الذي يرضي به في بلاده؟!

استدعاه ناصر الدين شاه فارس فلبي دعوته وذهب إلي طهران, وأصبح مستشار الملك الخاص في إصلاح شئون البلاد، فنصح الشاه بتغيير كل ما يعيب شئون الحكومة وبإشراك الأمة في الحكم وإقامة النظم الدستورية, فتغير الشاه تجاهه مما جعل السيد يستأذنه في السفر فأذن له!

وسافر السيد إلى روسيا, وقابله القيصر بحفاوة, ثم سأله عن سبب اختلافه مع الشاة فذكر رأيه في الحكومة الشورية, فقال القيصر: إني أري الحق في جانب الشاه إذ كيف يرضي ملك من الملوك أن يتحكم فيه فلاحو مملكته؟!
فقال السيد بجرأة لم تكن غريبة عليه: أعتقد يا جلالة القيصر أنه خير للملك أن تكون الملايين من رعيته أصدقاءه، من أن يكونوا أعداء يترقبون الفرص ويكتمون في الصدور سموم الحقد والانتقام! فغضب القيصر، وقام من مجلسه، وانتهت المقابلة، فسارع أصدقاء السيد بإخراجه من روسيا..

ثم تقابل السيد مع الشاه ناصر الدين في ميونخ عاصمة بافاريا، فاعتذر له الشاه وطلب منه العودة إلى طهران ومساعدته على الإصلاح، فوضع السيد مشروع دستور لفارس يجعلها ملكية دستورية، فوشي الصدر الأعظم ورجاله بالسيد عند الشاه، وأفهموه أن هذا الدستور سيؤدى إلى انتزاع السلطة من يده..

فقال الشاه للسيد: أيصح أن أكون يا حضرة السيد وأنا ملك ملوك الفرس- شاهنشاه- كأحد أفراد الفلاحين؟!
أجابه السيد بشجاعة: اعلم يا حضرة الشاه أن تاجك وعظمة سلطانك وقوائم عرشك ستكون بالحكم الدستوري أعظم وأنفذ وأثبت مما هي الآن, واسمح لإخلاص أن أؤديه صريحاً قبل فوات وقته، لا شك يا عظمة الشاة أنك رأيت وقرأت عن أمة استطاعت أن تعيش بدون أن يكون علي رأسها ملك, ولكن هل رأيت ملكاً عاش بدون أمة ورعية؟؟

غضب الشاه علي السيد واعتقله، ثم ساقه خمسون فارساً وهو مريض إلي حدود المملكة العثمانية، فنزل بالبصرة.. واشتعلت الثورة ضد الشاه حتى قتل!

دعا السلطان عبد الحميد سلطان تركيا السيد جمال الدين إليه فاعتذر، ثم دعاه مرة أخري فلبي, وذهب إلى الآستانة أملا في أن يرشد السلطان إلي إصلاح الدولة العثمانية، فقد كان مقصده السياسي هو جعلها دولة إسلامية فى مصاف الدول العزيزة القوية، وقد أنزله السلطان "جبى نشان طاش" من أفخم أحياء الآستانة, وأجري عليه راتباً شهرياً مقداره خمس وسبعين ليرة عثمانية، وقد عمل السيد جهده لإصلاح السلطان والدولة، حتى إنه قال له يوماً: يا جلالة السلطان مللت من تعاطينا الشكاية, ومن غيرك صاحب الأمر؟ خذ بحزم جدك محمود واقص الخائنين من خاصتك الذين يبعدون عن بلاطك حقائق تخريب الوزراء هنا والعمال في الولايات, خفف الحجاب عنك, وأظهر للملأ ظهورا يقطع من الخائنين الظهور, وأعتقد أن نعم الحارس الأجل!

كثر كارهو السيد والمتربصون به والساعون في الوقيعة بينه وبين السلطان, فوسوسوا للسلطان أن السيد يناصر الخديو عباس حلمي ضده، لمجرد أنه قابل الخديو مصادفة في منتزه" الكاغدخانه" بالآستانة, كما أن السيد كان يقدح في الشاه ناصر الدين مما جعل السفير الإيراني يشكوه إلي السلطان, فاستدعاه السلطان وطلب منه الكف عن مهاجمه الشاه، وكان في يد السيد حين قابل السلطان مسبحة فجمعها في كفه وقال بصوت جهوري: امتثالا لإشارة أمير المؤمنين فإني من الآن قد عفوت عن الشاه ناصر الدين!!
فدهش السلطان من الجواب وقال للسيد: بحق يخاف منك الشاه خوفاً عظيماً!

وبعد خروج السيد من حضرة السلطان قال له رئيس الأمناء بلطف: يا حضرة السيد إن إجلال السلطان لحضرتك لم يسبق له مثيل, واليوم رأيناك تخاطبه بلهجة غريبة وأنت تلعب بالسبحة في حضرته!

فقال السيد: سبحان الله.. إن جلالة السلطان يلعب بمقدارت الملايين من الأمة, وليس من يعترض منهم, أفلا يكون لجمال الدين حق في أن يلعب بسبحته كيف يشاء؟!
فهرول كبير الأمناء مبتعدا خوفاً من كلام السيد!
****
توفي الأفغاني صبيحة الثلاثاء 9 مارس 1897 م, وما إن بلغ الحكومة العثمانية نعيه حتى أمرت بضبط أوراقه وكل ما كان باقياً عنده, وأمرت بدفنه من غير رعاية أو احتفال في مقبرة المشايخ بالقرب من نشان طاش, فدفن كما يدفن أقل الناس شأناً في تركيا, وظل قبرة هناك حتى نقلت رفاته إلي أفغانستان سنه 1944م.

ويؤكد الأمير شكيب أرسلان أن السيد مات مقتولاً.. فقد حبسه السلطان في قصره.. ثم ظهر في فمه مرض السرطان, فأجري له " قمبور زاده اسكندر باشا" كبير جراحي القصر السلطاني عمليه جراحية لم تنجح, ومات بعدها بأيام قلائل..(بأمر السلطان).
*****
لقد كان السيد جمال الدين أول الأصوات في العصر الحديث التي أخذت تنبه الشرقيين إلي واقعهم, وتحاول أن تنفخ فيهم روح الأجداد لينهضوا ويتحرروا من بطش الطغاة واستبداد المستعمرين.. فقد كان السيد مصلحاً دينياً وفكرياً وسياسياً من الطراز الأول, فهو يشبه أن يكون مارتن لوثر وجان جاك روسو وجورج واشنطن معاً!

وهب السيد حياته لخدمه دينه وأمته, وكانت أهم القضايا التي تشغله: الوحدة بين أمم الشرق, والدعوة إلي العقل والاجتهاد, ومحاربة البطش والاستبداد والاستعمار, ومناصرة الحرية, وإيجاد حاكم مسلم قوي رشيد يعيد للأمه مجدها...

فمن أقواله: لا جامعه لقوم لا لسان لهم, ولا لسان لقوم لا آداب لهم, ولا عز لقوم لا تاريخ لهم, ولا تاريخ لقوم إذا لم يقم منهم أساطين تحمي وتحيى آثار رجال تاريخها فتعمل عملهم, وتنسج علي منوالهم, وهذا كله يتوقف علي تعليم وطني, بدايته الوطن, ووسطه الوطن, وغايته الوطن!

ويقول: شر أدواء الشرق انقسام أهليه وتشتت آرائهم, واختلافهم علي الاتحاد, واتحادهم علي الاختلاف, فقد اتفقوا علي أن لا يتفقوا.. ولا يتم عمل والتآلف مفقود, ولا يكون فشل والاتحاد موجود.. الدخول من باب الذل لا يثمر غير الذل, ومعشر الشرقيين في الفقر خوف الفقر وفي الموت خوف الموت!

وكذلك: إذا صح أن من الأشياء ما ليس يوهب فأهم هذه الأشياء الحرية والاستقلال, لأن الحرية الحقيقية لا يهبها الملك أو المسيطر عن طيب خاطر, وكذلك الاستقلال, بل هاتان النعمتان إنما حصلت وتحصل عليهما الأمم بالقوة والاقتدار.. وخير لون لراية الاستقلال دماء المجاهدين الأبطال!
ويقول: خير موازين الأمم أخلاقها, ولا أخلاق بغير عقيدة, ولا عقيدة بغير فهم!

ولقد ذكر بعضهم في مجلسه قولاً للقاضي عياض في غلقه باب الاجتهاد واتخذوه حجة, واشتد تمسكهم بهذا القول حتى أنزلوه منزلة الوحي, فقال السيد: يا سبحان الله.. إن القاضي عياض قال ما قاله علي قدر ما وسعه عقله, وتناوله فهمه, وناسب زمانه, فهل لا يحق لغيره أن يقول ما هو أقرب للحق, وأوجه وأصح من قول القاضي عياض أو غيره من الأئمة؟ وهل يجب الجمود والوقوف عند أقوال الناس؟ إنهم هم أنفسهم لم يقفوا عند حد أقوال من تقدمهم, لقد أطلقوا لعقولهم سراحها, فاستنبطوا, وقالوا, أدلوا بدلوهم في الدلاء في ذلك البحر من العلم وأتوا بما ناسب زمانهم, وتقارب مع عقول جيلهم, وتتبدل الأحكام بتبدل الزمان.
*****
وأحب أن أورد في ختام كلمتي عن السيد جمال الدين مقارنه طريفة وبارعة أجراها السيد بين الانجليزي والشرقي في عصرة, لأنها تثبت فكرتي الأساسية هنا وهي أننا مازلنا نثير ونناقش وندور حول قضايا ناقشها السيد منذ أكثر من قرن, فإذا كنا لا نتأخر فنحن بالتأكيد- وللأسف الشديد- لا نتقدم!
يقول السيد عن الانجليزي: إنه قليل الذكاء, عظيم الثبات, كثير الطمع والجشع,عنيد, صبور, متكبر!
ويقول عن العربي أو الشرقي: إنه كثير الذكاء, عديم الثبات, قنوع, جذوع, قليل الصبر, متواضع!

يثبت الإنجليزي حتى علي الخطأ إذا تسرع وقاله أو باشره, والشرقي لا يثبت علي الصواب ولا علي طلب حقه, فيفوز الأول بخير النتائج بفضيلة الثبات, ويخسر الثاني حقه برذيلة التلون وعدم الصبر!

 

منقول من بوابة الأهرام ..

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً