الجمعة 29 نوفمبر 2024 آخر تحديث: الخميس 28 نوفمبر 2024
هرمنا - حميد عقبي
الساعة 18:44 (الرأي برس - أدب وثقافة)


يطرح الصحيفة جانباً دون اكتراث، إن صورته تحتل مساحة لا بأس بها من الصفحة الأولى.. بالداخل صفحة كاملة تستعرض بعض كتاباته وصوراً بعدة مناسبات.. بعض النقاد طرحوا بإيجابية عنه.. لاحظت أن مثل هذا الحدث سيفرحه.. فقد سبق ورأيت بعضهم تتغير نبرته ومشيته بمجرد نشر مقال أو قصيدة بإحدى الصحف الصفراء التي لا يقرأها أحد، رغم ذلك تجده منتفخ الأوداج مثيرًا للسخرية.
 

صديقي هذا مختلف ليس من هذه النوعية، هناك نوعية أخرى يريد الناس كلها تتحدث عنه، تجده يرى الكل صغاراً وهو الكبير؛ الأديب؛ الفذ، العبقري.. صديقي أيضا لا ينتمي لهذه الفصيلة، كلما اقتربت لفهمه أجده بعيدًا عن النوعيات التي تتلون بكل الألوان، لا يعني أنه رجل فريد وكامل.. ما يعجبني فيه بساطته، طبيعته العشوائية، لكن عيبه أنه يفضل الاعتكاف بعالمه الصغير المحدود.. ما يقلقني أنه رُبما محبط أو مكتئب! هناك من هم أقل منه جودة بالكتابة، بل بعضهم لا روح في كتاباتهم، كل هذه المقارنات تدور برأسي خلال الدقيقة الأولى.. لتأتي مفاجأة تذهلني، فالرجل ببساطة يقترب منه صاحب عربة الساندويتش بالرصيف! ليسلمه صديقي الشاعر كمية من الصحف ومجموعة من كتابه المطبوع حديثاً! ليستلم مقابلها بعض أقراص الطعمية والباذنجان والشورما!
 

كانت صدمة أن أرى شاعرا أعتبره قمة يبيع نتاجه بهذا الرخص، انفعلت كثيراً وخرجت عن طوري، بينما الرجل منهمك بالأكل.. يرمقني بنظرات اللامبالاة؛ بل أحسست سخرية.. أتذكر أني قلت: “كنتم ضحية الدكتاتورية، سجنوكم، عذبوكم، أحرقوا كتبكم، ثم جاءت الثورة لتنصفكم وتعلو شأنكم، ترفعكم للقمة”.. (بهذه اللحظة يمر شحات يُسرع صديقي بإعطائه بعض الأقراص ويداعبه غير مكترث.. أحاول التماسك غير قادر على فك هذه الألغاز.. أتابع): “أتود أن تظهر كصوفي، أو راهب، أم تلعب دور الضحية! أود ردًا مقنعا أرجوك”.
 

هنا أكمل الرجل وجبته وأشعل سيجارة من النوع الرخيص.. بهدوء وثقة نفخ الدخان.. يبدو عليه سيتكلم.. أنتظره بكل حواسي، هنا قال: قبل الثورة كنا أطفالا نحلم.. نكتب.. نقرأ.. نُسجن.. وقد نموت بسعادة.. جاءت الثورة فرحنا بها فرح الأم بعودة ابنها سالما من المظاهرات، بعد الثورة جاءَني بعض قادتها، فتحت لهم داري ومدخراتي (هنا ترتسم علامة حزن وأسى بل مراسيم ندم) أخذوا كل كتبي ومدوناتي لطبعها، ظننت زمن الفجر والنور (يصمت للحظات يبصق كمن تناول علاجا مرا.. ثم يتابع) مرت شهور في انتظار الإصدارات، أخيراً صدر هذا اليتيم الأجرب الذي تسميه كتابا.. أتدري، هو أجرب مشوه به مئات الأخطاء المطبعية، لا أظنني كتبت هذا، لا أعرفه ولا يعرفني، أما بقية الكتب تقاسموها وحرفوا فيها.. (هنا لا يتمالك نفسه يبكي بحرقة) الثورة أقصد قادتها سرقوني، شوهوا جمال الكلمات وطبعوها بطبعات فاخرة بأسمائهم، منحوا لِأنفسهم جوائز وأوسمة (يتوقف متمالكاً نفسه.. يضحك ساخراً.. يواصل) أنا يا صديقي كما ترى أوزع هذه الخيبة قسمة عدل بين المزبلة والمرحاض.. هذه هي الثورة التي انتظرناها. (يصمت تاركاً بنفسي حسرة) قلت: يمكنك العودة للكتابة، الثورة سوف تصحح مسارها ثق بذلك عُد للكتابة.
هنا ضحك وقال: سنكتب.. نُسجن.. نُسحل.. لتأتي ثورة أخرى تظنها ستنصفنا يا صديقي.. لقد هرِمنا (رددها بضحك يمتزج بالبكاء) هرِمنا.
ثم تمتم بداخله، فاستطعت الإمساك بهذا المقطع:

 

“ضحكنا يوم أشرق النهار
هرمنا بالضحى
الضوء أصابه الجرب
موسم الجراد
يأكل الرايات في المظاهرات
أبناء الزقاق
الشمس تركت
أطفالها
ذهبت لتسبح
بالبرقع
مستنقع آسن…”.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص