الاربعاء 25 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
ذاكرة مرآة - منيف الهلالي
الساعة 22:50 (الرأي برس - أدب وثقافة)


هي الحقيقة إذن، لم يعد أمامي متسع للوهم، لا شيء يواجهني سوى الوداع، لقد هوى صرح حلمي وصار للرياح هشيماً تذروه على جبال ووهاد ذاكرتي.
دعيني أتوقف لحظة عن اللعب، لحظة عن الهزل..، كفاني كل ما عشته من خداع.
أعرف اليوم أنك لن تكوني لي.. ما عدت حبيبتي.. أنت مشروع ألمي القادم، مشروع معاناتي الأصعب.

 

ليتني أستطيع حضور حفل زفافك.. كنتُ على أصابع الجرح أتيت، وحدها الروح ستأتي مشياً على حزني الأكبر لتشاركك فرحة عمرك ومأتمي.
دعيها تلقي آخر نظرة على عيون من أحبونا وعلى تلك الرسائل التي كتبناها، والخطوط التي رسمناها معاً.. دعيها تقبل جبين تلك الشقيقة، التي ذاقت معنا مرارة الخوف من سطوة الأهل وفرمانات الحجر على المشاعر.. دعيها تلامس رائحة تلك العجوز، التي ستقف إلى جوارك ولسانها طري يدعو لنا.. دعيها تمخر عباب الصمت، المخيم فوق عروسين اختلسا لحظة عناق قلقة لم يجدا لغة يبثان عبرها لواعج الشوق وهذيان الحنين، سوى نظرات شك مثخنة بالخوف من عبثية النزوة وسطوة المزاج.
قسراً، سترحلين، وستضعين حب السنين عند بابك، تغلقين قلبك في وجهه، أو ربما، تعودين إليه بحقائب الحنين وحفنة من أحلام رخيصة الثمن..!

 

عارٌ على العشاق أن يذهبوا بالحب إلى السوق السوداء كسلعة للتقايض.
أنا هنا، في هذه المنطقة القريبة من دارك، الهاربة بي من ذاتك إلى ذكرياتك، أجلس في المقعد الأمامي لسيارتي، بعينين ملتصقتين بتلك الشرفة، التي اعتدتك تحلقين منها على تضاريس حبي من ارتفاع تتضح معه رؤية ابتسامتك المشرقة، التي كانت تخفي خلفها معالم هذا المصير الموبوء بلعنة الحزن.
 أتساءل، رغم فوات الأوان: تراك ستعودين "بالبلوزة" الحمراء و"الشورت" الأسود –خلسة- إلى هذه الشرفة..؟!
ترى هل ستتسلقين تلك النافذة القريبة من الشرفة مرة أخرى كيما أرى خلخالك الشارد شطر التيه..؟
أيبقى باب الشرفة مشرعاً على مصراعيه، كما هو قلبي، أم أن تلك الأطلال ستظل ترتكب فيَّ عنف الذكريات, أنا الذي أحاول أنساك فأذكرك.. أكرهك فأحبك..؟!
ها هي هدية عرسك، التي حملتها لك من أقاصي الأرض تشغل مكانك الفارغ إلى جواري، وها أنا أعبر تلك الشوارع المحفَرة، التي بددنا فيها أجمل سِني العمر، وقد اتشحتْ بالسواد نظراً لغيابك عنها. حتى تلك الشجرة، التي اعتادتك تسلمين عليها وتتفيئينها أثناء انتظارك لي وعند الإياب، ما عادت وارفة.

 

حين سرت إليها.. رمقتني بنظرات باردة مغلقة، أجبرتني على الاقتراب منها وتفقدها كأني أتفقدك.. لكنها رفضت مصافحتي بصمتٍ مؤلم, شعرت وأنا أعيد يدي إليَ/ إلى منتصف الذاكرة، أن شيئاً ما انفصل عني.. كان ملتصقاً بروحي.. شيئاً مني.. كان ملكي.. كان أنتِ.. كان أنا.
إن لهذه الشجرة مكانة خاصة في أعماقي، امتدت جذورها على مر تلك السنين الطويلة، حينما كنت أقف بجوارها كي أتداوى من بعض الخناقات الصبيانية، التي كانت تحدث بيننا عبر الهاتف، كنت أعتقد أنها وحدها القادرة على شفائي كلما لجأت إليها، إلا أنها اليوم صارت عاجزة عن فعل ذلك..!
ها أنا أحمل ذاكرة مرآة، لأقف في لقائي الأول معها مذ فاجعة رحيلك، لأكتشف أننا لسنا الوحيدين اللذين افتقدناك، بل إن كل شيء هنا يؤكد لي حزنه عليك..
وجه ذلك البقال يسألني عن غيابك وعن كروت الشحن، التي باتت عبئاً على خزانته. حارس العمارة -الذي كان يطربه وقع نعليك كلما مررتِ بالقرب منه- هو الآخر كتب بالطباشير على باب العمارة الخلفي "سألنا عليك وينك". تلك الطفلة السمراء -التي كانت تستبدل سينك ثاءً- أصبحت تمتلك السين والثاء معاً، وحين رأتني لا أتأبط ذراعك ابتسمت بحزن وعيناها تفتشان عنك في كفي الخالية، إلا من بقايا حبر.
حتى مدينة سام، بأزقتها وشوارعها وحدائقها وجسورها القاصرة، وبتسامحها المعهود مع اللصوص والقتلة وتجار الحروب، وبخجلها من تصرفات القادة الجدد، وبرائحة البارود وعبق الثورة، تحدثني عنك.
هنا ولدتِ، وهنا تربيتِ ودرستِ، وهنا زرتني ذات ألم، فصرتِ خارطة أوجاعي.. هنا، ارتشفنا من ثغر فنجان التيه قهوة الأحلام المستحيلة، وعلى هذه الصخرة تركنا كتبكِ المدرسية الممزقة وذهبنا نستبق.. هنا أهديتِني المصحف الشريف وتلك المسبحة القديمة، التي ما زالت تزين خاصرة مرآتي.
ما زلت أذكر حين أدهشني حديثك عن عذرية شفاهك وعن عدم معرفتك بكيمياء القبل حتى مع الأطفال، وجهلك للطريقة التي يمارس بها العشاق عراك الشفاه.. مذهولاً كنت أستمع إلى دراماتيكية سردك القصصي، حين تصورين المشاهد بأسلوب سلس ومتجانس ومقنع، يوحي بحرفية فائقة.!
ألا تذكرين ذلك المطعم الفاخر، الذي كنا نرى منه المدينة وهي تتحرشنا برمشيها، حين كنت أتوسلك تناول الطعام فتطعمينني دون أن تتذوقيه نتيجة انشغالك بشلالات الماء، التي تموسق حولنا باستفزاز رومنسي حميم. حينها لم أكن قادراً على أن أميز بين الأشياء، الحب كان الميزة الوحيدة التي كنت أنصت إليها.

 

الغريب، أن هذا المكان الذي صار موحشاً بعدما عبث الرصاص بالرؤوس، التي تحمل فكرة التغيير على مقربة منه، هو نفسه الذي حرر مشاعرك من سجون عواطفي وقيود حبي.. لكن، هل كانت مصادفة أن تتخلصي من حبنا في نفس المكان الذي شهد ميلاده..؟ أبداً، لم تكن مصادفة، بل كان كفاحاً من أجل الوأد.!
في هذه المنضدة الفاخرة، ومع وجبة عشاء مبكرة، مضغ ذلك الكهل حضورك وأنت تقفين على مرمى يده وملء بصره، ثم كوره في فمه، قبل أن يرميه في راحة يديك عبارة عن بقايا أنثى.
كانت حمرة شفاهك/أنوثتك، غالية الثمن قد لطخت ثوبه الأبيض, وكان حذاؤك قد تمزق على حافة اللحظة المسعورة, بينما انكفأتِ تلعقين أوهامك بصمت.
ظللت أتأملك بحزنٍ يمزق أجزائي, بينما تشبث بتلابيبك حد إغراقك في بركة مياهه الآسنة، كان يبحث عن عذرية الأشياء ليعبث بها (بالحلال)، بطريقه تكاد تكون ظاهرة، لولا أن المجوهرات -التي استعادها منك مؤخراً- حجبت عنك الرؤية.
في حقيقة الأمر, أعلم أن ما دفعك للارتباط بذلك الكهل، الذي جعلك تلملمين أشلاءك وتجرين أذيال الخيبة والندم وراءك، وقد أورثك الدموع وذاكرة الحزن ليس أكثر من كونكِ لم تبلغي سن الرشد العاطفي بعد، والذي ينزاح معه الغشاء أو الحاجز الذي على عين الإنسان، فيكون قادراً على التمييز بين الشياطين والملائكة..
لذا لا تحزني، فالحزن لا يليق بحبيبتي، لستِ وحدكِ من نام في صدره، فهناك العديد من الرصاصات أيضاً..!

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً