الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
" الحساسية الجـــديدة " و" الحساسية التقليدية" للراحــل الكـبيـر ادور الخــراط - برهان شاوي
الساعة 16:14 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)


أصدر الكاتب الكبير الراحـل ادور الخراط العام 1993 واحدا من أجمل وأهم الكتب النقدية في المشهد الثقافي العربي متجاوزا عشرات الأسماء النقدية العربية المكرسة من الدكاترة والأساتذة ومنتحلي النظريات الغربية في النقد الأدبي. كتابه كان حدثا ثقافيا. وإلى الآن يحتفظ بتوهجه وعمقه وريادته وجرأته في الحقل الثقافي. واقصد هنا كتابه " الحساسية الجديدة – مقالات في الظاهرة القصصية" الذي صدر في حينها عن دار الآداب.
 

يضم الكتاب الذي جاء في 338 صفحة أربعة أقسام، قسمه الأول كان بمثابة مقدمة لتقديم المصطلح وتأسيس النظرة الجديدة للخراط في فهم الظاهرة القصصية. 
القسم الأول يحمل العنوان: " تقديم ومنهج" مع عنوان فرعي: (استجلاء لأفق الحساسية الجديدة). أ
ما القسم الثاني فقد جاء بعنوان: " ما قبل الحساسية الجديدة " وهي دراسات رائعة وعميقة واستثنائية في أعمال أهم الكتاب الذين يصنفهم الخراط كمثثلين للحساسية التقليدية، أمثال نجيب محفوظ، إبراهيم الكاتب، طه حسين، محمود البدوي ، يوسف إدريس، يحيى حقي، وهذا الفصل يضم العناوين التالية:

القدرية والأنماط الرئيسية في عالم نجيب محفوظ، هموم عصر مضى : إبراهيم الكاتب وهموم عصره، آخر أيام العميد، نفاضة السيرة الذاتية لطه حسين، محمود البدوي على الحدود بين الحساسيتين التقليدية والجديدة، قمم الحساسية القديمة: يوسف إدريس الموهبة الحوشية، ويحيى حقي الدقة القاسية.
 

 

أما القسم الثالث فيحمل عنوان: صور من الحساسية الجديدة، ويضم العناوين التالية: مشاهد من الحساسية الجديدة على ساحة القصة القصيرة في السبعينات، الحياد والتورط عند بهاء طاهر : عين الحياد الصاحية في " الخطوبة " والتورط في "قالت ضحى"، تحريك القلب عند عبده جبير – رواية التجاوز لا الانهيار، محمد حافظ رجب وأشلاء مخلوقاته الممزقة، إبراهيم أصلان وقناع الرفض، زهر الواقع عند علاء الديب: الحسلسية الجديدة على كره من الكاتب، " رائحة البرتقال: لمحمود الورداني – رواية الفقدان والبتر، " حكايات شعبية" محدثة أم قصص حداثية عند خيري عبد الجواد، حبكة مرسومة ونهاية مرصودة عند ربيع الصبروت.
 

القسم الرابع الأخير فيحمل عنوان: تذييل على مشهد الحساسية الجديدة الآن – التغيير والقصص – لمحة في ساحة الإبداع القصصي الحديث.
في هذا الكتاب يقدم ادور الخراط قراءة ثاقبة وعميقة لعقود من تاريخ القص والسرد الروائي العربي، ناحتاً مصطلحي " الحساسية القديمة أو التقليدية" و " الحساسية الجديدة " نقديا مدللا عليهما بالنماذج والدراسة العميقة. ولكي نتوقف عند هذين المفهموين نقدم فهم الخراط لهذين المصطلحين.
الحساسية القديمة أو الحساسية التقليدية:

 

يؤكد ادور الخراط في القسم الأول من كتابه، بأن ما يعنية بالحساسية التقليدية وتسميته لها هكذا لأنها شبه رومانسية، شبه واقعية. ويوضح مقاصده هنا في أن كاتب الحساسية التقليدية ( يمضي على درب أسلافه الغربيين في الإفضاء عن ذات نفسه، وهاجسه، يريد لقارئه أن يستند إلى كتفه الواهية، وان يغرقا معاً، في تربة الذات الطرية، وفي الثانية، يريد أن "ينقل" له "الواقع"، ويعكسه، ويثير قضاياه، على أساس أن هناك، بالفعل، "واقعا" خارجياً، ظاهريا، متحدداً، قائما هناك، بما فيه من ظلم وقسوة، يمكن وصفه ونقله وتحديده .).
 

وليؤكد نحته الكامل في تحديد مفهوم " الحساسية التقليدية" يتوسع ادور الخراط في تفسيره ، فيقول : ( هذه الحساسية تقليدية، لأنها في الحالتين- تعتمد قواعد حجرية، وموصوفة، وسائدة، في الإحالة على الواقع بشقيه، الذاتي والاجتماعي، هي قواعد المحاكاة الأرسطية العريقة المحتد.).
وتأتي ضربته القاضية في تحديد معالم " الحساية التقليدية" وأشهر كتابها في التالي: ( وإلى هذه الحساسية التقليدية ينتمي مشاهير الكتاب المصريين والعرب على تراوح تقديراتنا الممكنة لقيمتهم الفنية، وهم الذين " استولوا – بمعنى من المعاني – على " السلطة " الأدبية في ساحتنا، طوال عقود خمسة من الآن (العام 1993)، من أمثال نجيب محفوظ، وعبد السلام العجيلي، وحنا مينة، وعبد الكريم غلاب، وذنون أيوب، وشاكر خصباك، وعبد الحليم عبدالله، ويوسف السباعي، حتى يوسف إدريس (الذي، وإن اندرج تحت فهم واسع للواقعية الاجتماعية، فإن موهبته الحوشية، الفطرية، تجعل له مكانة قائمة برأسها) حتى جيل الوسط الغامض الأهمية، من الكتاب الأوساط الذين كفّ الكثير منهم عن الكتابة – الآن – والذين حملوا، بكفاءة متفاوتة، عبء مرحلة " الواقعية" الاجتماعية، بعطائها المحدود.).

 

 

ويحدد جذور وملامح " الحساسية التقليدية" عند مسحه وقراءته لكل ما كتب منذ القرن التاسع عشر والقرن العشرين حتى حدود 1967، إذ يكتب التالي: ( تحطم " الواقع" القومي والاجتماعي على نحو خشن، بكارثة 1967، أفضى إلى أنّ الاتجاهات الحداثية حلّت الآن محل المنحى الواقعي القديم الذي عفا عليه الزمن تقريباً، والذي كان وما زال نجيب محفوظ بطله ونصيره).
 

وقبل أن يقدم رؤيته لمفهوم " الحساسية الجديدة" يضع نقطة على رأس سطر مفهوم " الحساسية التقليدية" حينما يؤكد بخلاصة تشبه الإدانة : ( يمكن، من زاوية ما، أن نقول إن الحساسية التقليدية، في نهاية التحليل، هي رافد من روافد السلطة في " الواقع" – ولنستخدم هذا المصطلح، الآن، بوصفه نظام القيم السائد، على المستويات الاجتماعية والثقافية، على السواء – بينما تشير الحساسية الجديدة إلى رفض هذا الواقع، ونقضه، ومن ثم فهي تحمل استشرافاً لنظام قيمي جديد، اجتماعيا وثقافيا، على السواء.).
 

 

ولكي لا يفهم مما تقدم كمغالاة في رفضه لنتاجات" الحساسية التقليدية" فهو يوضح بموضوعية في ما يلي: ( ومع ذلك، فأن المعيار الممكن الوحيد، هو في الاحتكام إلى النص، لا في الرجوع إلى معيار التاريخية، وحده. والنص – مهما كانت له وشائج اجتماعية وتاريخية – ليس ماضويا ولا مستقبليا، وربما كان ذلك من أسرار الفن التي ما زالت، ولعلها ستظل دائماً، غير مفضوضة. والاحتكام غلى النصوص مهمة أجيال من النقاد ننتظرهم، وليس موضوع هذه الانطباعات لكاتب هو – بحكم عمله نفسه – منحاز إلى رؤية معينة، لا شك في انحيازه، ولا يتبرأ، أو يبرأ، منه).
 

الحساسية الجديدة :
 

في كتابه الذي نستعرضه هنا يحاول الأديب الكبير أدور الخراط تأكيد فهمه وقراءته للأدب القصصي العربي، من خلال نحت مفهوم " الحساسية الجديدة"، حتى في حديثه عن "الحساسية التقليدية" . فهو يوضح الأرضية التي انبثق عنها هذا المفهوم فيكتب: ( إن الكتابة الإبداعية – لسبب أو لآخر – قد أصبحت اختراقاً لا تقليداً، واستشكالاً لا مطابقة، واثارة للسؤال لا تقديما للأجوبة، ومهاجمة للمجهوللا رضى عن الذات بالعرفان، ومن هنا تجيء تقنيات " الحساسية الجديدة").
لكن يا تُرى ما هي هذه "الحساسية الجديدة" وما هي تقنيات وكيف تختلف عن " الحساسية التقليدية".هنا يوضح ادوار الخراط تقنيات " الحساسية الجديدة " في التالي : ( تقنيات الحساسية الجديدة هي: كسر الترتيب السردي الاطرادي، فك العقدة التقليدية، الغوص في الداخل لا التعلق بالظاهر، تحطيم سلسلة الزمن السائر في خط مستقيم، تراكب الأفعال:المضارع والماضي والمحتمل معاً، وتهديد بنية اللغة المكرسّة، ورميها – نهائياً – خارج متاحف القواميس، ووسيع دلالة "الواقع" لكي يعود إليها الحلم والأسطورة والشعر، ومساءلى – إن لم تكن مداهمة – الشكل الاجتماعي القائم، تدمير سياق اللغة السائد المقبول،اقتحام مغاور ما تحت الوعي، واستخدام صيغة "الأنا" لا للتعبير عن العاطفة والشجن، بل لتعرية أغوار الذات، وصولاً إلى تلك المنطقة الغامضة، المشتركة، التي يمكن أن اسميّها " ما بين الذاتيات" والتي تحل – الآن – محل " موضوعية " مفترضة، وغيرها من التقنيات.). ويؤكد الخراط بأن هذه التقنيات ليست شكلية، وليست انقلابا شكليا في قواعد " الإحالة على الواقع " بل هي رؤية وموقف.

 

ولكي يرسخ الخراط مفهوم "الحساسية الجديدة" فهو يبوبها ويقسمها إلى تيارات كما يقدم اسماء ممثليهان كالتالي:
 

تيار التشيئ: كتّابه هم: بهاء طاهر، إبراهيم أصلان، محمد البساطي، جميل عطية ابراهيم، يوسف أبو رية، محمود الورداني وأحمد زغلول الشطي وعبده جبير من مصر، والياس خوري من لبنان، وزكريا تامر من سوريا.
 

التيار الداخلي: كتّابه محمد ابراهيم مبروك، محمد حافظ رجب ومحمد عوض عبدالعال من مصر، احمد المديني من المغرب، وحيدر حيدر من سوريا.
 

تيار استيحاء التراث العربي التقليدي، التاريخي، أو الشعبي: أهم كتّابه: محسن يونس، يوسف أبو ريه، سحر توفيق، سهام بيومي، جمال الغيطاني، خيري عبد الجواد وإبراهيم فهمي ونبيل نعوم جورجي.
 

التيار "الواقعي السحري": وأهم كتّابه هم: إبراهيم عبد المجيد، سعيد الكفراوي، وفيق الفرماوي، إبراهيم عيسى.
 

التيار الواقعي الجديد: أهم كتّابه هم: علاء الديب، خيري شلبي، محمد المنسي قنديل، سلوى بكر، صنع الله غبراهيم، محمد المخزنجي.
 

" الحساسية الجديدة " و " الحداثة ":
 

يفاجئنا ادور الخراط في تفريقه الحاسم ما بين " الحساسية الجديدة " و " الحداثة " حيث يؤكد فهمه لهما في التالي: " الحساسية الجديدة " عندي تختلف عن " الحداثة " وإن كانت تتقاطع معها في مساحات كبيرة). ويوضح رأيه في أن " الحساسية الجديدة " هي نقلة (زمنية) في تطور الأدب المصري، بينما " الحداثة " لديه هي قرينة للجّدة، وليست تاريخية فخسب، وإنما هي تعبير عن القيمي وليس عن الزمني، فهي نفي مستمر، وسؤال مفتوح. ويرى أن (" الحداثة " قيمة في العمل الفني، فيمة التساؤل المستمر، وهي مرادفة للأصالة).
ويستمر في توكيده : ( الحداثة في ظني، إذن، هي كما أقول، السعي المستمر نحو المستحيل، هي التجاوز المستمر للأشكال، هي تختلف، إذن، عن " الحساسية الجديدة " في أن مجموع الرؤى أو الطرائق الفنية في الحساسية الجديدة، يمكن أن تستقر، وتصبح نتاجا تاريخيا وزمنيا وتتجاوزها وتقوم على أثرها حساسية جديدة أخرى، حساسيات جديدة، إذن، هي مراحل التاريخ والزمن. أما الحداثة فهي قيمة العمل الفني تتجاوز الزمن وتخلد عبر التاريخ).

 

وأعتقد أن الراحل الكبير ادور الخراط أقفل الدائرة، لكنه وضع كل المفهوم في موضع التساؤل، حيث يمكن السؤال حول مفهوم " الحساسية التقليدية" و " الحساسية الجديدة"..لماذا ابقى الخراط على مفهوم " الحساسية الجديدة" عند حديثه عن صيرورةتها إلى نتاج تاريخي وزمني تقوم على أثرها " حساسية جديدة" أو حساسيات جديدة، ولم يشير إلى أنها تتحول إلى " حساسية تقليدية " ؟، وعلى نفس الإفتراض يمكن السؤال: ألم يكن نجيب محفوظ من الناحية الفنية والأسلوبية نافيا للحساسية القديمة ، المتمثلة بكتابات محمود تيمور، ولاشين، والمويلحي، والمنفلوطي وغيرهم ، ورائدا للحساسية الجديدة في الكتابة قبل أن يتحول، بحكم الاستقرار التاريخي والزمني لتجربته الإبداعية، إلى أحد أعلام " الحساسية التقليدية"..؟؟ ناهيك أن محفوظ اصدر كتبا ومجاميع قصصية بعد صدور كتاب " الحساسية الجديدة" للخراط.
 

وكما أوضحت في بداية قراءتي لكتاب " الحساسية الجديدة – مقالات في الظاهرة القصصية) للكاتب الكبير الراحل ادوار الخراط، بان هذا الكتاب يُعد واحد من الكتب النقدية والثقافية المهمة جداً التي صدرت منذ ثلاثة عقود على الأقل.. متجاوزا الكثير من الكتب النقدية التي تجتر نظريات غربية وتنظيرات وتطبيقات شكلية باردة كثيرا ما نجدها عند نقادنا الأكاديميين المكرسين اليوم.

 

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً