الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
شعرية الحرية في ديوان بريد الفراشات للشاعرة المفربية حسنة أولهاشمي - الدكتور محمد بن إدريس منوني
الساعة 15:59 (الرأي برس - أدب وثقافة)



 
المحتويات

المقدمة
قراءة في العنوان
رمزية الشكل الطباعي
الأنا الساردة 
اللغة الشعرية
شعرية الحرية 
الحركة الإيقاعية
فضاء المكان 
الصورة الشعرية
صورة الجسد دالاًّ شعرياً
خاتمة
 

 

المقدمة
 

تتوفر التجربة المتميزة للشاعرة حسنة أولهاشمي في إصدارها الشعري "ديوان بريد الفراشات" على مجموعة من المقومات تمتاز بالخصوصية والأصالة، سواءً على مستوى المرجعية الثقافية واللغوية أو على مستوى البناء الشعري الجمالي في نموذجه التقني.  وهذه المقومات النوعية هي التي جعلت منه تجربة بحاجة إلى انتباه ونظر ورصد في القراءة، على المستوى الأفقي والعمودي، يكشف عن طبيعتها ورؤيتها ومزاجها الشعري.

وإن الخصوصية الشعرية التي تتمتّع بها هذه التجربة من شأنها أن تحرّض أي مهتم بالشعر على قراءة ممتعة، متمعنة وجادة، بكثير من التأمل والحرص والغوص في باطن النصوص، ليكون بإمكان أدوات، هذه القراءة، أن ترصد شبكة التحولات البنائية والأسلوبية والدلالية والصورية التشكيلية التي تتمتّع بها نصوص ديوان "بريد الفراشات".

لهذا فديوان "بريد الفراشات" هو عالم يحمل لنا جمالا وسحرا وتأملا وشعرا وإبداعا بلا أدنى جدال، وقد كانت قراءته تحديا ممتعا لحد النشوة بما يحتويه من همس ورقصات عبر ظلال لفراشات بألوان وأشكال متنوعة. ولكلّ هذه الأسباب والمقاربات والرؤى والمنطلقات التي سنعرضها، فإن عالم الفراشات قد أهدته الشاعرة حسنة أولهاشمي ما يليق به من شعر عظيم وإبداع عظيم وحياة عظيمة بألوان وأشكال وصور ترجمتها قصائد الديوان.

    

 
قراءة في عنوان الديوان:
 

إن عنوان الديوان هو العتبة الأولى قبل الدخول إلى عتبات القصائد و المتن النصي ويعتبر أداة من أدوات القراءة، من خلال القدرة على استثمار الانتباه وتوظيفه في تأويل العنوان وتفسيره وتفكيكه.
إن عنوان الديوان بنمطه التصويري يقترح دلالة لها حضور إشكالي وملتبس في الذاكرة ،  إذ طالما تحدثت الأفكار والفلسفات والأعمال الإبداعية الكثيرة عن حساسية هذا الدال ومقاربته بأشكال مختلفة، لكن المعنى الحقيقي سيظلّ ملتبساً ومعقّداً يعتمد على طبيعة الفلسفة التي تقاربه.
 
والعنوان يوحي في رمزيته إلى هذا الشغف بالشعر من حيث أن عملية الكتابة من ناحية الشكل هي الروح الشاعرة التي يمثلها هذا " البريد " الذي يستقبل إشارات، يمحصها، يدققها، ثم يضع طابعه وغلافه وخاتمه ثم يرسل إشارات في شكل أخر إبداعي عبر نقل الرؤيا وكل الجمال والإشارات الملتقطة إلى القاريء بطريقة سهلة ومرنة ومبدعة، بشكل وبإحساس جميل، وبصور متنوعة وجميلة.

أما من ناحية المضمون فعملية الكتابة تعتبر مثل " الفراشات" التي تبهرنا بجمالها ، بحريتها، بانعتاقها، بسموها، وبارتقائها، ثم بضعفها ورهافتها. هي جميلة بحد ذاتها وصافية وتضفي على روح من يراها السكينة والطمأنينة. 
و تأخذنا معها هذه "الفراشات" من خلال تحركاتها لاكتشاف الجمال والسمو، في الطبيعة، في الكون ، وترجعنا لطفولتنا، لبراءتنا ولإنسانيتنا.
لكن مصير الفراشات مرتبط أيضا بغريزتها المحبة في حياتها ونضالها  ،فهي عاشقة للنور والحرية ، وهذا قد يؤدي بها أحيانا إلى الاحتراق في وهج النور أو داخل حلقات من نيران القهر. فلقد ارتبط تصرُّف الفراش المهلِك بالمعتقد الصوفي القائل بإمكانية الفناء والتوحيد في الذات الإلهية. فرحلة روح المتصوف قد جُسِّدَتْ رمزيًّا في رحلة الفراشة إلى اللهب.

إن جناحي الفراشة مثل صفحتي كتاب مفتوح، وإذا كنا نلاحظ نقاطا سودا على جناحي الفراشة البيضاويين، فإننا نرى فيها الحروف على صفحتي الكتاب. كأنها الديوان. 
و الحمولة الميثولوجية(  ) (  ) ترمز إلى ما يمكن أن يجود به المتن داخل الديوان وهذا من خلال استقراء الدلالات الأسطورية لرمز "الفراشات" والتي تختلف باختلاف الشعوب. إذ أنه في أماكن مختلفة من العالم تتحرّك المشاعر التي ترتبط بالفراشات، فيقولون إنّها قادرةٌ على توفير شعورٍ جميلٍ ورائعٍ من البهجة والطمأنينة، ومقدارٍ عالٍ من الشعور بالسلام والراحة، فترمز لدى الكثيرين بالأمل، ومدّهم بقدرٍ كبيرٍ من الرِّقة والعاطفة. 
يؤمن شعب الناواتل فى المكسيك أن الفراشات هي أرواح الأطفال الموتى التي تعود إلى مواطنها الأصلية قبل ان تختفي مجددا .. والسبب في هذا الاعتقاد هو عادات الهجرة لدى الفراشات.  
يظنّ شعب الفلبّين أيضا أنّ هناك علاقة تشاؤمية بين الفراشة السوداء تحديداً والموت. ومن الطقوس المحلية التي تقوم بها بعض قبائل في شمال أميركا، كقبيلة البلاك فوت الأصلِيّة: عندما تحُط فراشةً عليك تستطيع أن تهمس لها بأمنيتك بل يجب ذلك، وهي ستحملها معها إلى الأعلى عندما تتركها لتطير.
فى اليونان القديمة كانت الفراشة رمزا للروح والقدرة المذهلة على التحول والتغير والتجدد والنضج والاكتمال الأنثوى . فسايكي هى الروح وهى الفراشة وهى الحب فى انقى صوره وهى الأنوثة المكتملة والجمال المقدس وهى التي كانت سببا في أن تتحول سهام كيوبيد القاتلة إلى ترياق للحب والحياة. 
وبعض الشعوب ومنها الدول المغاربية تقدس "فراشة المنزل" أو " بشار الخير كما يسمى بالعامية المغربية" بسبب شكلها الذي يختلف كلياً عن باقي أنواع الفراشات الأخرى، فلونها هو واحد ويحمل اللون الرمادي الفاتح وتكون صغيرة الحجم وقليلة التنقل بين أرجاء البيت وحاملة على جناحيها رسومات غريبة تبث من خلالها الخير والسعادة لأي منزل تدخله. 

إن المصريون القدامى قد قالوا إن روح الميت، بعد خروجها من جسده، تتحول إلى فراشة. أما المسيحية فرأت في الفراشة رمزا للبعث.
 وجاء في القرآن الكريم أن الناس حين يبعثون يوم القيامة نراهم كالفراش المبثوث.

و نلاحظ أن الفراشات في ديوان الشاعرة حسنة أولهاشمي تتقمص كثيرا من الدلالات داخل المتن الشعرية معبرة في آن واحدة عن الروح الشاعرة للمبدعة وقد جاء هذا الاستدلال في قصيدة " دمى الريح":
(...
قلت لأبي:
انسج فصيلتي من دم الفراشات
واصنع لي نصف جناح قبل مولدي..
....)
 

 

    رمزية الشكل الطباعي
 

ضدية الأبيض والأسود ( حوار الصمت والكلام)
لا شك أن الشكل الطباعي (المكتوب والبياض)، له أثره في طريقة قراءة القصائد، من خلاله تتحدد عدة انطباعات هامة ومؤثرة في المتلقي، وتصل إلى حد التأثير في الدلالة، وتعمل على تدفق الإيقاع وتوزيعه، أو انقطاععه ووصوله إلى واقع صامت ساكن. 
    الأبيض يفرض على القاريء "المتلقي" أن يصمت أو يستريح أو يدخل في مجال تأملي مملوء بالدلالة أيضا، فيسقط ما يدركه من معنى تأملي في البياض على مكتوب القصيدة، فيضيف بهذا  معنى جديدا إلى القصيدة لم يكن ليبوح به سوادها. وفي الصمت تغيب لغة الكلام ولا تغيب الدلالة، فبقدر هذا الغياب تكون الدلالة أكثر تعبيرا أو بروزا وتماوجا مع الأسود الناطق.
    ولعل الذات الشاعرة تقوم بأدوار المحادثة، ذات تخاطب القارئ، وذات صامته تجول في عالمها الفكري، تستقرئ نفسها وتخاطب روحها أو تستغرق في التأمل فتذهب بعيدا  ويغدو صمتها أكثر المجالات تعبيرا عن التأمل، والبحث والمساءلة.
ولقد حملت الشاعرة حسنة أولهاشمي جناح فراشات ديوانها عدة مفاتيح يجب اكتشافها لقراءة مضامين البياض والسواد، ومعاني الكلام والصمت. وهناك بعض النماذج كمثال لا للحصر:
 الأول في بوابة الديوان صريحا في الإهداء: ( إلى الصامتين وهم يعبرون جسر الكلمة إلى تخوم الروح، بحثا عن دهشة الحرية..)

 

الثاني جاء مباشرة في القصيدة الأولى " النوارس لم تعد": ( تورق الغيمات همس الأفق / يمطر نجواك لفيح الشوق/ في حمأته أتدور شغفا/ على شاطئ البياض....). فهذا هو التجلي في البحث والتأمل في الكون والبحث عن الحقيقة التي غابت بغياب النوارس التي تمثل أخبار الخير والنجاح والصيد المكين في عالم البياض الزاهد الصوفي.

أما الثالث فقد اختتمت به قصيدة "زحمة الغياب" : ( ينبلج بياض غد يتيم/ يغشى سكوني/يخلخل شرودي/ ويبلل حلقه الجاف بماء الحلم..)، فالبياض بهذا المعنى هو الذي يأتي بالحركة، باليقضة، وبالحقيقة.
 والرابع في أخر الديوان عبر قصيدة "البياض" كدليل سفر يمكن إستعماله للعبور بين ظلال الكلمات التي جاءت داخل الديوان: "" اخلع نعلك أيها البياض/ حافيا مزق صمت المداد.......... دون اهات كلمات / تخشى فتنة المجاز......."" 

 

غياب علامات الترقيم في النص ( ضدية الحضور والغياب)
 

من الملاحظ أيضا أنه لا توجد علامات للترقيم داخل القصائد، ولم تلجأ إليها الشاعرة إلا قليلا في بعض القصائد ويمكن أن نفسر ذلك: 
     - لأنه عكس الحضور أيضا هناك الغياب،
     - للزيادة في دهشة الحرية التي تكلمت عنها الشاعرة في الإهداء
         - بالرغبة في اتساع الدلالة أو إنتاج معنى نقيض, 
     - بأن يكون الإيقاع وحده كفيل بضبط الدلالة، والقيام مقام علامات الترقيم في توجيه المتلقي.
     - لأن المتلقي هو الآخر يقف على قراءات متعددة في غياب الترقيم الذي يؤطّره ويوجهه ويغدو مجال النص مفتوحا لأي تأويل.
     - لأن هذا ربما يزيد من جمالية النص  شكلا  فتبرز جلية نغمية النص البصرية ( الموسيقى البصررية )، لذا يمكن أن يَنظر إلى غيابها كأيقون على الانفتاح والتحرر يمنحنا تعددا في القراءات، وتعددا في التأويل أيضا.     


 
الأنا الساردة وفاعليتها النصيّة
لا يمكن الحديث عن الشاعرة دون الحديث عن أناتها الساردة التي دفعت بها إلى ترجمة عواطفها ومشاعرها وأحاسيسها في صورة كلمات نابضة بالحياة، معتمدة على الذاكرة الحية والإستفادة منها. هذه الذاكرة التي هي جزءٌ من الماضي الذي عاشته الشاعرة وما زالت تعيش تأثيره ولاسيّما بما يحمل من أحداث وانفعالات وجدانية مؤثرة. 
،  وتشتغل الأنا الساردة في قصيدة " مدافن من ورق " في منطقة صراع مؤلم وحساس 
 (...كتبي وهنة
على صدرها تتكئ حشرجات مدافن من ورق
منها يصدر صوت موت
تنسل من ثغره بسمة
تجرفني بعيدا
حيث الصفصاف يهمس للنجوم
جرحه العالي ينفث في عيون الناي
صهيل عظام بالية
تحيي انتشاء قصائد
وخلود أشعار
تمتص الأرض الصموت
صخبها
تزهر في كف السماء
ملاحم من نار
تهيج خلجات المدى
وتصدح في الأفق
ثورة الكلمات
هناك...
تغشى سدرة العلياء
مدافن من ورق.)
  

 

القصيدة إذن؛ هي صراع الذات / الأنا الساردة مع لحظتين زمنيتين مختلفتين:  الأمس (كتبي وهنة ) واليوم (ملاحم من نار ) ، وهو صراع مستمر تحاول الشاعرة ان تنتصر عليه ب( ثورة الكلمات).
         

 

    اللغة الشعرية
 

    إن اللغة الشعرية التي أنجزت بها  قصائد " بريد الفراشات" هي الحامل التمثيلي الحيوي لهذه التجربة لتترجم المعاناة الإنسانية القاسية التي ضغطت كثيراً على المكان والطبيعة واللغة التي نضجت في أعماق الشاعرة ، وتحوّلت بالرغم من مرارتها إلى عامل تموين غزير للتجربة ضاعف من قدرتها على العطاء والتمثّل ، وحثّت الطاقات الشعرية الكامنة في داخلها على التفجّر والانبثاق ، على النحو المتميز الذي تمثّلت بصورة نموذجية وغزيرة في قصائد ديوان الشاعرة حسنة أولهاشمي " بريد الفراشات" .
و تتسم التجربة الشعرية لهذه القصائد بتواجد وافر للنبرة العاطفية والوجدانية والانفعالية بآفاقها الإنسانية، وذلك بحكم ما يتوصل به هذا " البريد " من الأسباب والقضايا والأحداث التي انشغلت بها المنطقة والإنسان والفكر والرؤية في هذا المكان، إذ إن غنائية هذه القصائد تمتزج بالفرح والبكاء والشجن والأسى والحلم والحب والتطلّع والأمل والمرارة واليأس والعزيمة، بأسلوبية فنية وجمالية ومجازية جدلية تجعل من الكيان النصي للقصيدة كياناً خصبا كثيفا وعميقا وحيويا، يجمع كل المتناقضات الشعورية والوجدانية العاطفية في سلّة واحدة.
     
وقد حاولت هذه اللغة إبراز جدلية العلاقة الفضائية بين الزمان والمكان، الماضي والحاضر والمستقبل، الذات والموضوع، اليأس والأمل، الفرح والحزن، البعيد والقريب، الخفاء والتجلّي، الحضور والغياب، الرحيل والعودة، السفر والإستقرار،الحركة والسكون، الانسحاب والإقدام، الخمول واليقظة، الإهمال والانتباه، البياض والسواد، الكلام والصمت،الموت والحياة، الحب والكره، الإقدام والإنكسار، وتداخلت هذه الثنائيات ذات الطبيعة الشعرية في أعماق حساسية التعبير الشعري، لتجعل من جل النصوص الشعرية داخل ديوان " بريد الفراشات" نصوصا إشكالية .

 واتسمّت معظم القصائد على الصعيد الأسلوبي المجازي العميق الدلالات بالكثافة والغموض أحيانا والتمركز حول الذات واللغة والمصير، وتأتي هذه الأسلوبية استجابة طبيعية للظروف الإنسانية والمكانية والإنسانية والتاريخية والإبداعية التي تعيشها الشاعرة ، وهي، في تقديرنا ، على هذا الصعيد ميزة أسلوبية لهذا الشعر تقرّبه كثيراً من الطبيعة النموذجية لمفهوم الشعرية.
ولاشك في أن التأثر بالقصيدة النثرية العالمية يعدّ أمراً مفروغاً منه، مثلما استطاعت الشاعرة أن تبصم فيها على نحو ما، ويعدّ هذا التأثر عاملاً إيجابياً في تطوير التجربة ورفدها بقيم ومنطلقات ورؤى جديدة، في إطار نظرية التأثير والتأثر العاملة في أكثر مجالات الإبداع في العالم.
ويجب الإشارة أيضا أن الشاعرة حسنة أولهاشمي إعتمدت، رغم الكلمات البسيطة، على مفردات ، في غالبية منها ، لا يمكن أن تفهم ، على الرغم من بساطتها ، ومحدوديتها أحياناً ، إلا إذا بحث المرء عن ظلالها ، وقد اختارت ، وهي تكتب الشعر ، لغة الظلال.
 إن الدال عبر تناوله بصيغ مختلفة في القصائد يأتي متعدد المدلول، حيث يحدد السياق دائماً المدلول، ولا يحدد هذا من خلال ارتباط الدال بالمعنى القاموسي وحسب. وإن المدلول ليس مرتبطاً بثبات بداله، وعليه يتغير معنى الدال بتغير موقع هذا في السياق، والسياق هو الذي يمنحه مدلوليته.
واعتماداً على ما سبق يمكن الوقوف أمام عناوين بعض القصائد و مفرداتها ( بريد الفراشات، مدافن من ورق، فلذة الياسمين، حافية الزمنين، ظلال نائمة، قاب حلمين أو أعلى، زحمة الغياب، ...). فإذا نظرنا الى المدلولات العديدة لكل واحدة منها ، فإننا نستشف أن الشاعرة لا تقول المعنى مباشرة ، وهذه العناوينً تشعر القارئ ، إذا ما أراد أن يحمله على المعنى القاموسي للمفردة ، بأن الشاعرة تستفزه وتقول كلاماً لا معنى وراءه . فيقوم بطرح التساؤلات: هل تعني الشاعرة شيئاً آخر ؟ وهل كانت جادة أم كانت ساخرةً ؟
وإذا أخذنا الكلام على معناه القاموسي وحملناه على محمله الجاد وفسرنا الجملة تفسيراً لا يمت إلى لغة الظلال ، لقلنا إن الشاعرة التي تنتظر بريد الفراشات هي أيضا طائشة كالفراشة نفسها، ولو أخذنا قول الشاعرة على أنه قول ساخر ، لأن السخرية أن تقول شيئاً وتقصد عكسه ، لخيب النص الشعري الذي يندرج تحت العنوان ظننا ، فالنص ليس ساخراً . لإن أغلب النصوص إن لم نقل كلها فيه قدر كبير من التراجيديا ، وإذا ما ربطنا ما بين الشاعرة هنا ؛ الشاعرة التي تنتظر بريد الفراشات ، والشاعرة في القصائد أدركنا أن هناك فارقاً كبيراً ما بين الشاعرتين . فالشاعرة ربما حاولت الإشارة الى وجود هذه الضلال في عدة مناسبات فمثلا: 
في قصيدة تراتيل الجسد: ( .... 
للجسد تراتيل لا تسمع
 تصحو كلما اختنقت رئة الزهور
تنطق كلما خرس الكون
وحضر ظلي الغائب البعيد...)
و في قصيدة " تسلبني زمنا" : (...
تسلبني زمنك
أتسلق أغصان شجرة
كنت تسقيها قبلاتك الخفية
ألملم أنفاسا عالقة في وتين الظلال...) 


وكذلك قصيدة أهدتها الشاعرة لروح والدها ضمنتها بعض الأسئلة كمفاتيح شفرات ظلالها وعنونتها ب" ظلال نائمة"

(... أتذكر حين تحدثني عن تاريخ أخرس مغلف بكسرات قهر؟
أتذكر كم كنت اصرخ في وجه عقارب الزمن؟
أتذكر كم كنت أسخر من تمردي الساذج؟...)

ونستشف هنا أن الشاعرة تفكر بمنطق فلسفي وتريد أن تنقذ الآخرين من الظلال. وهنا يمكن أن نتوقف أمام دلالات بريد الفراشة، لأنها هي التي سوف تمنحنا معنى آخر غير المفترض للوهلة الأولى، وهي التي تحول دون وصفنا الشاعرة بأنها عابثة وغامضة، أو بأنها تقول كلاماً لا طائل من ورائه.
ويتطابق رمز الفراشات لتوظفيها بهذه المعاني لنستخلص منها بعض الاستنتاجات العامة من الدلالات الصوفية و الميثولوجية ل" بريد الفراشات" يمكن سردها في هذه النقاط:
إن الفراشات ترمز بالأساس للروح ، والقدرة اللامحدودة على التجدد والتغير والتحول والنضج والاكتمال والحب والحرية والتضحية و تمثل القدرة على الابتكار أو التفنن أو الإبداع لان الفراشة كائن متحول من يرقه بشعة إلي شكل جميل وهي تتنقل بين الزهور.
 
وتشتق منها مدلولات ومتناقضات غير متناهية: المرأة، المدينة، الكتابة، الرسائل، الكلمات، الدموع، القبلات، الضعف، الأحمق ، السطحي، الاهتمام بالمظاهر،أفكار تافهة  لضعف الفراشة، تدل على الفتاه الصغيرة، الطفل، الحيوية والحركة،اللطف،الرشاقة،صغر السن، الشفافية والروح الطيبة، انتشار الخبر، بشارة الخير، التأمل، الزهد، الهجرة،الرحيل، الموت...


وهذه بعض الأمثلة عن المدلول الصوفي والميثولوجي الذي عبرت به الشاعرة داخل متن قصيدة " زحمة الغياب"
(.... بين فكي الدجى ترقص غيمات تشبهني
تصفف لضى الإنتظار
على الحسرة،
غيمات عصية
شجنها يكتم صراخ الفراغ  ...)

هذه الإحالات ترسم صورة تأملية من صور البحث عن الحقيقة التي طالما أفنى الإنسان عمره في البحث عنها، وتلوينها بمعارفه التأملية واكتشافاته ونصوصه.
أو كما جاء في قصيدة "بريد الفراشات":
(... تحت شجرة التين
تتمدد أجنحة الفراشات
تفسخ قشور زمن ضال
تناغي شعاع القدر

تختلس دهشة الأفق
لتدوب في لجة الفراغ...)
 إذ أنه في هذا الجزء من المتن الشعري بـ "تحت شجرة التين/ تتمدد أجنحة الفراشات" فيه إحالة تصوفية بما ترمز له شجرة التين في المحمول الديني حيث يمكن للإنسان أن يحس بالأمان التي ما لبثت الروح الشاعرة فيه أن تحولت إلى وضوح إحالي على التأمل "تناغي شعاع القدر / تختلس دهشة الأفق" لتكتسب معرفة مبطنة وظاهرة " لتدوب في لجة الفراغ" والفراغ بمعناه الصوفي الإيحائي للوجود الداخلي والخارجي الذي تتمدد فيه أجنحة هذه الفراشات أو الروح.

   المتن النصي في قصيدة "بريد الفراشات" يحكي السيرة البحثية لتلك الطفلة / الفراشة التي عبرت عنها حركتها وهي "تسابق الريح" عبر المجهول الذي تحوّل في القصيدة إلى عدة أمكنة وأزمنة حيث"يغيب ضوء النجوم"، تلك الحركة التي تجولت في الزمان والمكان بحثاً عن  الحقيقة الضائعة التي لم يأتي بها البريد، والتي تعلقت في ذاكرة عتبة القصيدة وتبحث لها عن جواب في متن القصيدة.    
إلا أن الخذلان الكبير ما يلبث أن يظهر حين يصل المتن الشعري الى:
(.... تأخر البريد
غفت الفراشات على سرير واد منسي
اختفت أساطير الليل بين تجاعيد الصمت
رتل الجندي الهزيل لحن اخر غيمة
في كف الليل
وزعت البلدة نشوة أول هزيمة...
 على ساق النخيل
طبعت الريح قبلة وداع قريب
ووعدت قبل الرحيل
بلسعة موت ثائر...)
لأنه طال انتظار الجواب / الحقيقة التي افترضتها عتبة عنوان القصيدة بمعنى بشارة الخير والأمل والحياة المزهرة. بل بالعكس من ذلك إن الحقيقة بائسة موسومة بالانكسار، النسيان، الصمت، الظلمة، الرحيل الهزيمة والموت، وهي نتيجة صادمة مخيبة لآمال عنوان القصيدة الذي افترضت وجودها من خلال صيغة المعرفة التي تحلّى بها فضاء العنونة " بريد"، وتمنت إقرارها في المتن النصي.
و يظهر دال الموت ساطعاً وكثيفاً في نهاية القصيدة، ليجعل من الآخر/ الأنا/الطفلة/ الفراشات التي تتوجه الشاعرة إليها في حوارها ـ منذ عتبة العنوان وحتى نهاية المتن الشعري في القصيدة ـ عنواناً للفكرة، وصورة من الصور التي يمكن أن تحيل أحدهما على الآخر على نحو ما ("الفراشة ،الطفلة، الحرية"/ الموت)، بحيث أن طلب نفي المنحى الذي تتوجه به الشاعرة إلى الآخر/ الأنا إنما هو طلب نفي الذهاب إلى الموت.

 

 

شعرية الحرية 
 

 تمثلّت الحرية تمثّلاً باطنياً وظاهرياً رحباً في هذه القصائد، أولا بوصفها الهدف الإنساني والجمالي الأول المنشود في بوابة الديوان عبر عنوانه وكذلك المقولة المركزية التي حملتها القصائد، لما تنطوي عليه من أهمية نوعية أجل إعلاء مجدها في لغتها وصورتها وإيقاعها، ساعية إلى تحرير الإنسان من الظلم والقهر والاضطهاد الذي تعرّض له على مرّ العصور، وثانيا عبرتحرير لغتها من الاستجابة الرومانسية العاطفية المنساحة التي يمكن أن تغرق النص الشعري بسيل غير منتج من ثورة العواطف، وتحرير لغتها الشعرية من التكرار والزيادات والاستطالات غير المبررة فنياً وجماليا .

 وإن رصداً عميقاً للفلسفة التي تتحرك القصائد ضمن إطارها تقودنا إلى اكتشاف آلية ما يمكن أن ندعوه هنا بـ "النموذج الإنساني"، حين صار هذا النموذج مهدداً ومقهوراً ومعرّضاً لمجموعة من الحملات تستهدف تاريخه وحاضره ومستقبله، على النحو الذي تشكّلت فيه هذه الحساسية لدى الشاعرة بوصفها مجالاً لإثبات الذات وتأكيد الحضور، وهو ما جعل القصائد اجتهدت في تحقيق الموازنة المطلوبة للحال الإنسانية والحال الإبداعية.
 

يتجلّى التاريخ الإنساني والسياسي والاجتماعي والثقافي في القصائد تجلياً شعرياً، تتكثف فيه الرؤية الإنسانية على أبلغ ما يكون، من دون أن يتحوّل هذا التاريخ إلى سردية مجردة لرواية   الحكايات والأحداث، إذ سعت الشاعرة إلى شعرنة التاريخ وإنجاز نسختها الشعرية منه. 

يتقدّم مفهوم الالتزام بالقضية والشعب والوطن والأرض كمفهوم متجذّر في أعماق تجربة الشاعرة، الذي لا يمكن له أن يقفز فوق تجربة شعبه أو الإنسان عموما وهي تغلي أمام بصره وفي أعماقه الشعرية والإنسانية. 

ومثال على ذلك، التطرق لقضايا مثل الهجرة في أزمنة متعددة ولظروف متعددة إما اختيارية أو قسرية والتي تناولتها قصيدة " مراكب الغربة":
(... مراكب غربتك يا وطني
توقد حرقة ماردة
تسقي عابر الحلم صدأ الأغنيات
وقطعة وعود جائعة
عارية
تعب في الهواء
حشرجات بائعي فاكهة الوهم...)

والتطرق للقضية العربية في قصيدة " فلذة الياسمين"
(....بهديل حمام القبة
بنور البراق
ودموع السديم
تعرج المنى في سموات القدس
تسري في العلا باكية
كما عروس زفت بعيدا
اجترح فرحها فراق الصبايا
ودعابة الدمى...)
   ونجد أن القصائد تعاملت مع هذا الالتزام في هذه القضايا تعاملاً ينطوي على قدر معقول من الموازنة، أخذ من مفهوم الالتزام معناه العام وحافظ ما وسعه ذلك على جماليات التعبير الشعري في القصيدة.

تتمثّل شعرية الكبرياء التي عملت عليها الشاعرة داخل لغتها الشعرية بهذا التلاقي الحرّ والأصيل بين تأثيت الفضاء وانفتاح الدلالة، إذ تنتمي هذه الشعرية إلى حساسية التفاعل الصميمي بين الموضوع الشعري والموضوع الثقافي في تجربتها الشعرية، وتنتج نموذجاً شعرياً نوعياً يعبّر عن المستوى الثقافي الذي تبتغيه الشاعرة من جهة، والحفاظ على فنية التعبير الشعري وجمالياته في القصيدة من جهة أخرى.
وسأتناول هنا مثالين على شاعرية الكبرياء:
في قصيدة " في الطريق اليك":
(... في الطريق اليك
تتنهد حبات الرمل
تكتب اسمك حشرجات نوارس ضريرة
ضيعت حضن المراسي
ثائرة لفضتها زرقة الحكايات
أيها الراهب العنيد
دون خفقات الحلم بهمس الصدفات
رتل لوعة الهجر قي محراب الذكرى السحيق
أرسم فجوة الهوى على شفاه الغيمات
برفق رتق ثوب الوصال عند مفترق النجوم..)
وبمنحى تصاعدي مع تسجيل لوجود علامات الترقيم في قصيدة "ما تبقى منك":
(... كم يلزم النهر من شهقة ليلمس كف السماء؟؟
كم يلزم السماء من رماد
لتنقش وشما على ساق الماء؟؟
....)

وفي قصيدة "ظلال وطن"
(... سأعلن موتك الآن 
ياجسدي
يا وطني
ما عدت ثائرة بما يكفي
لأخلص لجبروتك
ماعدت حيا بما يكفي
لتخلص لموتي..)
  
    وتظهر في أغلب القصائد حرارة تعبيرية عالية تضع الإنسان الذي هو نموذج الحياة الحرّة الكريمة في رأس قائمة التركيز الشعري، عبر لغة تتجوهر في أسلوبيتها التعبيرية لترقى إلى مستوى هذه الشعرية المتميزة.

 

الحركة الإيقاعية 
 

الحركة تعني كل ما هو ضد السكون والموت أيضا. ولا يمكن تعريفها إلا بالنسبة إلى السكون.
ويصنف الشعر عموما ضمن الحركة الدائرية، وكأن الشعر عبارة عن كواكب تدور حول الشمس. وربما هو كذلك، إذا اعتبرنا الأبيات كواكب وموضوع القصيدة شمسا، ومن ثم تكون حركته الدائرية القائمة على المعاودة الدورية والتكرار والتناسب حركة إيقاعية، أي أن هذه الحركة رفيقة للإيقاع الذي هو في إيجاز تعريفه حركة ضد السكون.
والحركة الإيقاعية مرتبطة بالحياة والحياة متعلقة  بالطاقة، وكل جسم حي يتحرك فيه طاقة، وطاقة القصيدة تكمن في الأحاسيس التي ينقلها الشاعر إلى المتلقي، وفي المشاهد والصور التي يبثها من خلال وسيط يتصل بالمعنى إنه اللفظ المناسب للمعنى المناسب للصورة المناسبة، كارتباط الحركة الإيقاعية بالحياة والحياة بالطاقة. وهذه الحركة الإيقاعية فيه متصلة بالصوت في نغمه واهتزازه، ومدلوله أيضا، مشحونة بالأحاسيس والانفعالات العاطفية الممزوجة بالخيال النابعة من عمق الإنسان الفنان المبدع. 
إن الحركة الإيقاعية في ديوان بريد الفراشات يمكن تحديدها بمجموعة من العناصر التي تتحكم في صيرورة الحركة الإيقاعية والتي تمنحها شكلا انحنائيا متشابكا ومتصاعدا. فتأخد المتلقي الى إستعمال كل حواسه: السمع، والنظر، والشم... وهي:  
1-    عناصر غريزية نامية مع الذات البشرية كالعناق، القبلات، الهمس، الصمت، الغناء،المشي، الرقص، التمايل..
2-    عناصر كونية طبيعية كالغصون، الأقحوان، الفراشات، الياسمين، النجوم، البحر...
3-    عناصر الية: الناي،اللحن،البيانو...
4-    عناصر نفسية كالجنون، الشرود، الفرح، الحزن...
5-    عنصر الأبيض والأسود : فالسواد يمثل المبدع، والبياض يمثل المتلقي. والبياض عندما يعانق السواد فهو دال على بعث الحركة وبه تحيى الحياة وتنمو، وساعد على وجود " التوازي"  أو الإيقاع. 

 

 فضاء المكان ورؤيا الإنسان
 

فضاء المكان قد تمظهر في ديوان "بريد الفراشات" بوصفه أرضاً وفضاءً وذاكرة وحلماً ومصيراً وجسداً وروحاً، يتوافر على كل أسباب العطاء بزخم عاطفي ووجداني ونضالي أحيانا يرتفع فيه معنى المكان إلى معنى الحياة ذاتها، فلا حياة بلا مكان تتكثّف فيه رموز التاريخ والجغرافيا والوطن والمستقبل والإنسان، ويصبح فضاءا حيّاً لكل هذه الرموز والمعاني وتلعب الطبيعة الدور الأبرز في صياغة الوعي الرومانسي والوجداني الأصيل والحيوي المرتهن بالإحساس، هذه الطبيعة التي حملت عتبة العنوان إشارة باذخة العمق والدلالة عليها ((الفراشات))، وهي إشارة ذات طاقة تدليل وتصوير كبيرة على جمالية وعطاء الطبيعة التي ترتبط بالمكان ارتباطاً أصيلاً ودينامياً، على النحو الذي يمكن أن نتلقى فيه دالّهما المشترك ((بريد / الفراشات) فيما يمكن أن نصفه بمكان الطبيعة وطبيعة المكان.
يأخذ المكان أبعادًا متعددة في ديوان "بريد الفراشات" إذ ارتبطت الشاعرة حسنة أولهاشمي، والمكان من خلال القصائد بعلاقات متعددة ومتباينة تبدو في صورة الحب والنفور أحيانًا والتأثير تارةً أخرى وتتوزع إلى جملة من العلاقات الاجتماعية والدينية والنفسية والتاريخية والأسطورية... وهكذا ،ولكنها تسعى في النهاية الى خلق نماذج شعرية تكشف عن علاقات الارتباط أو النفور بين الشاعرة والمكان.


فالتجارب المكانية وتعلق الشاعرة بها تتشكل من إحساسها بالبحث عن مكان مفقود،لأن قصائد الشاعرة تحاكي المكان بروح شفافة وبكل عاطفة صادقة، ولهذا يظل المكان ذاخل قصائد الشاعرة أشياء متعددة، فالعلاقة التي تربطهما علاقة حميمة. 
فالمكان هو الأرض والوطن والمأوى والانتماء ومسرح الأحداث ، ويعني تدوين التاريخ الإنساني ، و الارتباط الجذري بفعل الكينونة لأداء الطقوس اليومية للعيش ، وللوجود ، ولفهم الحقائق الصغيرة لبناء الروح ، وللتراكيب المعقدة والخفية لصياغة المشروع الإنساني ضمن الأفعال المبهمة. 
وإن المكان داخل القصائد لا يبرز شيئاً معزولاً أو مفرداً ، وإنما يأتي باعتباره ممارسة ونشاطًا إنسانيين يحملان مواقف وعواطف وانفعالات الإنسان ، بل وكل تفاصيله عبر حياته وتاريخه.
 ومن خلالها يمكن استنباط الكيفية التي عالجت بها الشاعرة المكان على المستوى الواقعي والفني ، ومدى علاقة المكان بالشاعرية . واستعارتها لبعض المظاهر الطبيعية، والأدوات الثقافية يؤهلها لأن تضعه موضع الشعرية التي تتمثل في قطبين:
الأول: هو الشاعرة الذي تتفاعل مع الوطن والمدينة والأبنية والأزقة والشوارع، التي تحملها ذاكرتها. 
والثاني: هو الفراشات والطيور والمراكب والسفن برمزيتها المتعددة والتي تطرقنا لها سابقا. وخاصة فيما يهم الهجرة والعودة والإرتباط بالمكان.
فعلاقة الشاعرة بالمكان ذات أبعاد متعددة تستحضر الواقعي والخيالي والأسطوري والوهمي ، ولايكفي أن الشاعرة تعيش في المكان على مستوى الوجود الحقيقي ، بل تسبح في المكان في عالمه الشعري ، فتستحضر المكان من المعرفة الثقافية وتقيم لنفسها وجوداً فيه، كما تخترع المكان في الشعر وتحتله بالوجود. 
فالمكان يحمل قيمته الشعرية، حيث تعيد الشاعرة إنتاج ما عرفته عن المكان وما استوحته منه ، بل إن الشاعرة تنتج المكان شعرياً من جديد وبطريقة لا تعزله عنه منظومة الفكر الذي يمنحه إياه التاريخ، أو يمنحه هو للشاعرة تأملاً وايحاءًا ، وحين تلتقي حدود الواقع  مع حدود الخيال ، في تلك المساحة المكانية ذهنياً تسطع الرؤى داخل الكلمات ، إذ تمتزج عين الجسد وعين الخيال في النظر إلى الطبيعة خدمة للأفكار وبخاصة فكرة الجمال. 
إن وصف المكان الجميل يحمل تسامي النفس الإنسانية عند الشاعرة حسنة أولهاشمي، واستعارة بعض الأماكن يجسد تفكير الشاعرة في الكون والحياة والخوف من اقتلاع الجذور، والشعر من هذه الجهة أخذ بعدا فكريا ممتدا في نظرية البقاء والفناء.
ومثال لهذا ما جاء في قصيدة "فلذة الياسمين":
(... تعلن الياسمين
بدء التكوين
يغفو الجرح
وثائرا يصحو الوطن...)
أو في قصيدة "ظلال وطن":
(... ما عدت ثائرة بما يكفي
لأخلص لجبروتك
ما عدت حيا بما يكفي
لتخلص لموتي...)

وقد تم توظيف المكان في القصائد من خلال أبعاد متعددة : البعد الجمالي والبعد النفسي والاجتماعي  والبعد الفلسفي  والبعد الديني والأسطوري.
 في البعد الجمالي: ، فالشاعرة اختار من الطبيعة أجزاء تناسبها، فوظفتها بطريقة دلالية جمالية نظراً لما يتسم به فضاؤها، من إخفاء أبعاد الحقائق المجردة بفضل إيحاء لا نهائي، يتجاوز الصورة المرئية إلى ما تضمره من أبعاد خفية. 
ومثال على ذلك ما جاء في قصيدة "دمى الريح":
(... دمى الوادي
تدعو الريح لغواية الماء
تدعو الماء لعناق الحصى الصغيرة
تلتقي أصابع النجوم حول خصر السماء
ملابس الريح مبعثرة
تمسكها أظافر طائر غريب
تقدف بها بعيدا
يسكب الليل ما تبقى من رغبة
تعلق في حلق الأعشاب الشائكة
يتمدد ظل اللحن الثائر على مرايا الوادي
ينزلق وتر بعيد من كمان الغسق
تلتقي شفاه السحاب
وتهيج حواس الماء.)
 فالشاعرة لا توصف المكان من خلال مظاهره وأبعاده الذاتية, وإنما توصفه من خلال أفعال الحركة التي تجتازه وكأن الشاعرة تصف الحركة بشكل رئيسي، وتجعل المكان يتلون من خلال هذه الحركة، فكل هذه الأفعال ، وهذا التلوين من قبل الطبيعة للمكان أعطى النص قيمًا جماليةً رائعة وأضاف إليه بعدًا جماليًا جديدًا للمكان. 
البعد النفسي – الاجتماعي :- من المسلم به أن أي شاعر لا يمكن أن ينسلخ عن ذاته عندما يبدع عمله الشعري، كما لا يمكن أن ينفصل عن مجتمعه ، فهو جزء منه ، ولما كان عنصر المكان في الشعر جزءاً من القصيدة، بل عنصرًا هامًا فيها ، فقد عبر عن نفس الشاعر ومجتمعه ، و
 ولعل أهم الأبعاد المكانية وضوحاً من ناحية الأثر النفسي والحضور في الشعر هو البعد الذاتي الوجداني ، فالمكان الذي لا يثير مقدارًا ما، من المشاعر تعاطفًا أو تنافرًا ، قلما يستحوذ على اهتمام الفنان ، وإن إضفاء البعد النفسي على المكان يبدأ من لحظة اختياره لاستخدامه في العمل.
ومثال على ذلك ما جاء في قصيدة "تسلبني زمنا" :
(... تمدني سكون عينيك
أمدك صخب صمتي
في جسور قلبي
يصحو نبضي في راحة قلبك
يترجل وصال جديد
على رصيف الروح
ونذوب في زفرة عناق أبدي...)
أو من خلال عنوان وقصيدة " حافية الزمنين" التي تحيلنا في مجازيتها بعض الشيء إلى "رهين المحبسين أبو العلاء المعري" في بعدها التأملي والنفسي. 
(... ذاكرة مرتعشة
تهدهد خيال تلك الأطلسية
حافية الزمنين
في معبد الذاكرة
تراقص رسوما من طين
كالفينيق تحترق...)

الذاكرة هي رمز للأثر، ولكنه الأثر المخبوء في عمق الزمن، حيث جاء وصف الكلمة بأنها مرتعشة، فهي تخفى في زمنٍ لتظهر في زمنٍ آخر، وهذا ما تشير إليه دلالة «ذاكرة مرتعشة»، ولا وجود للنسيان مع وجود الكلمة في حركيتها ، وهذا يعني أيضا أن الذاكرة مقيدة بزمن خاص، ربما كان زمن الشاعرة، لتبدأ الكلمة فيما بعد بالظهور من خلال «الأثر»، وقد تركت الشاعرة في الكلمة طاقة تمدها بالبقاء والحياة من بعده، حيث جعلتها «مسكونة بالشعر والشعور»، الشعر يمثل الطاقة التي منحتها الشاعرة لها، والشعور يمثل الطاقة التي تمنحها للقارئ حيث يعثر عليها لحظة القراءة في محراب الذاكرة ؛ فتكون الكلمة في هذا المقطع رمزاً للأثر المحفور في ذاكرة الزمن لا في ذاكرة الناس.
فعندما نعجز عن السيطرة على المكان فإنه نضطر للخضوع له أحياناً ، ويظل أيضا الذاكرة كمكان تربطه فيه رابطة قوية ووجود الأحبة فيه ، وقد يكون الحنين إلى أماكن معينة أو زمن معين هروباً من واقع أليم تعيشه الشاعرة في حاضرها، مما يستدعيها لبعث روح وذاكرة جديدة عن طريق مخيلتها التي يمثلها طائر الفينيق بالإنبعاث المتجدد والخلود والحياة الأبدية.
 كما أن مع الإحساس بالاغتراب قد بثت الشاعرة في قصائدها مشاعرها وحملتها بوحاً عذباً يفوح بالاغتراب الحارق، ولعل عناوين بعض القصائد تحمل إشارة بذلك الاغتراب مثل : النوارس لم تعد../ مراكب الغربة./ تذاكر الرحيل../ زحمة الغياب../ ...   

البعد الفلسفي : يظهر من خلال قصائد ديوان بريد الفراشات أن وجود المكان ما هو إلا مواجهة للـزمن ، فالمكان نقيض للاندثار، فالفلسفة من خلال المكان تبدو متشابهة ، ومرد ذلك كله إلى ظروف نفسية عاشتها ربما الشاعرة أثرت في فلسفتها أو عقيدة آمنت بها، فكانت رؤيتها للكون والحياة والموت منبثقة عن هذه العقيدة. فهناك مظاهر عديدة غير حية توقفت الشاعرة عندها في شعرها ، إذ تجسدت في قصائدها الشعرية وجوداً حياً له أبعاده المختلفة التي تتفاعل مع وجود الإنسان في إطار علاقات جدلية ومن أهم الأدلة على ذلك أنه منحتها صفات إنسانية، 

لقد لجأت الشاعرة إلى إقامة تواصل مع عناصر لا يمكن أن يقوم معها تواصل في عالم الواقع ولكن الموقف النفسي أو الشعور الضاغط هو الذي يفرض على الشاعرة أن تستخدم هذا الأسلوب دون غيره ،وإن عمق الاتصال بين الشاعرة والطبيعة وإسقاط ما في نفسها عليها عنصران يدفعان الشاعرة إلى أن تتجه بلغتها اتجاهاً تشخيصياً، فهي تشخص بعض عناصر الطبيعة وتدب فيها الحياة وتمنحها صفات غريبة عنها، وقيمة هذه الغرابة أنها تضع القارئ أمام صدمة المفاجأة ولذة عدم التوقع
إذ إن مجرد إسقاط الصفات والأشكال الإنسانية على أشكال أخرى لا تنطبق عليها الصفات الإنسانية يصبح أمراً غريباً . وكمثال سأسرد بعض الأشكال التي جاءت متنوعة و متناثرة وهي كثيرة عبر الديوان:

( تحمر وجنتا الرياح/ تنبلج انياب ليل ساخر/ على ثغر غيمات ناعمة/ .../ دنوت من معصم الحقيقة/ غرناطة حزينة/ في حلق النهر.../ للشعراء النائمين على صدر الكلمات/ تتعثر ضفائر الماء عند مفترق الحلم/..../.../بين ضلوع أرخبيل نائم/ .../ رصيف شاحب/ ../ تقذف في عيون الفراغ/ بين فكي الماء تعلن تمردها الخفي/ .../ خفق قلب التراب/ ترضع من تدي السحاب/ الحيرة تشق صدر الغياب/.../جدران ترتعش...)

 هذه التشكيلات تمنح النصوص قيمة إضافية بفعل ما تثيره في مخيلة المتلقي من موحيات باعثة على الثقل التأثيري لسلطة المكان في النص الشعري وجمالياته في الوقت نفسه. إن المتتبع لقصائد الشاعرة حسنة أولهاشمي سيجد هذا التنوع في الأمكنة فمن الأمكنة الأليفة إلى الأمكنة الموحشة ومن الأمكنة المفتوحة إلى الأمكنة المغلقة. 

وقد تمكنت الشاعرة من أن تنطق نصوصها برؤى لفلسفة الكون أفراحاً وأحزانا، وأحالتها إلى صور تحكمها أداة متمكنة من رسم جماليتها، فالنصوص لم تأخذ منحى لشعور رومانسي هاد ، أو منكفئ على ذات منكسرة ويظهر ذلك جلياً في خاتمة قصيدتها التي بعنوان "مدينة الصمت.."
(...في ثغر الوادي تقبع أسرار زهور
لزجة
لم يكتمل لولنها
بين فكي الماء تعلن تمردها الخفي
بلون النخيل ترسم خجلها الظاهر...
 تلك مدينة مرت ذات شرود
ذاك شرود مر ذات يقظة...)

إذ يظهر المكان معبراً عن نفسية الشاعرة، ومنسجماً مع رؤيتها للكون والحياة، وحاملاً بعـض الأفكار ، حيث تنشأ بينها وبين والمكان علاقة تبادلية يؤثر كليهما في الآخر، فيبدو الوصف هنا الوسيلة الأساسية في تصوير المكان، وهو محاولة يتجسد من خلالها المكان في لوحة مصنوعة من الكلمات ، فالشاعرة عندما تصف تصف واقعاً مجرداً ، ولكنه واقع مشكل تشكيلاً فنياً ، فالوصف للمكان هو وصف لوحة مرسومة ، أكثر من وصف واقع موضوعي. وإن الوصف لا تقيمه الأشكال والألوان كما تراها العين، بل تنقلها وفق منظور نفسي فني جمالي، ومن خلال اللغة، وبشكل يساعد الشخصية للتعبير عن طبعها ومزاجها وأفكارها، ويكون المكان جزءاً من بنيتها الكلية.
مثل هذا الوصف في قصيدة "النوارس لم تعد":
(... يتغنج القمر في سكون
على ظهر السفينة
يبرز مفاتن الليل
تتدلى النجوم عارية
نمسك قبعة العجوز
 ترقص
تحتفي بالنصر
تبتسم للعاشقين
تلوح للعطشى
للعائدين من غفوة موت ناعمة
ترشقهم بوشاح الهوى المفقود...)
 
إن الوصف الذي يصف المكان السفينة/ الذات / الوطن يتناول الأشياء فيرسمها بواسطة اللغة، فإن الوصف يصور الأشياء في المكان، ولكنه ليس غاية في ذاته وإنما هو لأجل صنع جديد للمكان. فهو بذلك يحمل قيمة، أو يمثلها  أو يرمز إليها فتتفتح آفاق متعددة للمكان وهي آفاق خصبة غنية واسعة يستطيع القارئ من خلالها تحقيق متعة أكبر في التعامل مع المكان من خلال الشعر لبناء آفاق وأبعاد أغنى وأوسع. 
البعد الديني والتاريخي والأسطوري : لا يكاد ينفصل انفصالاً كبيراً عن الحديث في البعد الفلسفي إلا أنه سيتم التركيز و الإحالة الدينية والتاريخية والأسطورية. 
 هذا البعد وسيلة لتحقيق الشعرية ، ولا يحمل قيمة شعرية في ذاته ، وإنما هي نظرة إلى الحياة وتفسير لها  لهذا فإن الش

هي نظرة إلى الحياة وتفسير لها  لهذا فإن الشاعرة لم تلجأ إلى الدين والتاريخ والأسطورة كمادة جاهزة ، إنما شكلت من خلالها تجربتها الشعرية ، ومن خلال رؤيا قبل كل شيء تستعمل هذا البعد بحسب ما تتطلبه تجربتها الشعرية ، مما يعني أن جماليته لا تكمن في  توظيفه فحسب ، وإنما تكمن في طريقة توظيفه ومدى انسجامه مع السياق والمعنى.
ونذكر كمثال على هذا:
في قصيدة "مراكب الغربة": ( ... /ذاك الجبل الريفي/ حكايا حروب "الهمد الصينية"/ سأكتفي بطاقية الإخفاء../...)
في قصيدة " فلذة الياسمين" ( خطى صلاح الدين/ بنور البراق/ تعرج المنى في سموات القدس/ يسابق الديك صوت المدافع.../...)
في قصيدة "قاب قوسين .. أو أعلى" frown رمز تعبيري... في سكرة الخاشعين../ قاب حلمين أو أعلى../ رشقت سنديانة قدري...)

إن المشاعر الإنسانية والمكان يعتمد بعضها على بعض وتتنامى معاً على نحو تعجز من إيضاحه أفكارنا التقليدية المتعلقة بالسبب والنتيجة " فالشاعرة تقيم علاقات مع الأشياء التي تمكنها من تجسيد انفعالاتها وهذه الأشياء المكانية استطاعت هي الأخرى أن تكتسب صفات جديدة من خلال عملية إسقاط الانفعال الإنساني عليها. 
لهذا إن العلاقات الجديدة التي نشأت بين الشاعرة والطبيعة لابد أن تستدعي علاقات لغوية جديدة قائمة على تجاوز الأساليب المألوفة، وذلك من خلال ابتداع أساليب جديدة قادرة على أن توسع اللغة عن طريق الصور الشعرية المبتكرة. 

 

 الصورة الشعرية:
 

الفراشات التي تمثلها قصائد ديوان الشاعرة حسنة أولهاشمي " بريد الفراشات" مثل الطبيعة والبيئة تحفل بالألوان البهيجة، حيث تتجلّى الطبيعة في أحلى صورها وأكثر ألوانها إشراقاً وحيوية وتنوّعاً ـ، إلا أن التجربة القاسية التي يمرّ بها العالم ويعانيها الإنسان، حوّل هذه الألوان ـ شعرياً ـ إلى ألوان قاتمة  بتمثيلاتها المتعددة، وضاعف من قيمتها التشكيلية وانفتح على مجالات استخدام لونية وتعبيرية ورمزية جديدة.
الصورة الشعرية التي اشتغلت عليها القصائد صورة مركبة راوحت بين البعد الفني الجمالي الأساس في تجربة الصورة، والبعد الدلالي الذي يرمي إلى تجسيد الرؤية من خلال آلية التصوير وتحريض فعل التدخّل البصري على التناول والاستقبال والقراءة. فقد غدت الصورة الشعرية مصدرا مهما لإلهام الشاعرة الفكري ، إنها تنقلها من العالم الواقعي في رحلة إلى الغوص في رحاب عالم الخيال ، فاختارت من بين العناصر المتعددة ما يتناسب وروح العصر وهمومه.  
"وهكذا فان الصورة الشعرية لا يمكن فهمها أو الإحساس بها إلا من خلال المنطوق الشعري نفسه, فاللغة هنا لا تتجه ابدا خارجها, وانما تحيلني إلي ذاتها: انها تجلب الخارج إلي الداخل أو تجلب الوجود ذاته إلي بيت اللغة, علي حد قول هيدجر."( )
والشاعر كما يقول إحسان عباس : "يستعين بهذه الصور الشعرية أثر جلي على فكره وعمله الإبداعي ، إذ أنه من وجهته الفنية توسع دائرة رؤيته للتراث الإنساني ، فتصنع التاريخ وأحداثه ، وتصنع الكتب المقدسة ، والحكايات الشعبية المتوارثة وجمحات الخيال الموفقة ، تصنع كل ذلك مصدرا لإلهامه ، حيث يساوي الشاعر المعاصر بين هذه المصادر جميعا ، مبتعدا بها عن قيود الحقيقة التاريخية والقداسة الدينية ، إلى رحابة التشكيل الخيالي المبدع ، غير مرتبط إلا بفنه موظفا هذه العناصر الأولية في عمله الجديد بمضمون تسري فيه روح عصرنا وهمومه( ).
 
    يمكننا أيضا الحديث عن ((القصيدة التشكيلية)) بوصفها مصطلحاً جمالياً بوسعه معاينة تجربة الشاعرة حسنة أولهاشمي عبر مواكبتها للقصيدة الحديثة في تقنياتها الجديدة. عبر الأخذ من الفنون الأخرى وتطوير إمكاناتها الإبداعية والتعبيرية باستثمار هذه التقنيات وأبراز جمالياتها وتشكيل رؤاها. 
     نأخذ مثالا على ذلك بقصيدة ((ظلال نائمة) التي اشتغلت على حساسية الفضاء التشكيلي لهذا النموذج الشعري، على الرغم من أن عتبة العنوان ((ظلال نائمة)) بهذا التعريف لا يوحي أبداً بإمكانية اتجاه القصيدة نحو هذا الفضاء الذي تقترحه القراءة، إذ إن فكرة ((الظلال/ الذاكرة/الحنين أو الشوق)) تكاد تكون مستهلكة على صعيد تناولها الشعري، وتتجه إلى الموضوع عادةً أكثر من الاتجاه إلى الاشتغال على الحساسية التشكيلية برؤيتها التقنية الصرف. إلا أن عتبة العنوان ما تلبث أن تلتحم بعتبة لاحقة لها هي عتبة الإهداء، لتجمع بين التشكيل والموت بهذه الصورة ( الى روح أبي ..) . فعبارة ((روح أبي)) تصعد إلى عتبة العنوان التقليدية لتمنحها بعداً مضافاً قادماً من ((الأب))، على النحو الذي يخلخل استهلاكية الطبيعة الموضوعية لفكرة الذكرى/ الحنين المعلّقة في فكرة العنونة. 
    البنية الاستهلالية التي تمثّل عتبة أصيلة من عتبات القصيدة تشتغل اشتغالاً ديكورياً تصوّر/ ترسم فيه الشاعرة المناخ التشكيلي للحدث الشعري، بلغة تصويرية تعريفية واستدلالية تشير وتوضح وتوجّه الانتباه نحو المفردات الديكورية المؤلفة لسطح اللوحة: 
    (... على مرمى حنين
خفق قلب التراب
اندلق شوق عنيد بين شرايين الوقت
ظلال نائمة تسكب هزيع الفراق...)
   يتشكّل المنظر الصوري الديكوري من الوحدة المكانية الوجدانية المركزية المشار إليها صراحة منذ بداية التشكيل الاستهلالي للقصيدة ((على مرمى حنين))، وتتأثث تأثيثاً وجدانيا ((خفق قلب التراب)) يعكس هيبة الذكرى ، ويثير شهوة التأويل لاستكناه طبيعة الحدث الشعري الذي يمكن أن يكون مثل هذا المكان مسرحاً له. تتقدّم رؤية بصرية ديكورية أخرى لتضاعف الإحساس بالمهابة والإجلال ( على خد زهرة مكسورة،/ من يوقف زحف لهفتي للقياك أيها الجبل العظيم؟؟). وتؤدي الصورة الاستعارية التشخيصية اللاحقة الدور ذاته في تبنّي صورة  العلاقة الوشيجة التي كانت تربط الشاعرة بالراحل والدها. والدوال المتجانسة في عملياتها الشعرية داخل هذه القصيدة تعمل على تشغيل حسّ التدليل نحو مضاعفة نموذج الحنين والشوق بمستوياته كلّها. 

داخل ديوان بريد الفراشات انفتحت العلاقة بين فن الشعر وفن الرسم على أكثر من وشيجة عميقة وجوهرية بينهما، على المستويات التقنية والشكلية ولعبة المعنى والتخييل والتأمل، إذ إن شبكة الصور المعروضة داخل القصائد ليست أكثر من لوحات مرسومة بواسطة الكلمات بدلاً من الخطوط والألوان. 
    إن توظيف اللون من طرف الشاعرة كان بطريقة تنم عن وعي وإدراك طبيعة تشكّله في الطبيعة أولاً، وفي فن الرسم بنماذجه وأشكاله وحدوده ثانياً. وتمكنت الشاعر من الإستفادة من طاقاته هذه وتحويلها إلى حقل الشعر. وإن اللون بهذا التدخّل العميق في النماذج والأشياء يؤكد على نحو واضح بأنه من المستحيل علينا أن ندرك الشكل إدراكاً تاماً إلا بحضور فاعل اللون.
ويظهر هذا عبر الكلمات في قصائد الديوان : ( .. في رماد الحاضر../ يفقأ السواد عيون العابرين../ خضرته تنثر في مسافات دمي../ لون الدم../ يعري البياض عن ساق جنونه../ فستانها الفلفلي../ يعبث بلعبته الزرقاء../..)
وفي قصيدة " النوارس لم تعد":
(... على شاطئ البياض
رسمتك بحرا
رسمتني زرقة تمتص شرود السماء..)

 

 

صورة الجسد دالاًّ شعرياً
 

الإنسان بروحه وجسده جزء من الكون، ويعتبر جسده بمثابة المظهر الخارجي للشخصية، وله أهمية خاصة على الأقل بالنسبة للشخص نفسه. والجسد أيضا هو الحضور الدائم للروح فحين يغيب الجسد تغيب أيضا الروح. لذلك يمكن أن نقرأ في الجسد لغات شتى تعبر عن صاحبها وأحواله المختلفة.ومن خلال الجسد تنتقل الذات الشاعرة من فعل التأمل ذي الطابع السكوني الممعن في الصمت والهدوء, إلى فعل حركي يحرك مشهد الصمت ويهتك حجبه, ليصل بالذات الشاعرة إلى لذة الشفاء المفعمة بفرح انتصار الذات وهزيمة الجراح بآلامها الموجعة، التي كانت قبل تحقق فعل التأمل والتعبير خانقة لجسد الذات الشاعرة.
    
    ويتمظهر الجسد بطاقة حسية عالية في ديوان بريد الفراشات ، ومنها مثلا قصيدة (رقصة الماء) إذ يحضر الجسد في النص ليطارد شبح الموت/ الغياب الباسط ذراعيه على المكان الذي تستكين فيه واليه الشاعرة والمتمثل في النص ب"الذاكرة". فتأتي تمثلات وتعبيرات جسد الشاعرة ليقلل من فاعلية هذا الشبح الجاثم على هذا المكان.
قصيدة "رقصة من ماء"
( ... لتضم تنهيداتي العالقة باجنحة صمتك
تخلخل عهدا ينبت في مراياك همسه
وزفرة وداع،
تسلبني شهوة الموت
....
في غمرة الشوق
تعتصر محاجر الشمس ضياء لهفتي
تحضنها شواطئ غوايتك
تجرفك فتنة البياض
...
جرفتها شفاه عطشى
أخرست لغة المقل
غزلت في جنون
رقصة من ماء.)

 

 

                       
خاتمة
 

لا يتعافى الشعر إلا بخروجه من سطوة المحددات والمعايير، إنه التماهي الأبهى لرؤى الحواس وشغفها، والتعبير الخارج إلى عالم الخيال والأحلام، ربما لأنه يبقى تعويضاً نقياً عن تراجع القيم ومعاني الجمال التي تبقي قلاع الروح أكثر تماسكاً وقدرة على الصمود والدفاع.
 
    والشاعرة حسنة أولهاشمي قد توفقت الى حد كبير في أن تصنع لنصوص ديوانها لغة شعرية متميزة معتمدة على الأدوات اللغوية وقدراتها، وتقنيات الصورة في سبيل الوصول الى أقصى حدود التشكيل المعتمد على الخيال الإبداعي، العابر لمألوفية المقصديات، فما أنتجته المبدعة عبر " ديوان بريد الفراشات" عبر كل القصائد كان ترجمة لرؤيا فلسفية وفتحا للنصوص أمام احتمالاتها الدلالية ثراءً لها ، بدلا من غلقها على دلالة واحدة تؤدي به إلى الانقراض وتحول القراءة إلى عمل روتيني.

وعلى الرغم من الفرص التي كان يمكن أن توظفها لتصل فيها الشاعرة حسنة أولهاشمي بشعرها وإبداعها إلى الإشارة إلى ما تطمح إليه، وما يجب أن تكون، فإنه من خلال هذه التجربة الشعرية أرادت الشاعرة أن توضح لنا بالأساس من تكون الآن وفي هذه اللحظات لأنها تستشرف المستقبل من خلال بناء الحاضر عبر تصويره،نقده والسعي إلى تطويره.

لذا فإن المعنى الشعري للحقيقة التي اشتغلت عليه قصائد هذا الديوان انطلقت من معنى الكتابة في غاياتها الإنسانية، وهو نابع من ذات مبدعة غاصت وسبحت في بحور الشغف، وأضن أيضا أنها قد تقاذفتها أمواج الجزر والمد وتأثيرات الكون التي لا تحب للنفس المبدعة الركون، بل تدفع بها للغوص في البحث عن الحقائق، إذ أن العملية الإبداعية ليست منفصلة عن الحياة بل قد ترتقي إن صح التعبير إلى نمط حياة.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً