الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
فؤاد نصر الدين في "شق قدم" - محمد الغربي عمران
الساعة 12:33 (الرأي برس - أدب وثقافة)


التقيت به في أحدى ندوات مختبر السرديات.. في مكتبة الإسكندرية 2013.. ثم التقينا في عدة جلسات ضمت أصدقاء من أدباء إسكندرية.. منهم الروائي منير عتيبة.. القاص شريف عابدين.. الناقد شوقي بدر يوسف .. الشاعر العراقي عذاب الركابي والروائي محمد عطية محمود. وأصدقاء آخرين لا يتسع المجال .
 

دوما يلفت انتباهي حضوره.. فهو كثيرا ما يتحدث عن مشاريع أدبية .. وإصدارات تجمع إبداعات من مختلف الأقطار العربية .. وهكذا ما أن يحضر حتى يحدثنا عن أفكار التكامل والتعاون.
فؤاد نصر الدين ناشط مثمر .. يحتل مساحة في القلب بحماسه وجمال تعامله .ناشط ثقافي متميز.. له عدد من الإنجازات الثقافية الجمعية. لا مجال هنا لذكرها. وما أردت مماذكرت أن أبدأ بمدخل للحديث حول أحد إصداراته السردية" شق قدم". مجموعة قصصية ضمت اثنان وثلاثين نصا. نصر الدين أختار لهذه النصوص ثلاثة محاور. منها الواقعي وهي النصوص التي تشعر المتلقي أثناء قراءته بأنه يقرأ حول شخصيات يعرفها في حية أو كثيرا ما يصادفها في شارع حين يسير فيه .. في مجتمع هو مجتمعه .. ومن تلك النصوص نذكر العناوين التالية: شق قديم, شق كعبك, شق جدار, تحرش, انتظار العاشق, أنا وأنت, حلاق ومصوراتي, اسكتش, النعي, امرأة على المصعد, افتحي الباب. وغيرها. أي أن الكاتب يلتقط شخصياته من محيطة وممن يعرفهم.. ثم ينسج نصه بشكل مشوق كمن يرسم بالمفردات لوحات حكائية جميلة.

 

ومحور ثان ل يشابه في مواضيعه ولا شخصياته ما ذكرناه .. حيث يأتينا بنصوص تقل فيها الشخصيات ويغيب في بعضها المكان والزمان.. ليحاور أو يناجي الكاتب نفسه.. حيث يغوص فيما يشبه التداعيات مع الذات.. هي حالات نفسية يمزجها بفلسفته ورؤيته للحياة والوجود والعلاقات مع محيطة.. ومن تلك العناوين: هستيريا , المفقود, دمعة حب متهشمة, البحث عن الرؤية, البحث عن دائرة الضوء الذهبية . وغيرها من النصوص. التي يجد القارئ في مساحة من السرد لحالات تدور بين الكاتب ونفسه.
 

والمحور الثالث.. التقاط الفكرة من واقع الكاتب .. ليصيغ نصوصا شخصياتها ممن حوله .. ثم يثب الكاتب بالمتلقي محلقا به إلى أفاق من الخيال الساحر المدهش. ما يجعلنا نتساءل: هل من كتب هذه النصوص هو من كتب النصوص السابقة؟ في الأخيرة يحلق مازجا بين الواقع ولا واقع.. نصوص ثرية بالدلائل والمعني والرموز. ومن تلك العناوين: شبيك لبيك, سقوط الشيب, رأس مثلج, الأنثى والصياد, رجل على الحائط, قبلات الأمس, أمي. وغيرها من النصوص المدهشة. وهكذا يجد المتلقي نفسه متنقلا بين نصوص متنوعة في الأسلوب والمواضيع.. ليعيش متعة حقيقية في اختلاف أساليب الكاتب وتنوعه الشيق .. يغترف من تجربته الثرية ليصطحبنا إلى مجاهل مشوقة.
 

 

وفي هذه المجموعة تباينت أحجام النصوص.. فالملاحظ أن أقصر نص لم يتجاوز الربع الصفحة, بل لم يتجاوز الأربعة أسطر.. بينما تجاوز أطول نص فيها الخمس صفحات . فمثلا أثنى عشر نص أحتل كل منها نصف صفحة, وسبعة نصوص أستقل كل نص منها في صفحة. وخمسة نصوص صفحة ونصف لكل نص. وبقية النصوص بين صفحتين إلى الخمس صفحات. وما ذكرناه عن قصر أو طول تلك النصوص لنوضح أن الأفكار التي عالجها الكاتب لم تتأثر بالقصر أو الطول. فمواضيع تلك النصوص عولجت بتكثيف للغة ما يلفت انتباه القارئ للقدرات التي يمتلكها الكاتب.. عدى اختلاف عدد الشخصيات من نص قصير إلى الأطول منه.. فالقصير جدا لم يتجاوز الشخصية الواحدة إلا نادرا.. وكلما زادت مساحة النص زاد عدد شخصياته.. أما المكان فيتعدد في النصوص الطويلة نسبيا.. وكذلك تتشظى الأحداث وتتشعب فيها.
 

وذلك ينسحب على شخصيات النصوص التي يعتمد في معظمها كما ذكرنا على شخصية أو شخصيتين.. وتزداد الشخصيات حسب طول النص. وبالعودة إلى عدد شخصيات النصوص نجدها كما يلي: خمسة عشر نص أنفرد بها الذكور.. وعشرة نصوص شخصياتها ثنائية.. وفي الغالب امرأة ورجل فقط, , وثلاثة نصوص امرأة وأكثر من رجل.. ونادرا ما تكون شخصية المرأة منفردة.
ما ذكرناه حول الشخصيات.. وعددها.. وجنسها من نص إلى آخر.. للتدليل على أن الرجل في نصوص المجموعة يمثل الأغلب.. وأن المرأة قليلة نسبة للرجل ..كما أن أدوار الرجل متسلطة ومسيطرة.. وأدوار المرأة غالبا ما تكون ضحية ومُستغلة أو منكسرة. وتلك النصوص تعكس الحياة المتراجعة في مجتمعاتنا التي لا زالت تسير برجل واحدة. وترى الحياة بعين واحدة.

 

ولذلك نجد أن الكاتب في نصوصه قد عالج في جلها قضايا اجتماعية.. بل وركز في عدد منها على العلاقات العاطفية.. بين الرجل والمرأة.. يظهر فيها الرجل كائن متسلط وشهواني.. وتظهر المرأة منكسرة تعاني من الإهمال والحرمان العاطفي.. ومن النصوص التي عالجت ذلك: زواج على الأنتر نت, امرأة في المصعد, افتحي الباب, أنا وأنت, تحرش, قبل الأمس, شق قدم , شق كعبك, وغيرها من النصوص التي تمحورت حول قضايا مجتمعية.. كما سلطت بعضها الضوء على العلاقات الأسرية مثل النصوص التالية : لن أتركك وحيدا, حقيبة الماكياج, رجل على الحائط, وغيرها. 
 

أما الجوانب الفنية .. نجد أن الكاتب نسج معظم تلك النصوص وقدمها على شكل مشاهد سردية.. وضعا بصمته الخاصة. فنحن نعرف بأن القصة التقليدية تتكون من ثلاثة أجزاء البداية والوسط "العقدة" ثم الجزء الأخير النهاية أو "التنوير".
 

كاتبنا قدم لنا هنا معظم نصوصه أيضا في ثلث لوحات سردية .. أو بالأصح في ثلاث مشاهد.. لكنه خالف الأسلوب التقليدي باعتماد المشهدية .. وهو بذلك مارس نوع من التجريب في شكل النص .. حين أستبدل السرد العادي بالمشهدي.. هي لوحات وصفية أو مشاهد مسرحية. متكئا على ما يمتلكه من قدرات الوصف المدهش. فمثلا نجد أن المشاهد الثلاثة لبعض النصوص مكتملة.. مثل نص بعنوان امرأة في المصعد, يصف لنا الكاتب المشهد الأول ومكانه المصعد.. حيث يلتقيان ..هي موظفة في إحدى المؤسسات بنفس الطابق المجاور لعمله.. يلحظ جمالها وأناقتها يتساءل عمن تكون .. يمد يده يلامس كفها دون أن يلحظ من حوله.. المشهد الثاني.. على نفس المصعد.. ولم يكن أحد غيرهما عليه. هو ضغط على زر الصعود إلى الدور العلوي.. وهناك فتح الباب وتركه مفتوح.. ليظلا عالقين بين الأرض والسماء .. لم تقاوم حين أقترب يقبلها.. يحتضنها.. غرقا في شبقهما لبعض الوقت.. حتى إذا ما سمعا اصواتاً من الأدوار السفلية "أقفل الباب حتى يهبط المصعد إلينا" تردد النداء لمرات.. كمن عادا من غيبوبة .. نهضت رتبت هندامها.. شعرها.. بدوره ضغط زر الهبوط. المشهد الثالث فتح باب المصعد على عيون كثيرة تتساءل وهمس يحاصرهما.. لكنهما شقا طريقيهما وأتجه كل منهما في اتجاه مختلف.. ولم يلتقيا بعد ذلك اليوم. وهكذا هي نصوص المجموعة .. حين يرسم الكاتب حدود مشاهده لينتقل المتلقي من مشهد إلى آخر بتشويق وسلاسة. 
 

نصوص أخرى ينسجها الكاتب من مشهدين تاركا المشهد الثالث لخيال المتلقي.. مثل نص بعنوان معا على الشاطئ .. المشهد الأول فتاة تناظر السماء .. تتابع الطيور المحلقة.. تحلم بأن تحلق على جناحي أحدها.. ترى نفسها وقد حملها طير كبير.. هنا يصف لنا الكاتب أحلام الفتاة .. ومشاهد ورواد الشاطئ.. وطيور محلقة في مشهد يسمع فيه المتلقي ضجيج المسطافين.. وتتابع مسامعه أمواج البحر.. ومنظر تلك الطيور. تشعر الفتاة بالوحدة في الأعالي .. فيعود الطير بالفتاة إلى الشاطئ .

المشهد الثاني تراه يأتي فاردا ذراعيه شاقا وسط حشود المصطافين .. يهلل وجهها بالفرحة وقد أحتضنها.. يجلس على جوارها يحدثه عن أحلامه بأن يطير بها عاليا في الفضاء.. تغيب عن وجهها البسمة .. تنظر إلى البحر وضجيجهم حولها..تحدثه بأنها لا تود الفضاء.
 

المشهد الثالث يتركه الكاتب لخيال المتلقي.. ينسجه بعد أن وقف الشاب مندهشا من رفضها للتحليق معه عاليا.. تسحب يديها من بين يديه: لا أريد الصعود إلى الأعلى, فقط أريدك معي على الأرض.. أن أكون جوارك ومعك.
 

وهنا يمكننا مشاركة الكاتب في تخييل المشهد الثالث الذي يمكن لكل متلقي أن ينسجه في سياق رؤيته لما يمكن عليه أن تكون نهاية هذا النص.. والنصوص المماثلة في هذه المجموعة. معظم تلك النصوص لم تتجاوز الصفحة. أما النصوص التي شغلت عدة صفحات.. فقد شكلها الكاتب أيضا في ثلاثة مشاهد .. إلا أن كل مشهد أحتوى على عدة مشاهد صغيرة أو جزئية.. وبذلك حافظ الكاتب في كل نصوصه على تكوين كل نص من ثلاثة مشاهد وصفية مدهشة.
 

ونأتي على مثال لتلك النصوص الطويلة نسبيا .. مثل نص بعنوان افتحي الباب. محور النص زوجة شابة يغادرها زوجها إلى أرض المهجر.. يتركها وحيدة وطفل حديث الولادة.. لم تمر أشهر حتى أعيتها غلمتها.. صبي من الجيران دوما ما تستعين به لجلب مشترياتها من السوق.. الصبي يشاهدها من فرجة الباب على السرير تتلوى.. يثور جسمه لما يشاهد .. يكتشف لأول مرة أن ما يراه يثيره.. يستمر في التلصص.. يطرق الباب.. تفتح له.. تعامله كصبي قاصر.. لكنه يفاجئها بكلام الكبار.. تحتضنه.. تمدده جوارها.. يستفيق طفلها بالصراخ.. تقف مذعورة.. تطلب من الصبي أن يكتب جواب لزوجها "الحق بزوجتك قبل أن تسقط في البئر" تلك المشاهد المتلاحقة التي توزعت على ثلاثة مشاهد رئيسية .. أحتوى كل مشهد على مشاهد في إطاره .. النص أربع صفحات ونصف. وهكذا شكل نصر الدين بقية نصوصه الطويلة .
 

في مجموعته شق قدم .. يحاول الكاتب التمرد على الأنماط التقليدية.. معتمدا المشهدية الوصفية .. والبوح أو التداعي الداخلي لكائن مأزوم . كما أستخدم الرمز في عدد من نصوصه.. بادئا بعنوان المجموعة شق قدم الذي يوحي بثغر الحياة ولذة الكائن الحي. وهكذا ضمن الرمز في عدة نصوص .. كما أن نصوصا أخرى تحمل في سياقاتها العديد من الدلالات التي تثري الموضوع.
فؤاد نصر الدين له العديد من الإصدارات السردية .. وهو من القلائل ممن يشجعون المرأة ويأخذون بيدها خاصة في مجال الإبداع.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً