الاثنين 23 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
الفتى عاري الصدر يعبر قيامته ــ سبأ الحمزة
الساعة 17:02 (الرأي برس ـ أدب وثقافة)

لم أقرأ الرواية، فقط استلقيت على السرير، وتحكمت في طبقة اللاوعي وهي إحدى الطبقات التي تكون دماغي، وأستطيع التحكم فيها جيدا، انتقلت من الوعي الذي يقول أنني سبأ إلى اللاوعي الذي أصبحت فيه أميرا.

لكي أتحول من طبقة الوعي إلى اللاوعي فقد استوجب عليا أن أتقيأ، هل تعلمون ماهو القيء؟ هو ليس فقط بقايا الطعام المتراكمة في المعدة، فالمعدة حقيقة لا تهضم الطعام فقط، هي تهضم الطعام، الكلام، الذاكرة، وتهضمنا نحن أيضا، لذلك عندما نشعر بالحزن الشديد نشعر بألم في المعدة، لأنها المكان الأساسي لكل العمليات الرئيسية في الجسم، وليس القلب كما يظن البعض، القلب مولد كهربائي فقط يزودنا بالطاقة لكي نتحرك ويشعر بنا الآخرين، لكن المعدة تظل تعمل حتى لو توقف القلب أو المولد الكهربائي عن العمل. المهم أنا بدأت طور التحول بالتقيؤ الشديد وفي تلك اللحظات كنت مغمضة عيني لا أعلم هل أقول مغمضة أو مغمض فما أن فتحتهما حتى وجدتني في ملابس شاب بالقرب من إحدى الطاولات في أحد مقاهي القاهرة، وحولي بعض الشباب، بعضهم ينظف وجهي من أثر القيء وآخران ينظفان الطاولة التي يبدو أنني قد غمرتها بالكامل، فعلى ما أذكر أن سبأ أكلت كثيرا قبل مرحلة الانتقال وهذا شيء لا ينصح به البتة، فلن يكون هناك دائما أصدقاء ينظفون القيء في كل مرة، قد يكون في انتظارك حبل المشنقة لو أنت انتقلت بطبقة اللاوعي إلى حضرة برجوازي.

لم أتوقع أن أمير هذا الذي قررت أن أصبح أنا هو سيموت سيجتاز الحياة الأولى إلى حياة أخرى فأنا لا أعلم كيف أعود إلى الوعي وأنا ميتة! كان أمير يلفظ أنفاسه الأخيرة ونحن في التاكسي بطريق المستشفى وأنا أفكر كيف سأعود لو مات! لكني قررت خوض التجربة على أية حال، سأعيش حالة موت وربما كنت قادرة على العودة منها، وهكذا سأكون أول شخص عاد من الموت ليحكي عن هذه الحقيقة المبهمة هكذا سولت لي نفسي.

عندما وصلنا إلى المستشفى كان صديقي فاقدا الوعي، أمير الجثة لم يعي ذلك لكني أدركته بنفسي لأني أعلم عن هذه الأمور أكثر مما يعلم أمير وأكثر مما يعلم مروان كاتب هذه القصة، أوه نعم، نسيت أن أحدثكم عن مروان، مروان شاب ثلاثيني من اليمن، اليمن تلك الدولة التي تقع في جنوب شبه الجزيرة العربية، دولة عظيمة تاريخيا، لها جذور تاريخية تمتد إلى أوروبا شمالا وإلى جزر القمر جنوبا وإلى الصين شرقا ولا أعلم أين تذهب جذورها بجهة الغرب لكني أعلم أنها مترامية الأطراف من الداخل، مغمورة في مدفل قات من الخارج. مروان شاب غاص في أعماق اليمن من الداخل وهذا شيء لا يستطيع القيام به سوى قلة قليلة من اليمنيين، أولئك الذين يؤمنون بأن لها في غياهبها عظمة، أبحر عبر البحر العربي والبحر الأحمر ثم انتقل إلى بحر ايدمان ثم إلى البحر الأسود ومنه إلى بحر البلطيق، حقيقة ليس لي علم وافر في الجغرافيا ولا أعلم كيف للمرء أن ينتقل من بحر إلى آخر وهل كانت كل هذه البحار تصب في محيط واحد أم إن كانت منفصلة تماما عن بعضها، لكن الأكيد أنه كان يأخذ فترات راحة هنا وهناك وربما انتقل من بحر لآخر عبر اليابسة، ثم إنه الآن قد توقف عن الابحار واستقر في ألمانيا التي يبدو أنه يعشقها لتاريخها الجبار وحاضرها القوي، أظنه يشتم رائحة اليمن بتاريخه البائد، يحاول جاهدا أن يستخرجه من سم الخياط، اليمن الكبيييير بتأريخه أصبح لمروان حلم يريد استعادته حتى لو كلفه الأمر حياته بل أعظم من حياته عقله. مروان المستفز لأطياف كثيرة في اليمن حتى تلك الطائفة التي ينسب إليها إكراها من باقي الطوائف والمجاميع هو ذاته مروان الكاتب الذي وإن لم يكن واحدا من عمالقة الغرب فهو في نظر الكثير عملاق اليمن، ربما يعلم أن له اسمه ومكانته على سطح اليمن لكنه لا يعلم أنه قد حفر لنفسه مكانا في داخل اليمن هناك في العمق لكنه لا يُعرف بمروان، هناك يُدعى بذي يزن. هذا الرحالة الصغير، طبيب قلب وكاتب ومدرس ومترجم وسياسي وفيلسوف وكان كما سمعت يوما مشروع رجل دين! وربما يكون شيء آخر لكني أعلم أيضا أنه عاشق وزوج وأب كل هذه الصفات تذكرني بالعظماء الأوئل كالرازي وابن سيناء وابن رشد، الفرق بينهم أنهم كلهم من خارج الجزيرة العربية وهو من قاع الجزيرة العربية! يا إلهي لقد انبعث من العمق حقا! إنه يشبههم إلى حد بعيد، الحد الذي لا يعرفه الكثير عن هؤلاء العلماء لكنه يتميز عنهم برائحة القهوة التي تنبعث من كونه يمنيا.

كان مصطفى صديق أمير الذي أصبح صديقي أيضا عندما انتقلت عبر اللاوعي إلى شخصية أمير، فاقدا الوعي كما قلت قبل قليل، فقد كان يحدث نفسه أن أمير يبالغ في برودته تلك، يحاول أن يصنع لنفسه هالة من تعب لكي يبرر سبب تقيؤه، وما أن قال الطبيب أن أمير مات حتى أصبت بدهشة بالغة شعرتني أنتقل من اللاوعي إلى الوعي فقد نبهني الطبيب إلى حقيقة كنت أغض وعيي عنها لكني اصطدمت بطبقة لم تصادفني طيلة المدة التي كنت انتقل فيها عبر اللاوعي! لقد وصلت مرحلة الاحترافية في الانتقال عبر الطبقات لكني لم أنتقل إلى طبقة ميت من قبل، هلعت كنت أناديني أحاول أن أعود إلي، همهمت بئسا لك يا مروان من قال لك أن تهديني كتابك في يوم كهذا، كانت تمطر عندما قررت الانتقال وكانت معدتي ممتلئة وذاكرتي أيضا، كانت كل الاشارات الأولية تحذرني من الانتقال لكنني لم ألق لكل تلك الانذارت بالا فمن الشؤم أن تنتقل عبر اللاوعي في يوم ممطر! لا أعلم حقيقة كيف ولم نزل المطر في هذه الليلة بالذات فلم يكن هناك أي دلالات أو اشارات أو حتى سحب لكي نتوقع يوما ممطرا ، حتى أنه ليس موسم أمطار، فهي لا تمطر عادة في هذا الوقت من العام في اليمن! ومازاد الطين بلة أن أنتقل عبر اللاوعي إلى جسد خال من الروح! لقد كنت فريسة سهلة لجسد أمير، فالجسد حين يفقد الروح يظل يبحث عن روح كي تتقمصه، قبل أن يتعفن ويصبح وجبة دسمة للديدان، كنت أقاوم أريد العودة، لكني لم أستطع، كانت معدة أمير ممتلئة بستة ساندوتشات أكلها في حي الحسين دفعة واحدة، كان أصدقائه يظنون أنه يتقيأها لكني وجدت معدته مازالت ممتلئة، فتأكدت أنه كان قيئي أنا، ولو دققوا قليلا لعرفوا أن ما كان على الطاولة هو بقايا أكل هندي وليس ساندوتشات كبدة، على اية حال لا أريد أن أتكلم كثيرا عن القيء مع أن الموضوع يريحني بعض الشيء، لكني الآن لا أعلم هل كانت هذه هي خطة مروان؟ أن يخلق بطلا ميتا! أم أنني قتلت بطل روايته من شدة القيء وبسبب كل الدلالات التي كانت تحاول منعي من الانتقال إلى اللاوعي؟ كنت أتمنى في ذلك الوقت أن يستيقظ رفيقي من النوم ويراني ملقاة على السرير بلا حراك فيعلم أنني انتقلت بعيدا، فهو الوحيد الذي يعلم بحقيقة انتقالي من وقت لآخر، لكن يبدو أنه كان غائبا في النوم بسبب العشاء الدسم الذي تناولناه معا في المطعم الهندي. 

كانت ذاكرة أمير محاصرة بكل تلك الكميات من الطعام وعصارات المعدة وبي أنا أيضا، كنت عالقة هناك في أعلى المعدة مما سبب له حساسية شديدة لكل الحواس السمع البصر الشم التذوق اللمس، ربما لأننا توحدنا فالمصابون بالتوحد يعانون من هذه الحساسية! لكنه لم يكن يعلم أنني هناك، استوطن أعلى معدته وأقوي حواسه، لذلك فقد تاه المسكين وحار في أمره هل فقد حياته أم أنه لم يمت بعد، سببت له تشوش هائل مما جعله يذهب بي نحو الأمس البعيد من ذاكرته، كان يأخذني إلى المقبرة المجاورة لمنزلهم تارة وإلى ايتالو كالفينو الكاتب الذي لم أنه له كتابا قط تارة أخرى، كانت ذاكرته تتقاذفني بشدة، تدحرجني من بؤبؤ عينه إلى اصبع قدمه، وهو يظن أنني روحه. 

كنت أقاوم أريد الخروج أريد العودة فقد شهدت انتهاكات عديدة في تلك الليلة البائسة، وأكثر الانتهاكات التي أجبرتني على استجماع قواي هي أن هذا الأمير البائس يشهد كل هذه الفواجع بسببي أنا، حاولت أن أبحث في ذاكرته عن شيء يجعله أقوى، عن شيء يمكنه من لفظي خارجا، حتى وجدت صديقه محمود يتحدث عن أحد زملائه ويقول :"إن الصدمة الكهربائية لا تعيد سوى الأقوياء، أما الضعفاء فما أن تنزلق أقدامهم إلى الموت حتى تهوي فيه أجسادهم بلا أوبة". هكذا استثرت فيه قوته، استجاب لصفقتي معه، أنا أعيده للحياة لأصدقائه لشقته في المنيل وأنا أعود لوعيي، لم أكن متأكدة من أنني استطيع أن أعيد شخصا قضى نحبه في الأول من يناير من العام 2008 إلى الحياة في الثامن عشر من فبراير من العام 2014 إلا أنها كانت الوسيلة الوحيدة لأعود إلى وعيي بدلا من أن يظل جسدي مزجا بلا حراك، فقد كان أمير جسد توقف قلبه عن الحركة وكنت أنا جسد بقلب ينبض لكنه بمعدة فارغة! لذلك آمنت بقدسيتي التي أوهمني بها أحدهم يوما ما، وقررت أن أحيينا، ويبدو أن المحاولة نجحب بدليل أني أكتب لكم الحكاية الآن، فقد أفقت في الثالثة صباحا وأنا مجهدة جدا أحاول أن انتشلني من تحت الغطاء وبعد عناء امتدت يدي تجاه كوب الماء القريب من السرير وشربته كاملا ثم توجهت إلى المطبخ شربت كوبا آخر ثم فتحت الثلاجة وأكلت كل مافيها من فواكه حتى امتلأت معدتي وامتلأت بي من جديد، أما أمير فقد تركته ملقى أمام شقته في المنيل وهو يظن أنه نام يوما واحدا فقط في المستشفى ..
سبأ الحمزة شاعرة وقاصّة من اليمن.

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً