الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
التكثيف وتجلياته في دوائر الدهشة للقاص حسن بواريق - مصطفى لغتيري
الساعة 14:06 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)


مع بروز جنس القصة القصيرة جدا أصبح الحديث متواترا عن"التكثيف" كألية كتابية مستحبة لدى مبدعي هذا النوع من الكتابة، خاصة وأن كثيرا من النقاد اعتبروه ركنا ركينا في كتابة هذا الجنس الأدبي الوليد، وقد تعددت مفاهيمه وتسمياته لدى النقاد، بل واختلف بعض منهم في تحديد تعريف له، إذ منهم من آثر استعمال مصطلح الاختزال، ومنهم من فضل الإيجاز انسجاما وإخلاصا للنقد العربي القديم، الذي راج فيه هذا المصطلح، وعده البلاغيون من وجوه البلاغة والفصاحة، ويمكن تعريفه ب" أداء معان كثيرة بأقل عدد ممكن من الألفاظ".
 

وقد جاء ذكر التكثيف في أرجوزة القصة القصيرة جدا التي نظمها نبيل المرجلي، ووردت في كتاب د يوسف حطيني" القصة القصيرة جدا بين النظرية والتطبيق":
سرد قصير متناه في القصر 
كالسهم بل كالشهب تطلق الشرر 
قد ميزتها خمسة الأركان 
حكاية غنية المعاني 
وبعدها يلزمها التكثيف 
ووحدة يحفظها حصيف 
واشترط الناس لها المفارقة 
وأن تكون للحدود فارقة 
وجملة فعلية، بها كمل 
بناؤها، وحقه أن يكتمل. 

 

وقد استعمل النقاد والبلاغيون واللغويون مصطلح الإيجاز بعبارات مختلفة، وظهر ملموسا في الخبر والمثل وآيات القرآن الكريم وغيرها. كما لمعت في هذا الاتجاه عبارة البلاغي الكبير عبد القاهر الجرجاني الذي عبر تعبيرا مجازيا جميلا عن البلاغة حين اعتبرها" إجاعة اللفظ وإشباع المعنى" كما أن المتصوف النفري أطلق عبارة سارت بذكرها الركبان، توحي بهذا المعنى حين قال" كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة"، فلا أفهمها سوى أنها تدل على أن اتساع الحكمة في عقل الأدب والمفكر، تجعله يعبر عنها فيما قل ودل، حتى وإن اعتبر البعض أن العبارة تدل على أن اللغة قاصرة عن تمثل شساعة الفكرة، فيما اعتبر الآخرون أنها دعوة للصمت أمام جبروت الفكرة وقوتها.
 

والتكثيف ليس مفهوما مجردا بل ملموسا، يتمظهر ويتحقق وجوده من خلال تقنيات معينة، كما سنلاحظ من خلال نماذج من المجموعة القصصية "دوائر الدهشة " للمبدع حسن بواريق، وقد حصرناها فيما يلي:
 

- اللغة:
 

إن التكثيف كأسلوب كتابة يبرز أكثر ما يبرز في لغة الكاتب معجما وتركيبا وأساليب، فالكاتب الحادق يتخير ألفاظا بعينها لأنها تغنيه باستعمالها عن كلمات عدة، فمثلا عبارة"لوحدهما" التي افتتح بها الكاتب قصة "عربون صداقة، تكتنز في ثناياها كثيرا من الكلمات المضمرة، كان من الممكن للكاتبأان يجود بهما إذا ما كان القصد كتابة في جنس آخر غير القصة القصيرة جدا، كما أن هذا التكثيف يظهر بملامحه بارزة في تركيب الجملة التي تنحو في القصة القصيرة جدا نحو الاختزال والضمور والرشاقة، مستغنية عن النعت والعطف والحال إلا للضرورة القصوى، يقول القاص في قصة"احتجاج" الصفحة 23:
"على مائدة وطنية، أضرب الزيت والدقيق عن الطعام، تنديدا بارتفاع حرارتهما".

 

-الحذف:
 

وهو من التقنيات الرائجة في الكتابة الحديثة عموما والقصة القصيرة جدا على الخصوص، إذ يعمد القاص إلى استعمال نقط الحذف بأشكال متعددة أهمها استعمال النقطتين المتتابعتين، ولعمري يعد ذلك دعوة للقارئ من قبل الكاتب للمشاركة في بناء دلالة القصة، حتى يتخلص من سلبيته، ويكتسب صفة القارئ النموذجي، الذي لا يكتفي باستقبال المعنى بل يساهم بشكل فعال في بنائه، يقول القاص في قصة"لوحة": 
"وقف طويلا يتأمل لوحة لحمامة وديعة تحمل غصن زيتون..فكك البرواز.. قص الخلفية.. طارت الحمامة.. صوب فوهة بندقيته نحوها.

 

- الشخصيات
 

ووعيا منه بضيق مجال قصته، يستغني كاتب القصة القصيرة عن ذكر أوصاف الشخصية، وتحديد ملامحها الفزيولوجية والنفسية، بل يكتفي بالتلميح والإشارة وغالبا ما يشيح النظر حتى عن الاسم أو الصفة أو تدقيق الهوية، ويعمد الكاتب بالمقابل إلى استعمال الضمير فقط، ولعل ذلك يعد من آليات تحقيق التكثيف كذلك، وهذا ما لاحظناه في عدد من قصص دوائر الدهشة، ومنها "مأتم- تكريم- زغرودة...وغيرها"، يقول القاص في قصة "تكريم":
"حملوه إلى حفرة وانفضوا.. كانوا كرماء، منحوه ثوبا ناصعا وقنينة عطر..."

 

- الزمان والمكان:
 

من الألية التي فطن لها كاتب القصة القصيرة من أجل تحقيق درجة علية من التكثيف إهمال الزمان والمكان، فتبدو القصة نتيجة لذلك غير مرتبطة بحيز معين أو فترة معينة بل صالحة للتعبير عن كل زمان ومكان، وحتى حينما يضطر كاتبها لذكرهما فإنهما غالبا ما يكونان زئبقيين، لا يحيلان على زمان ومكان بعينهم وكأنهما أصبحا والرمز سواء بسواء، ومن نماذج توظيف الزمان ما جاء في قصة" حكاية" الصفحة 14:
"في الليلة الثانية بعد الألف..."
أما زئبقية المكان فنبرهن عليها بنموذج من قصة كرامة الصفحة17 التي يقول فيها القاص:"هناك في السماء..."

 

-الرمز:
 

يعد توظيف الرمز من الآلية المستحبة لتحقيق التكثيف في القصة القصيرة جدا، فقد يغني رمز واحد بحمولة معرفية وإيديولوجية كبيرة عن صفحات من الكلام، وهذا ما انتبه له المبدع حسن بواريق في كثير من قصصه، فنجده مثلا قد رمز الشمعة في قصة جبروت، التي يقول فيها:" كانت الشمعة تسير أمام جحافل من التائهين، تقودهم منيرة لهم الطريق تحت أشعة الشمس... عاكستها ريح صرصر عاتية... خبأت شعلته...فحل الظلام في واضحة النهار."
كما اعتمد على رمزية الحرف في قصة "رقابة " الصفحة15
التي يقول فيها:
" في حركة لولبية، أفلت الحرف من قبضة المقص... قبل أن يستدير، عبثا حاول البحث عن كلمات تأبين للجمل المشنوقة".

 

وقد اتخذ التكثيف أشكالا عدة، وعبر عن نفسه من خلال تقنيات متنوعة، منها ما هو مباشر ومنها ما هو غير ذلك كالتناص واستدعاء شخصيات جاهزة من التراث كشهرزاد مثلا،والإشارة إلى أحداث تاريخية بعينها تغني القارئ عن ذكر التفاصيل لأنها معروفة لديه. 
 

كل ذلك وغيره مما يجل القصة القصيرة جدا فن التكثيف والاختزال، فن إجاعة اللفظ وإشباع المعنى، أو فن ما قل ودل بامتياز.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً