الجمعة 29 نوفمبر 2024 آخر تحديث: الخميس 28 نوفمبر 2024
حكاية كل خميس - عبدالله عباس الإرياني
الساعة 20:23 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)




لا ترى عمي حسن مابين الساعة الثانية عشر والثانية بعد الظهر إلا وهو في حركه دائمة لا تتوقف، شمال يمين..شمال لالتقاط قبضة أو قبضتين من القات والى ما شاء المشتري من الرزمة المكومة بكيس كبير من القماش على شماله، ويمينه لمناولة المشتري الواقف مع مجموعة كبيرة من المشترين، وكل واحد منهم مادا يده التي أمسك فيها بالنقود ابتداءً من خمسمائة ريـال وما فوق كل حسب قدرته. وبقدر ما يدفع المشتري بقدر ما يعطي عمي حسن ولا مجال للمساومة أو الفصال هكذا عودنا على تلك الأسعار صيفاً شتاءً.. قلت له وقد كنا في موسم القات:
 

- الدنيا صيف والقات رخيص فلماذا لا تهبط أسعارك؟ 
نظر إليّ نظرة حادة وقال:

 

- أسعاري هكذا صيفاً وشتاءً ولا تراجع عن ذلك.
ومع هذا فأن وجودي ووجود الناس لا ينقطع.. فهل عمل لنا سحر؟ هكذا سألني أحد المتواجدين حينذاك.
وعند عمي حسن جميع فئات المجتمع ابتداءً من عامل البناء، الموظف الصغير والكبير، أستاذ الجامعة، وانتهاءً بمن ينوب عنهم لشراء القات. وتتداخل الأيادي مع بعضها وهي مرفوعة في اتجاهه، وفي هذا الزحام فأنك لا تسمع ألا كلمة يا عم حسن وهي تتردد في توسل وتضرع لعل وعسى أن يكون لأحدهم أفضلية السبق على الأخر، كأن عمي حسن قد وحد كل أيادي المجتمع..الأيادي النظيفة والأيادي المدنسة في لحظه لا يحلم صاحبها إلا بالحصول على ما يحتاجه من القات سواء دفع فيه ربع، أو نصف، أو ثلثي دخله، أو دفع فيه فتات من فائض دخله.

 

وبقدر ما يدفع المتعاطي بقدر ما يكون كيفه، وبقدر ما يملكه من مال بقدر ما يكون وضعه وهو يتعاط القات سواءً كان متكئاً على بلكة من الأسمنت وقد افترش الأرض والتحف السماء أو على مسند  اعتلته مخدة محشوة بالصوف الفاخر في أحدى الدواوين التي افترشتها المفارش الصينية الغالية الثمن. وكلما انخفض مستوى الدخل كلما كان القات أكثر تدميراً لمتعاطيه..هكذا دارت الأفكار في رأسي وأنا انظر إلى الجمع المحتشد بأياديهم الممدودة..وما أن اتكلت على الله وأدخلت يدي مع أياديهم حتى صرخت بأعلى صوتي متسائلاً:
- لماذا لا تتعاط القات يا عمي حسن؟
رد، وقد بدت على وجهه علامات الفرح وهو يرى أيادينا الممدودة إليه كأيادي الجائعين وهي تمتد للحصول على حفنة أرز،:
- بائع السم لا يتجرعه .
رد عليه أحد الحاضرين:.
- ولكن غالبية بائعي القات يتعاطونه إن لم يكن كلهم .
- مغفلين مثلكم ..قلت له:
- إذا كان هذا رأيك فهل أنت راض عن نفسك؟
- طبعاً راضِ عن نفسي مادمت وغيرك يأتون طائعين للدفع صاغرين.
قلت (وأنا أضع يدي بيده مناولاً له):
- هذه خمسمائة ريـال وأعطني من فئة الألف وسأدفع لك الباقي في المرة القادمة.
- أنا لا أبيع بالأجل وأنت تعرف ذلك .
- هذه المرة فقط يا عمي حسن أرجوك، فأنا زبونك منذ سنيين .
- لا استثناءات عندي فزبوني فلوسي .
- كيف يا عمي حسن؟
- الزبائن عندي مقامات..فصاحب الألفين يساوي ألفين، وصاحب الألف يساوي ألف وصاحب الخمسمائة يساوي خمسمائة وأنت تساوي اليوم خمسمائة فخذ ما تساويه وأتكل على الله.
- وأنت كم تساوي ياعم حسن؟
- أنا أساوي أنا.
- ومتى سيساوي كل واحد منا نفسه؟ 
- عندما تحترمون أنفسكم ولا تأتون إليّ .
- ولكنك ستحرم من مصدر رزقك .
- لن أحرم فستعودون وغيركم صاغرين فخذ ما تساويه وتوكل على الله .
أدرت وجهي نحو الحاضرين بعد أن أخذت ما أساويه وسألتهم:
- هل ستعودون بعد كل ما قاله عمي حسن؟
أجابوا بصوت واحد :
- نعم سنعود. 
تركتهم لأعود من حيث أتيت. وما أن خطوت عدة خطوات حتى سمعت عمي حسن يخاطبني متسائلاً
- وهل ستعود أنت؟
وقفت، نظرت إليه وإلى حال السوق، ثم قلت:
- لا أدري ولكنك ستعرف عندما يأتي الخميس القادم.

 

 

* مختارة من مجموعتي القصصية ( حكاية كل خميس )، صدرت عام 2006م. أهديتها في حينه للصديق 
المرحوم المخرج المسرحي المعروف فريد الظواهري، وكنت حينذاك بصدد كتابة مسرحيتي الأولى. وبعد بضعة أيام التقيت فريد، مصادفة في سوق القات، عند عمي حسن..وقبل أن نسلم على بعض، كان يقول لعمي حسن:
( هذا هو الإرياني صاحب حكاية كل خميس.) رمقني عمي حسن بنظرة متفحصة، ثم قال: ( وكتبتها وأنت مخزن. ) واستطرد مناديا مساعده ( يا وليد هات أبو ثلاثة ألف .) وناولني أبو ثلاثة ألف ريـال، وقبل أن أعيده له فأنا أشتري بأقل، كان يحلف بالحرام والطلاق أنها هديته لي في هذا اليوم، واستطرد: ( هذه المره وبس.) 
 مات فريد الظواهري، ومن بعده لم أفكر، أو أأمل أن ما أكتبه من مسرحيات ستعرض على خشبة المسرح، بل من أجل إشباع هوايتي، تظل كتابة المسرحية أمتع من كتابة القصة القصيرة، والرواية. وبعد سنتين، أو ثلاث، لحق عمي حسن بفريد الظواهري، ومن بعده حرمت زيارة ذلك السوق..رحم الله الأثنين.

 

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص