الخميس 28 نوفمبر 2024 آخر تحديث: الخميس 28 نوفمبر 2024
القرية المنسية - محمد سلطان اليوسفي
الساعة 15:33 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 

 

القرية قابعةٌ فوق ربوةٍ شامخة ، تحيط بها سلسلة جبالٍ عالية ، سنواتُ الحربِ والجوع نصبت خيامها فوق هذه القرية .

فهذا العام ارتفعت فيه اسعار مختلف السلع بسبب محا صرة المدينة من كل المداخل ، هزاع بائعُ الملابسِ الوحيد في القرية لم يدخلِ المدينةَ منذ أن بدأت الحرب ، دكان الملابس هو مصدر رزقه الوحيد  الذي يعول به أسرته ،  يتابع اخبار الحرب باهتمام بالغ ويترقب الفرصة حتى يتمكن من الدخول إلى المدينة لشراء الملابس ، بعد ذلك لا يهمه المدينة وإن احترقت ، كلما يربطه بمدينته هو تلك الملابس التي يعود بها إلى القرية .

أغلق هزاع دكانه بعد خلوه تماماً حتى من ابسط الاشياء ، باع كل ما تبقى فيه وهو ينتظر أن يرتفع الحصار عن المدينة ، وبينما هو يمشي في طريقه إلى منزله اعترضته مجموعة من نساء القرية قائلاتٍ بصوت واحد يا هزاع العيد اقترب ودكانك لا يزال فارغاً  اجاب هزاع وقد علت على وجهه ابتسامة مصطنعة قريباً إن شاء الله ، عاد إلى بيته وفي رأسه تدور الاف الفكر كيف سأستقبل موسم العيد ، وتذكر كم مرة كان يدخل إلى المدينة في الموسم لإحضار الملابس لأهل القرية ، بدأ هزاع يفرك شعر رأسه مصغياً لأفكاره ،  فُتح البابُ فجأة ودخلت عليه زوجته ، لم يعرها أي اهتمام إذ ظل سابحاً في عالم من الافكار ، لكن زوجته بادرته بالسؤال : هزاع متى عاد با تدخل المدينة ؟ هزاع يلتفت إليها مجيباً قريباً إن شاء الله

يا هزاع أهل القرية أزعجوني كل يوم يسألوني هزاع دخل المدينة أم لا ، وأولادك يا هزاع بدون ملابس للعيد ، وأولاد اخيك ما تنساش السنة كسوتهم عليك ، أبوهم قتل في المدينة وهو طالب الله عليهم الله ينتقم ممن قتله ، واجهشت بالبكاء ، وتذكر هزاع اخاه فازداد حزنا وغيضاً ، وتمتم قائلاً أخي أخي  الله يرحمه ،  وارتسم الحزن على وجه هزاع ، وأطبق الصمت على الغرفة .

فجأة تمر طائرة وقد اعتاد الناس سماع الطائرات لكن هذه المرة كان صوتها قوياً لدرجة أن نوافذ ذلك الدار القديم اهتزت محدثةً صوتاً ايقاعياً يبدو أن الطائرة هذه المرة ستضرب في مكان قريب من القرية .

الصغار  في ملعبهم الترابي يتقاذفون بالحجارة تارةً وتارةً تتعالى أصواتهم بالشتائم والسب لبعضهم البعض ، وأثناء مرور الطائرة في سماء القرية يجمعهم شعور واحد ، يحملقون بأعينهم نحو السماء واضعين أكفهم فوق اعينهم ويصيحون بصوت واحد مريااام مريم ، يطغى صوتهم على صوت الطائرة ثم يختفي صوت الطائرة تدريجياً ويعود الصغار إلى الانهماك في اللعب مرة اخرى  هذا هو حالهم كل يوم .

الشمس تلقي نضرتها الاخيرة على القرية لتختفي بعد ذلك في احضان السحب المتراكمة ، معلنةً قدوم الليل .

أخيراً قرر هزاع أن يذهب إلى المدينة  ،أمر زوجته بأن تجمع له مستلزمات السفر ، ونام ليلته تلك وهو يفكر كيف ومتى سيصل إلى المدينة ، ولما طلعت الشمس معلنة قدوم يوم جديد استعد هزاع للخروج ، ناولته زوجته أغراض السفر قائلة له ما تنساش  وصلة القماش اخيطها للعيد ثوباً ، هز رأسه موافقاً ومشى باتجاه رأس النقيل ، استقل سيارة اجرة ، انطلقت السيارة مسرعة تتلوى في قمم الجبال الشاهقة ، اقترب هزاع من المدينة والخوف يلفه لفا ، طلقات الرصاص المتقطعة أثارت في نفسه القلق ،  اخيراً وصل هزاع إلى المدينة بعد جهد جهيد ومغامرات مع الطريق المحفوف بالمخاطر وصل المدينة ولكن ليست تلك المدينة التي تستقبله كل مرة ، إنها مدينة اشباح ، تذكر المنزل الذي كان يجلس فيه اخوه والذي كان يستقبله فيه ، لكن هذه المرة من سيستقبله سوى اصوات الرصاص والمدافع .

هزاع في شارع جمال يلتفت يمنة ويسرة فلا يرى شيئاً يؤنسه ، اخذ يذرع الشارع طولاً وعرضاً ، لم يقرر بعد أين ينام ليلته تلك ، ومع هبوط المساء على المدينة تشتد وتيرة المعارك  وتزداد ضراوة ، استقرت فكرة في رأس هزاع أن يذهبَ إلى سوق الجملة وينام هناك عند أحد التجار المعروفين  وصل السوق وقد أغلقت العديد من المحلات ولم يبق منها الا القليل ،  استقبله صاحبه بترحاب وفرش له فرشاً واخذ يسأله عن القرية باهتمام ، ودخلا في حديث طويل عن أوضاع البلاد وحالها ، قاطعهم دوي انفجار قوي سقطت بعض رفوف المحل من شدته ، فزع هزاع من ذلك الصوت لكن صاحبه اعتاد سماع هذه الانفجارات فما عاد يكترث لسماعها ، ذهب صاحب المحل لإحضار العشاء من المطعم وترك هزاع في المحل . هزاع أخرج من جيبه علبة سيجارة فضل أن يشرب سيجارته أمام المحل ، أمتص سيجارته بشراهة وهو يحدق في الظلام ولا شيء يضيء سوى فتيل سيجارته  ، الموت يحيط به من كل مكان ، لم يمهله يكمل ما تبقى من سيجارته ، طلقٌ ناري أصابه في الرأس ، تخبط هزاع في دمائه وخر جثةً هامدة .

عاد صاحبه مسرعاً يحمل العشاء بين يديه ، فوجئ بوجود جثة امام محله ، في البداية لم يكترث من وجود هذه الجثة ، كان يضن أن أحد المجانين قد نام أمام المحل ، اقترب من الجثة فرأى وجه هزاع وهو يغوص بالدماء فصاح صيحة رددت الجبال صداها ، تجمع أبناء الشارع إثر سماعهم ذلك الصوت ، قلبوا الجثة فوجدوها باردةً قد اسلمت روحها لباريها فلفوه في فراشٍ وأدخلوه إلى المحل .

الليل يرخي سدوله ورائحة الدم تخنق أنفاسه ، والمدينة تنام في احضان صبر بعد يوم دموي سقط فيه عشرات الابرياء أمثال هزاع ، في الصباح احضر صاحب المحل سيارة اجرة ووضع جثة هزاع في النعش وانطلق نحو القرية ..

في القرية تتعالى أصوات المآذن بالتكبير والتهليل والمصلون يستعدون لأداء صلاة العيد ، عشرات الاطفال يتجمعون أمام دكان هزاع ، كل واحد منهم ينتظر هزاع ليأخذَ منه ثوب العيد ، وزوجة هزاع يا لسعة صدرها برغم ما يحدثه الأطفال من فوضى امام المنزل الاأنها تترفق بهم كأم حنون ، فهي تنتظر زوجها على احر من الجمر والحزن يعتصرها إذ لا تعلم ما هو مصير زوجها هناك في المدينة ، بعض ابناء القرية كان قد وصلهم خبر مقتل هزاع ، مسكينة هي حتى الآن لا تعلم عن مصير زوجها شيء .

في الطريق أسفل القرية وقفت سيارة ينبعث من مسجلها صوت قرآن كريم ، أسرع الأطفال نحو السيارة وهم يصيحون هزاع عاد هزاع عاد والسرور يغمرهم ...

فوجئ الاطفال بوجود نعش على السيارة فخيم الصمت على وجوههم استشعروا عظمة الموت ، توقف التهليل والتكبير في مسجد القرية ، صوت مقيم الجامع انتقل إلى رحمة الله هزاع مقبل .

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص