الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
لعبة الزمن في "ذكريات المستقبل" لصلاح والي - منير عتيبة
الساعة 14:03 (الرأي برس - أدب وثقافة)

 

قليلة هي الروايات التي تخسر الرهان إذا راهنت نفسك على تلخيص حكايتها، فالحكايات أشخاص وأحداث وأزمان وأماكن، والمأساة التي تحاورها وتناورها وتحللها رواية صلاح والى (ذكريات المستقبل- المجلس الأعلى للثقافة 2014) أكبر من أن تكون مجرد حكاية.

 

لا يراهن صلاح والى على كتابة الرواية بقدر ما يراهن على الوعي بالكتابة ذاتها من حيث هي موضوع، ومن حيث هي تقنية، ومن حيث هي موجهة إلى قارئ يجب أن يتحلى بدرجة من الوعي هو الآخر تؤهله للتحاور مع البنية المعقدة للرواية، فكتابة (ذكريات المستقبل) هي فعل عقلاني يقف الكاتب على مسافة منه بذهن حاد الوعي والقسوة معًا ليحاكم ما يكتب عنه، ويسائل ما يكتبه، ويطلب من القارئ أن يفكر معه ليحاول أن يغير نتائج الماضي إن يكن من المستحيل تغيير هذا الماضي ذاته، وهى اللعبة الرئيسة في الرواية؛ لعبة الزمن.

 

فالرواية تتحدث عما هو ماض بالنسبة للقارئ باعتباره مستقبل السارد، والكاتب يظهر باسمه صلاح والى باعتباره مؤلف رواية (سقوط الملائكة) التي يقرؤها السارد، ليتماهى مع صلاح صديق السارد في النضال وفي القرية، والذي يرتب كل شيء، فكل الحكايات غامضة، وكل الحكايات مرتبة أيضًا، مما يجعل القارئ لا يستطيع الإمساك بحكاية متماسكة إلا إذا أعاد هو بنفسه بناء هذه الحكاية وفقًا لقناعاته هو، إذ إن الزمن الرجراج الذي نقسمه قسرًا إلى ماض وحاضر ومستقبل ما هو إلا لحظة آنية ممتدة تتداخل فيها هذه الأزمنة الافتراضية، فيصبح الوقوف على الفواصل الغامضة وغير الحقيقية بين اللحظات الثلاث هو التجربة الأكثر إثارة ووضوحا وغموضا في الرواية، وهى نفسها التي تورط القارئ ليستجلي فكرة الزمن فيها، ويستجلي زمنه هو الخاص عندما يضعه في مواجهة الأزمنة التي يلعب بها الكاتب، زمن الكتابة، زمن الحكي، زمن الحكاية، زمن السارد، زمن القارئ إلخ.

 

تشغل الكاتب فكرة الزمن بشكل أساسي باعتباره الوعاء التي تدور الأحداث فيه، وباعتباره موجه لها بشكل ما، لذلك يحرص على توضيح فكرته عن الزمن في أكثر من موضع من الرواية، في صفحات، فهو يقول مثلا: "لا تسأل فالزمان عندك ليس مختلفًا ولكنه أهليجي كالفلك ومداراته، ففي اللحظة الواحدة ترى قطاعات مختلفة من الزمن والأحداث كأنها طبقات جيولوجية، وأنت أخذت قطاعًا منها.. فأنت ترى نفسك والآخرين بسرعة خاطفة عبر قطاعات زمانية مختلفة ومتعاقبة لا يربط بينها إلا روح المسار/المصير/فيما مضى وما سيأتي" ص80و81.

 

ويقول: "عندي سبعة وعشرون عامًا، أعرف ما سيحدث لي لمدة مائتي عام قادم، وكذلك مصائر من حولي" ص82. "وتجد نفسك في داخل المشهد تتحرك، وتصبح متصرفًا مستقبليًا بشكل سابق المعرفة، وأنت تعرف كل ما فيها، لكن لا تتذكره إلا ساعة حدوثه" ص106.

 

شخصيات الرواية فاعلة بشكل أو بآخر في تسيير دفة أحداث كثيرة، معظمها سرى ومخابراتي لكن له أثر ويتأثر أيضا بالأحداث الكبرى كهزيمة 67 وحرب 73 والقضية الفلسطينية بتداعياتها خلال نصف قرن، والحرب الأهلية اللبنانية إلخ.. لكن الطريقة التي يقدم بها الكاتب شخصياته كأنها كتلة من هلام تتحرك في وسط ضبابي هي التقنية التي يوصل بها للقارئ فكرته عن غموض أحداث هذه الفترة وعدم القدرة على فهمها وتحليل نتائجها حتى لمن ينخرطون فيها فما بالك بالذين يتلقونها كأخبار، وذكر الكاتب لنفسه ككاتب روائي تقرأ له إحدى الشخصيات رواية ما حيلة أخرى ليؤكد أنه شخصيا خارج هذا السياق فلا يسأله أحد عن تفسير ما لا يمكن تفسيره.

 

ثم يعود ويطلق على شخصية رئيسة محركة لكثير من الأحداث اسمه نفسه وكأنه يؤكد العكس وهو تورطه في الأحداث غصبا عنه، وهو هنا يضع القارئ في موقعه الملائم حيث أنه على المستوى الواقعي متابع ومشارك بشكل أو بآخر للأحداث التي تتناولها الرواية، وعلى المستوى المعلوماتي يفتقد الكثير من الحقائق والمعلومات التي لم تزل مخفية وغامضة حتى الآن، وهى الحيرة التي يبدو أنه يصعب الخروج منها ولن يكون أمام القارئ والكاتب إلا حدة الوعي لإعادة تشكيل ما كان، وإعادة ترتيبه منطقيا، لمحاولة سبر غوره والتعرف على أبعاده وأعماقه ونتائجه لعل ما هو قادم يكون أفضل مما مضى.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً