الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
أيوب حشاش حين يكون الشاعر غيمة على شمسه - علوان الجيلاني
الساعة 12:13 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)


انشغل منذ طفولته بالشعر.. كان في السابعة أو الثامنة من عمره حين تمكن من إجادة القراءة والكتابة ..و لسبب غريب وجد نفسه مشغولاً بما يرميه تلاميذ المراحل الدراسية المتقدمة " الإعدادية والثانوية " من الكتب المدرسية آخر العام .. يجمعها مجذوباً إلى النصوص الشعرية فيها .. يقرأ ويكرر القراءة حتى لو لم يفهم .. بهرته جداً تلك الطريقة العجيبة في نظم الكلام أو حبكه على نحو ما يفعل إيليا أبو ماضي في " النخلة الحمقاء " أو عمرو بن معد يكرب في وصف الجمال :
 

ليس الجمال بمئزر فاعلم وإن رديت بردا 
إن الجمال مآثر ومناقب أورثن مجدا
أو تضادات المقنع الكندي وهو يقول : 
وإن الذي بيني وبين بني أبي وبين بني عمي لمختلف جدا 
أراهم إلى نصري بطاءً وإن هموا دعوني إلى نصر أتيتهم شدا
كما لعبت بمخيلته هجائيات جرير والفرزدق ومراثي الخنساء وزهديّات أبي العتاهية . 
كان الوقت بداية التسعينيات من القرن العشرين .. وكان في " بيت الفقيه " مدينة الشاعر مكتبتان .. كلتاهما في السوق ؛الأولى عند مسجد الحلبي .. والثانية في سوق الملابس والذهب اسمها " مكتبة العياني " ، كان الشغف يقوده إليهما بشكل يومي إمّا بحثاً عن كتاب مّا سمع به أو حدثوه عنه .. وإمّا لمجرد القرب من الكتب والتقليب فيها ، أو أخذ كتاب وإمعان في القراءة فيه متآلفاً مع ردة الفعل التي ستترتب على ذلك ..فإن صادف مزاجاً حسناً عند صاحب المكتبة تركه وشأنه يقرأ حتى يترك ..وإن لم يصادف زجره صاحب المكتبة معلناً عن ضيقه به ... ساعتها يَخْنَسُ مُتَسَاحِباً ويذهب .. لكنه كان أيضا يشتري الكثير من كتب المكتبتين ، اشترى الملاحم الشعبية مثل " سيرة الزير سالم " و " سيرة سيف بن ذي يزن " و "السيرة الهلالية " و " ألف ليلة وليلة " إلى جانب كتب المغامرات التي يهواها كثيراً مثل " سندباد " وسلسلة "رجل المستحيل" .. ثم ما لبث الحال أن مال على المكتبتين فتدهور حالهما .. ووجد نفسه يتحول إلى مصدر آخر .. ثمة شخص من جامعي الكتب اسمه يوسف حميدي ، كان قد بدأ رحلة التخلص من مكتبته التي لم يجد لها مشترياً يأخذها بقضها وقضيضها .. فراح يتصيد هواة القراءة من تلاميذ المدارس .. وعلى رأسهم هذا الصغير " أيوب حشاش " .

 

 

كان والده وقتها يمتلك بوفية لبيع السندويتشات أمام بوابة "مدرسة السلام بيت الفقيه " ويمتلك إلى جانبها دكاناً جوار مسجد الحلبي ... و بسبب ظروف الحياة الضاغطة تحتم عليه أن يشغله بمساعدته في الدكان والبوفية طوال اليوم لدرجة الغياب أحياناً من المدرسة .. بيد أن مساعدته لوالده كانت تمكنه من توفير بعض المال الذي يتخذ صرفه وجهة واحدة هي جيب " يوسف حميدي" الذي اقتنى منه الفتى دواوين أحمد شوقي ونزار قباني وأبي القاسم الشابي وغزوات الإمام علي ومرتفعات وذرينج وبعض روايات أجاثا كريستي .. وأعداداً من مجلات العربي والفيصل والدوحة القديمة .. وغيرها من الكتب التي تحول اقتناؤه لها في تلك السن الصغيرة إلى مأساة شخصية عميقة الأثر في تاريخه الذاتي .. فقد كان أبوه صارماً وحريصاً على استغلال ابنه لوقته في الدراسة والعمل .. وجراء خوفه من غضب أبيه - فيما إذا عرف انشغاله بتلك الكتب - فإنه كان لا يأتي بها إلى البيت المكون من غرفة واحدة حيث لا يستطيع أن يجد لها مكاناً يخبئها فيه بعيداً عن عينيه.
 

 

بداية كان يدفع ثمنها ويتركها عند البائع .. ثم ما لبث - بعد أن صارت تشكل مكتبة صغيرة - أن نقلها إلى بيت صديق له ، اتفق معه أن تكون وديعة عنده حتى تأتي العطلة الصيفية فيأخذها ويستمتع بقراءتها دون خوف من تثريب أبيه إذ سيكون في الوقت أكثر من متسع للجمع بين مساعدة أبيه والقراءة .
 

بعد يوم حنّت نفسه لقراءة كتاب يختلس معه وقتاً دون علم أبيه .. ذهب إلى بيت صديقه وأخبره برغبته .. غير أن رد صديقه كان مفاجأة صاعقة .. بمنتهى البرود قال له : جاء بعض أقربائنا من الحديدة ورأوا الكتب .. أعجبتهم .. فأهديتها لهم ..
دارت الدنيا بالفتى.. فهو لم يصدق .. لم يصدق لأنهم جيران ، وأي زائر يأتي من خارج بيت الفقيه تعلم بمجيئه الحارة كلها .. كان على يقين أن صديقه قد نصب عليه .. وأنه باع الكتب أو استأثر بها لنفسه .. بلغ به الضيم مداه .. بإمكانه أن يهجم على صديقه ويعيث في وجهه وجنبيه لطماً وعضاً و جفراً.. ودّ لو يفعل ذلك لكنه لم يجرؤ ..ليس خوفاً من صديقه أو عجزاً عنه لكن خوفاً من أبيه .. فعراكه مع صديقه سيكشف أمره أمام أبيه .. ولن يغفر له أبوه تبديد غلة الدكان في شراء الكتب والانشغال عن المذاكرة بقراءتها .. كما أنه سيعتبره ساذجاً استغفله صاحبه واستولى على حقه .
انصرف محنقاً وبعيداً عن الرقباء ذرف في دموعه ونشيجه كل غضبه على ذلك الصديق الخؤون .. ذرف أيضاً عتبه المغتاض على أبيه الذي لم تتح له صرامته هامشاً من الحرية يمارس فيه القراءة .. وحدها القراءة تفتح لروحه نوافذ على عوالم عجيبة ..عوالم حرم منها كثير من الناس ، أبوه نفسه واحد من أولئك المحرومين .

 

 

كان حينها في الثالثة عشرة أو الثانية عشرة من عمره .. قرر مقاطعة صديقه الخائن إلى الأبد .. وبقي يشتري الكتب لكن بحذر .. يشتريها فرادى ويخبئها هنا وهناك لا أحد يهتدي إليها غير أمه التي كانت تتغاضى عنه وعنها .. 
بعد زمن وجيز فُتحت مكتبة في مدرسة السلام فكان هو فارس القراءة فيها غير منازع .. قرأ كتب " جبران " و " أمين معلوف " و " أبو ريشة " و " علي حمود عفيف " و " المقالح " و " البردوني " وغيرهم.

 

في هذه الأثناء وبينما كان يعيش فترة المراهقة ( حوالي الخامسة عشرة من عمره ) و قعت – صدفة – في يده رواية الكاتب عبد الرحمن منيف " مرزوق واغتيال الأشجار" التي أثرت فيه تأثيراً عميقاً فثمة مشترك بينه وبين " إلياس " أحد شخصيات الرواية ..الخيبات والإنكسارات وهشاشة الوضع الحياتي والتنقل بين الأعمال وعدم الثبات على طريق واضح .. يومها فكر في كتابة رواية .. فكر تحديداً في سرد قصة حياته .. وفي الدكان راح يطلق لقلمه العنان حتى ملأ دفتراً كاملاً .. تلف ذلك الدفتر بعد شهور مع دفاتر أخرى تضم محاولاته الشعرية الأولى وبعض الخواطر والكتابات الموازية .. فقد كانت في كيس من تلك التي يعبأ فيها الدقيق .. وحدث أن انتقلت أسرته من بيت الإيجار الذي كانت تسكنه إلى بيت ملك .. بناه أبوه وانتقلت الأسرة إليه قبل الانتهاء من تشطيبه .. كان البيت دون نوافذ ، وكان الكيس الذي يضم دفاتر أيوب بالقرب من إحدى تلك النوافذ حين انهمر المطر غزيراً ليبللها ويذهب بخلاصة روح الفتى المسطرة فيها ...وكانت تلك مأساته أو فجيعته الثانية ..
 

 

قرب نهاية عقد التسعينيات من القرن العشرين .. كان الشاب الصغير قد امتلك القدرة على كتابة الشعر ..وكان قد اعتاد المشاركة في عديد الفعاليات الشعرية والاحتفالات التي احتضنتها مدرسته .. ومقرات الأحزاب .. إلى جانب المناسبات الوطنية والمناسبات الدينية .. ما كان يريحه ويشجعه وقتها أن أمه كانت تجد في موهبته وحضوره الشعري وبروزه وسط حشد من المواهب الشعرية التي تعج بها المدينة رافعة للأسرة التي لم يكن لها ما يسندها اجتماعياً كونها تجمع بين الفقر والغربة .. فهي أسرة أصلها في شمير انتقل جدها الرابع إلى وادي زبيد حيث تكاثر هناك بعض أفرادها .. فيما انتقل والده وعمه إلى بيت الفقيه .. بيد أن ذلك الحضور اللافت للشاعر الشاب لم يكن وهجاً صافياً أو عسلاً مصفى .. فقد اشتهرت مدينة بيت الفقيه بقوة الاستقطابات وحدّة الانتماءات .. وتلك علامة تَسِمُ نشاطات أهلها في كل شيء وعلى الأخص مجالات السياسة والثقافة والأدب ..
 

كان الفقيه العلامة اسماعيل حبيش مخايا مفتي بيت الفقيه والمتشبث بأهداب التصوف فيها .. جاذباً قوياً له بحكم الجوار ومرور الفقيه شبه اليومي بدكان والده أثناء ذهابه لأداء صلاة الضحى في مسجد الحلبي فأنتج ذلك تعلقاً قاد الشاعر إلى حضور حلقة دروسه التي يؤمها طلبة العلم في بيته ..
وكان جوار الدكان نقطة تَجَمُّعِ السلفيين التي تعبر عن نفسها من خلال منفذ لبيع الأشرطة والكتب ..وكانوا يترددون على الدكان لإقناع أبيه بإبعاده عن العلامة مخايا حتى لا يضله بقبوريته .. ويدخله في كفر الصوفية - كما يزعمون - وكان أبوه قد بدأ يعبر عن استجابات لضغوطاتهم .. وإن لم يكف عن احترامه للفقيه .
وكان الإخوان المسلمون يمسكون بمسجد الحلبي الذي يقع على بعد خطوات من دكان والده ، وكانوا يحاولون اجتذابه إليهم عن طريق صديقه الأقرب الشاعر علي بريج الذي كان منتمياً للجماعة وناشطاً فيها .
وعلى بعد أمتار من الدكان كانت الرابطة الأدبية التي يتزعمها محمد منصور حميدي ذو التوجه القومي البعثي .. وكانت هذه هي الجهة الأكثر جاذبية له بحكم تردد ذوي المواهب الشعرية ممن يكبرونه عمراً عليها .. من أمثال اسماعيل مخاوي ومنصور الصوفي ومحمد سيبان إلى جانب عدد آخر من المثقفين والسياسيين والوجهاء .
وكان الأديب عبد الله خادم العمري قد أسس منتدى العمري للثقافة وإحياء التراث .. وأصبح من خلال نشاطه التوثيقي لتراث المنطقة وفنونها وأسلوبه الخاص في تجميع الشباب ..أكثر المراكز في المدينة استقطاباً للمبدعين وهواة الإبداع في تلك المدينة الضاجّة بالحركة .. 
كانت كل تلك الأطراف تمارس الاستقطاب الحاد على كل ذي موهبة بمقدار ما تمارس العداء الخفي والظاهر فيما بينها .. وكانت طرائقهم في الاستقطاب توفر لشاعر موهوب مثل " أيوب الحشاش " مساحات مختلفة للقول .. في نفس الوقت الذي يجد الشاعر نفسه فيه .. رازحاً تحت ثقل وأعباء وتبعات وإحراجات العداء المستفحل بينها .

 

 

نجح التيار السلفي في استمالة والديه ؛ فكان عليه أن يذهب إلى دماج مرتين ، مكث في كل مرة ثلاثة أشهر .. حيث كُنّي هناك بأبي نجم الدين الأثري وحظي بعدد من الألقاب التي تقرّضُ شاعريته منها " فتى الشعراء " ، " شاعر الدعوة " ، " لسان السنة " .. لكن تلك الحفاوة لم تمنع الحشاش من ممارسة غوايات كانت غريبة على المكان وناسه ، لم يكن يستهويه في مكتبة دماج الضخمة إلا القسم الذي يطلقون " عليه كتب الضلال" .. منه قرأ كتب مالك بن نبي ومحمد أركون ورواية المجوس لإبراهيم الكوني والكشاف للزمخشري وأعمال نزار قباني الشعرية الكاملة .. كان يأخذ الكتاب من قسم الضلال خلسة ويذهب به إلى قسم كتب العقيدة ، حيث يراكم على الطاولة عدداً من كتب العقيدة ويدفن نفسه مع كتابه المفضل من كتب الضلال .. تلك طريقة تسهل عليه - إذا شعر بمرور شيخ من الشيوخ أو زميل مّا من الزملاء أن يخفي الكتاب السري ويفتح كتاباً من تلك الكتب .
 

 

كان الحشاش قد حقق في ذهابه الثاني إلى دماج حضوراً لا فتاً .. غير أن ضيقه بمكان لا يشعر في قرارة نفسه بالانتماء إليه جعل الانسحاب منه فكرة ملحة .. رغم أن تنفيذها يبدو صعباً، فهذه المنظومة تلحق الأذى بكل من ينتمي إليها ثم يفكر في مفارقتها .. مرّ بأوقات صعبة .. وراودته هواجس هلع مفزعة ، وفيما هو يرزح تحت عبء هذا الكابوس ، توفي الشيخ مقبل الوادعي وأعقبت وفاته انقسامات حادة بين أتباعه شيوخاً وتلاميذ ..فوفر ذلك له فرصة مناسبة للانسحاب دون عودة .. انسحب غير مبال باستهدافات منابرهم وأقلامهم له .. وزاد من عدم مبالاته بها أن صداها كان أقل كثيراً مما توقع .
 

 

في هذا الوقت أصبح الشاعر متنازع التفكير بين مستقبله الدراسي ومستقبله الإبداعي .. حصل على مقعد دراسي في قسم اللغة العربية جامعة دمشق عن طريق حزب البعث .. لم يصمد هناك أكثر من سنة وبضعة أشهر ..عاد دون أن يكمل دراسته ..غير أن تجربة دمشق أنضجته شعرياً ... وسعت مداركه من خلال الإطلاع على تجارب شعرية وروائية قادته إلى ارتياد قصيدة النثر وإلى محاولات جادة لكتابة الرواية .. 
وعندما عاد من سوريا في العام 2005م وجد مجموعة شعرية تحمل اسمه .. قام منتدى العمري بتجميعها من قصائد مختلفة له وتمت طباعتها ضمن إصدارات صنعاء عاصمة الثقافة العربية 2004م ..بحكم نضج تجربته وتطور وعيه والآفاق التي فتحتها له فترة بقائه في سوريا .. فقد شعر بعدم الرضا عن تلك المجموعة .. كان قد فارق أجواء قصائدها تماماً ..اختلفت الرؤية وتبدلت العبارة ، كما تبدلت الاهتمامات ، ووجد نفسه بشكل مبكر ينظر لمجموعته الأولى " أول الفجر " نفس نظرة الشاعرة فدوى طوقان إلى مجموعتها الأولى " ... "
لم يتوقف كثيراً عند " أول الفجر " .. انغمس في محاولات جادة للمضي حثيثاً في رحلته الجديدة ..وبموازاة الانهمار الابداعي أكمل دراسته الجامعية في قسم التاريخ بكلية التربية "زبيد" - جامعة الحديدة .. مع ذلك قاده الحظ ..ونصيب أهل منطقته الضئيل دائماً في الوظائف الحكومية إلى وظيفة عسكرية منذ العام 2009م حين انضم إلى مصلحة خفر السواحل ..ثم تَكَنّفَتْهُ مصاعب أخرى في حياته العائلية تركت ندبتين غائرتين في روحه زاد طينهما بلة صعوبات المعيشة وخيبات الواقع الوطني ومراراته التي تمثلت في هيجانات الشوارع عام 2011م ثم اعتمالات الحراك التهامي السلمي منذ ذلك الوقت .. 

 

 

الأحداث منذ 2011م حتى الآن " مارس 2015م " – على مراراتها وخيبات مخرجاتها – كان المكسب الوحيد فيها للشاعر حضوره الباذخ الذي هز ساحات الحديدة ، وباجل ، وبيت الفقيه ، وتوهج على المنابر حتى سمعته كل أذن .. ولا مس نبض الشارع الموجوع حتى لُقّب ب " شاعر القضية التهامية " .
 

لم يكن ما سبق مجرد مقدمة بيداغوجية طويلة لشاعر شاب .. فقد كانت كتابتها حتمية لتكون توطئة كافية توضح المنابع و الروافد والمؤثرات والمرجعيات والظروف الاجتماعية التي قدم منها الشاعر أيوب الحشاش .. ليكون واحداً من أهم أصوات الشعر اليمني منذ مطلع الألفينية ..ثم إنها كانت حتمية – أيضاً – لدحض سحابة قاتمة من التجاهل النقدي الذي أصاب هذه التجربة ..ثم لتكون مفتاحاً يفسر لماذا هو واحد من الملامتية الذين تتجاهلهم المؤسسات الرسمية ويغيبون عن الوفود الأدبية التي تمثل اليمن في الخارج ويصعب عليه التحقق الحياتي .. كما يصعب على مجموعاته الشعرية أن ترى النور .
 

 

****
 

تتميز تجربة أيوب حشاش الشعرية بقدر مدهش من الأصالة الإبداعية .. فهو واحد من قلائل استقامت لهم طريقة الكتابة في وقت مبكر .. كان في الخامسة عشرة من عمره عندما كتب قصيدة ألفية عنوانها " معلقة الأحزان " ... كانت أول قصيدة يكتبها سليمة العروض واللغة .. انعكست فيها مشاعر الإحباط التي كان يقتات عليها ذلك الوقت : 
إني امرؤ حقاً كرهت حياتي .. ورجوت في الصبح القريب مماتي
تلك المعاناة التي عانيتها .. جعلت فؤادي قاصر البسمات
أبياته غنت مواويل الأسى .. فزددت مأساة على مأساتي
قرأها مع أصدقائه الذين لم يخفوا إعجابهم بتجلياتها ليس بوصفها شعراً عظيماً وإنما بوصفها تجربة مميزة قياساً إلى عمره آنذاك ..لكنه تجاوز أنانية الشاعر الموسومة في ذلك الوقت بالغرارة وقرر أن يعيد الاشتغال عليها لينكمش عدد أبياتها إلى حدود مئة وخمسين بيتاً .

 

تفجّرُ شاعريته وزهوه اللافت بامتلاك ناصية القول صادف - كما أشرنا سابقاً - محيطاً اجتماعياً ضاجّاً بالاستقطابات الحادة التي كانت تلح على ترصيع حشودها وتحويج فعالياتها بالشعر والشعراء .. هكذا كانت المنابر المتنافسة في تلك المدينة التقليدية تتسابق على قصائد الشعراء " اسماعيل مخاوي ، وعلي بريج ، ومحمد عاصية ، وعبدالله خطيب " وهم يسبقون الحشاش عمراً وتجربة ، بل وحتى الشيخ إبراهيم حكمي ، والأديب عبدالله خادم العمري الأسبقان تجربة وعمراً بزمن طويل ..
انغمس الشاعر في تقديم صوته من خلال تلك الفعاليات الموزعة على مصفوفة طويلة من التوجهات المتعارضة تقع بين التعبير عن هموم وتوجهات التيار السلفي والهموم القومية والوطنية وصولاً إلى الاعتمالات الاجتماعية التي تَشْغَبُ بها المدينة ناهيك عن أغراض شعرية قديمة كانت بيئته التقليدية لا تزال تحافظ عليها مثل المديح والرثاء والهجاء .. وقد أخذ منه ذلك الانغماس ست سنوات كاملة .. أفاده لناحية تحكيك صوته الشعري والسيطرة الكاملة على أدواته .. وأفاده لناحية ترسيخ اسمه الذي تجاوز المدينة إلى خارجها .. وصولاً إلى بداية النشر في الصحف .. بيد أنه حبس انهماراته في أنساق تقليدية مألوفة لا تسمح بالمغامرة .. و لذلك فإنه حين بدأ في أواخر تلك المرحلة يحتك بآفاق أخرى للكتابة يمارسها التسعينيون اليمنيون .. وكان ذلك عقب مجيئه إلى صنعاء نهاية عام 2001م .. شعر بصدمة كبيرة .. أحس بأنه ضل الطريق سنوات طويلة ..وأنه كان "غيمة على شمسه" – حسب التعبير الشهير لابن عربي- بدأ يراوده الشك والتوجس حيال ما يفعل ، ثم لم يمض عام وبضع عام حتى عبر دون وعي - ربما - عن موقفه تجاه تجربته بتقليص انهماراتها إلى حدود التوقف ..

قصائده من نوع : 
أول الفجر أرضع الليل نهدا ... وتوارى لأن صبحاً تبدّى 
فرض الحظر فوق بستان زهر .. وأقام الحصار للمرج سدّا
قال للنحل لو عصيتم كلامي .. فبهذا الحسام تفنون عدّا 
قال للورد والعبير يغني ... من تغنىّ يكون لله ضدّا 
وهي القصيدة التي قرر منتدى العمري سنة 2001م أن يقيم له بسببها أمسية صاخبة تحت عنوان " ميلاد شاعر " لم تعد تملؤ بالزهو عطفيه ..حتى عندما قدمها منتدى العمري سنة 2004م مع عشرين قصيدة من أخواتها لتصدر في مجموعة شعرية حملت نفس عنوانها " أول الفجر" لم يشعر بالاعتزاز بها .. كان المنتدى قدمها للنشر في غيابه ودون علمه ... فيما كان في سوريا قد توقف عن الكتابة منذ أكثر من عام .. مكباً على تجارب أخرى تنتجها بيئة إبداعية وثقافية مغايرة ... يقرأ لأدونيس وشوقي بزيع وعباس بيضون وبول شاؤول وخليل النعيمي وهاني الراهب .ويشترك في فعاليات كلية الآداب بجامعة دمشق .. كان وقتها لا يزال يكتب العمود ولكن بنفس مختلف .. و بشكل نادر ومقطر ..يوحي بأزمة مع هذا الشكل الذي طالما تبختر فيه . وبدا شبح الأزمة يلقي بظله على

أول نص عمودي أنجزه هناك : 
يا أول البوح يا عيد الرياحين ... ويا حديث رسول الماء والطين 
فهو لم يدخل إلى الكتابة إلا حين استدعى تجربة مماثلة من ماضيه :
أول الفجر أرضع الليل نهدا ..
أربعة أو خمسة نصوص عمودية حاول التعبير بها عن شغفه بالزخم الأنثوي الذي يترع المكان من حوله .. فيما هو حقيقة يقدم رجلاً ويؤخر أخرى توقاً لكتابة قصيدة نثرية يتمنى مداورتها لكنه يهاب .. بعد تجارب متعددة لم ترض طموحه وجد نفسه يكتب : 
الموتُ هو الموت
الموتُ الفلاحُ المتبرمْ
الموتُ الغسقُ المبذول
الموتُ خلاءاتُ مبذوله
الموت الرحلة ُ والثور
أغنيةُ الحبِ السوداء
أناقة شمشِ ذاهلةٍ
الموتُ متاهُ الياقوت
الموتُ خيالُ مكنون
مكنونُ في صدفِ الدهر

 

وقد راح النص الذي أكمله الشاعر بعد عودته إلى اليمن يداور موضوع الموت بلغة جديدة تفارق تماماً - في معجمها وتراكيبها وفي وعيها بالشعر والكتابة - لغته التي دار بها زمناً طويلاً في سماوات العمود ..
 

وهكذا فقد انبذرت في الشاعر بذور مرحلته الثانية قبل سفره مباشرة إلى سوريا وهناك تبلورت .. وأظنه قد أعلن هذا حين كتب : 
في قاسيون 
دفن ابن عربي 
وشيد لهُ ضريح
وأنا هناك 
أدفن خوفي 
أنتزع بعناية 
خيوط قلقي
أنثر ترانيمي 
زهرة زهرة
زهرة زهرة
إثر عودته من سوريا منتصف عام 2005م كان قد تغير كثيراً .. حفل العامان الأولان " 2006 – 2007 م " من دراسته في كلية التربية بفترة ازدهار شعري تعددت أشكاله بين نصوص نثرية وأخرى عمودية وتفعيلية ضمتها مجموعته " طائر أحمق " العنوان وحده حكاية ، أمّا المجموعة فتجلت ناضجة ومميزة وحافلة بالشعر :
قبل المجئ رأيتُ نجم هبائي
ورأيت دائرتي وحبر فنائي
قبل المجئ رأيتُ جرحي باهتاً
متعطشاً كحديقة جرداء
قبل المجئ رأيتُ ريشَ غريزتي
متساقطاً في غابة ملساء
قبل المجئ هزمت نفسي مرة
فوهبتها للدودة الزرقاء
قبل المجئ رأيتُ أشيائي التي
أحببتها ولذا أطلت بقائي
قبل المجئ سكنت داخل دفتري
وتركت إسطبل الوجود ورائي
ورأيتني من دون أي سواتر
ورأيت مائي صاعداً وهوائي
ورأيت مالي من مسراتٍ وما
لي من جنونٍ شاسع وغباء
ورأيتني ورأيت فأس طفولتي
ورأيت طمي النهر في أشيائي

 

نص " قبل المجيء " كان استهلالاً ذكيّاً للمجموعة .. التي ستشتغل كثيراً على خلخلة الأنساق الدلالية القارّة في ذهن المتلقي للأشياء اشتغالاً ثائراً ومصادماً كما في نص " الأشجار أمهات " : 
فتياتُ بلا أثداء
في طفولتي البائسة 
كنت أستلقي على
أفخاذها العارية
لم أكن أعلم
أن الرياح الصفراء
أفقدتها العذرية
الرياح الصفراء 
سربُ ..
من الكهول الزناة
شجر المريمرة الكالح
مصابُ بالأيدز 
النخلاتُ يمارسن السحاق
مع ذلك فمجموعة " طائر أحمق " لم تجد طريقها للطباعة .. بسبب مركزية النشر - على قلته - وتخلي المؤسسات عن وظائفها ناهيك عن التهميش المتعمد الذي يعانيه الشاعر بالبداهة نتيجة انتمائه لأكثر الأمكنة تهميشاً في اليمن .. غير أن الحشاش نفسه يتحمل بعض اللوم فمجموعة شعرية بهذا المستوى كانت تستحق تحمل المشاق وطرق الأبواب من أجل إخراجها للوجود .. وقديماً أعلن الشاعر الكبير حسن الشرفي – حين كان في بداية رحلته الأدبية - أنه مستعد للتغرّب من أجل أن يوفر المال لطباعة مجموعته الشعرية الأولى .. أما الحشاش فيبدو أنه كان يثبت مرة أخرى أنه " غيمة على شمسه " وأن همته في تقديم ابداعه أقل كثيراً من مستوى ذلك الإبداع ... وهنا لا بد من الإشارة إلى الحس الملامتي الذي يسم معظم أدباء وكتاب هذه البلاد .
فشل الشاعر في إخراج هذه المجموعة إلى النور .. ثم دخوله معهد خفر السواحل وانتماؤه إلى السلك العسكري ثم خوضه تجربة مؤلمة من أجل بناء عائلة خاصة .. عوامل ألقت بظلها مجتمعة على تجربته .. وأبعدته إبعاداً شبه كامل طيلة ثلاثة أعوام " 2009 ، 2010 ، 2011م "... سنوات الابتعاد عن الكتابة قطعته تماماً عن رحلة التوهج والنضج .. التي كان قد دشنها .
أما مرحلته الثالثة الممتدة من مطلع عام 2012م إلى اليوم " مارس 2015م " .. فقد تساقط مطرها وتكونت نطفتها من قصة حب عاشها بكل جوارحه ، وداس بها على كل خيباته ومررات قلبه .. قصة

 

من ذلك النوع الذي يخلق وينشىء ويملؤ الروح والعقل بالضياء والجمال :
شُق صدري فبان عن حقل حرفٍ ... ماد ملء الربى قطافاً شهيا
شُق قلبي فبان عن نهر حبِ ... جعل الله نبعهُ مريميا 
شقُ قلبي فبان عن أغنياتٍ ... منحتها السماءُ لحناً شجيا
شُق غيم المدى فأبصرتُ ذاتي ... أزهرت في المدى صواباً وغيا 
فعلي السلامُ في كل هجسٍ ... زارني خاشعاً وصلى عليا
وعلي السلامُ في كل معنى ... زارني مشرقَ الجبينِ بهيا
وعلي السلامُ في كل وادٍ ... رمتُ في ناره شذىً قدسيا
وعلي السلامُ والنخل يلقي ... رطب الحب في خيالي جنيا
وعلي السلامُ إن صرتُ ميتاً ... وعلى السلامُ مادمتُ حيا
شقُ صدري وكان عطرُ ملاكٍ ... يمنح الروح موعداً سندسيا
وإلى جانب القلب الوجداني العاطفي لهذه التجربة فقد تشكل جناحاها من شجون أهله في تهامة وكفاحهم ضد الظلم والقهر والتهميش ، ومن هموم وجودية كبرى خلّقتها التجارب والخبرات والقراءات ... لذلك هي أكثر مراحل تجربته الشعرية توهجاً ونضجاً وانفتاحاً على الوعي بالشعر والوعي بالذات من خلال الوعي بالمكان وناسه والوجود وقوانينه .
أنجز في هذه المرحلة مجموعته الأميز " القلعة البيضاء " وهي مجموعة تتجاور فيها الأشكال الكتابية بين نصوص نثرية وأخرى تفعيلية وعمودية .. لكن الأهم من ذلك أنها نصوص تمتلك رؤية مختلفة للعالم .. ثمة أزمة وجود على أكثر من مستوى ..على المستوى الذاتي ..كانت زيارة الشاعر لصديقه القديم الثائر محمد الجبلي قبل يوم من رحيله بمثابة الشرارة التي اشتعلت بها حرائق المجموعة .. موت الجبلي أجج السؤال في داخل الحشاش : لا ثقة في هذه الحياة .. وعلي أن أترك أثراً حقيقياً " .. وهنا بدأت رحلة المبادلات :
في القلعة البيضاء 
أكتبُ ما أشاء من القصائد 
باتساع البحر
أكتبُ 
باتساع الرحمة الخضراء 
برعمها
استقر على سريري
وأتت براعم أثرهُ 
تصغي إلي
ثم استقرّت..
فوق قنديلي المضاء
على الوسادة
في فلج أسناني
استقر
هسيسها المائي .......
بادلت الغيوم
بنجمة الصحراء
بادلت السواد
بزهرة بيضاء
بادلت الغياب
بما استطعت من الحضور
بادلت القراصنة 
الذين يجدفون بزورقي
بالتائهين
بادلت الزمرُّد
بالنحاس
بادلت فنجاني
بقنديل البحار

 

في نفس الوقت فإن رحيل الثائر محمد الجبلي لم يكن رحيل صديق عادي .. ولكنه كان رحيل التهامي الاستثنائي .. التهامي الذي أشعل جذوة المظلومين .. دفعهم ودفع بهم لرفع أصواتهم .. فقد رفع صوته من أجلهم قبل أن ترتفع أصوات اليمنيين جميعاً في تهامة وغيرها بعدة سنوات .. وربما أن هذا كان كامناً في وعي الشاعر حين انضم للحراك التهامي و أصبح صوته الصوت الشعري الأبرز فيه .. 
 

عديد القصائد في مجموعة "القلعة البيضاء " وخارجها .. تبلجت على صفحات ذلك النضال ..لم تكن عظمتها في امتلاك أدواتها حد الكمال فحسب بل كانت عظمتها أيضاً في قدرة الشاعر على اكتناه خصوصية المكان وناسه .. فحضر التصوف ببذخه الدلالي وحضرت الرموز التاريخية والدينية والإنسانية .. وحضرت البيئة وجيراننا فيها .. وشكلت النصوص أكوانا موازية تعبر عن العذاب والألم والشجى .. وتعبق بالشجن ونوستالجيا الحنين ، و تعبىء الجماهير بالغضب والسخط على كل شيء ومن أجل كل شيء .. فلم يكن ثم شيء في تهامة لم يسحق ، في هذا السياق كتب " معلقة الروح العظيمة لتهامة .. فتيني جنيد " وكتب " أطفال دهنه " وكتب غيرها ..
 

****
 

ليس هذا كل ما يمكن أن يقال عن تجربة الشاعر أيوب الحشاش .. فهذه المقاربة الطويلة نسبياً لرحلته في الحياة وتجربته مع الشعر – قياساً بمقاربات أخرى لتجارب بعض زملائه في هذا الكتاب- لا تشكل إلا علامات لمسيرته التي أخنى عليها الواقع اليمني فكانت تبرز بشكل يطغى على كل ما عداه في نطاقات محدودة .. وتُظلم حتى لا يكاد يعلم عنها أحد على نطاقات الوطن ، وفي قلب المركز حيث يمكن لها أن تُقدر نقدياً ، ولصاحبها أن يحظى بناءاً على تقديرها ببعض المكاسب .. ويبقى الحشاش تجليا آخر للملامتية الذين يحفل بهم هذا الكتاب .. وإن كان - أيضاً - يظل بطريقة تعامله مع موهبته الرائعة .." غيمة على شمسه " .

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً