الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
ذاكرة شعبية سود معمى أو الغناء بضمير الجماعة الحلقة الثالثة - علوان مهدي الجيلاني
الساعة 16:27 (الرأي برس - أدب وثقافة)



وقد تميز سود إلى جانب التفوق الشعري بكاريزما خاصة.. فاشتد تعلق الناس به حتى أنه كان يُعَرْبَن للعرس قبل شهور من ميقاته.. وكان الناس يمسكون عليه سِرِة .. بل لقد بلغ تعلق الناس به حد أنهم كانوا لا يستطيعون إتمام أعراسهم بدونه.. وكثيراً ما أخروها حتى يفرغ لهم..
 

أثناء حوار أجريته معه عندما دعوته لقريتي الجيلانية يوم الإثنين 17 / 12 / 2001م... لاحظت أيضاً متابعته (بحرص شديد) رغم شيخوخته لأخبار الناس وأقوالهم وتطورات الأحوال بهم، فهو يسأل عن أعيان البلاد والأحداث السياسية والتجار والأسعار وأحوال الزراعة والمشاكل الاجتماعية ويتتبع بشكل خاص أخبار المشائخ.
 

وله بسراة الناس علاقات وثيقة، فبمقدار ما كان يقدرهم ويُسَخِّر شعره لنشر فضائلهم والإشادة بمواقفهم ووقائعهم وكرمهم وتاريخهم.. كانوا هم يقدرونه ويعطونه ويحمونه.. ولم تكن علاقته بأولئك المشائخ والأعيان علاقة مائلة الميزان بل كانت علاقة متكافئة.. ولا أدل على ذلك من وصول علاقته بشيخ مشايخ صليل إبراهيم قوزي إلى السماية.. فقد روى لي أن (سود) أنجب في الشطر الأول من حياته ابنة فسماها (عيش) على إسم إحدى بنات الشيخ إبراهيم قوزي.. فأرسل له الشيخ إبراهيم بقرة مطلي([1]) ومعها كسوة ومقاضي... كما أنه كان شديد الحرص على إرضاء أعيان الناس، والتحبب إليهم ومعاملتهم كأصدقاء يجدهم عند الحاجة ويجدونه ولا يكسرون له أو يكسر لهم خاطر..
 

فقبل ستين عاماً دعاه السيد عبد الله علي أحد أعيان الجيلانية لمحضر ابنه محمد (راويتنا الذي نروي عنه هذا الموقف) وكان (سود) مشغولاً فتأخر عن أول الليلة.. فقال الناس لعبد الله علي: سود لن يأتي، فآلمه ذلك ولكنه كتمه في نفسه.. وعلم سود بالخبر وهو في طريقه إليه.. وعندما وصل كان اللعب قد بدأ فصاح من بعيد:
سَرّىْ يَبْرُقْ فَوْقَ امّطْحَلِيْ([2])
وْذَانَا جِبْتَكْ وادَّالله عَلِيْ([3])
فمسح ذلك ما كان في نفس عبد الله علي من الألم جراء تأخره.

 

طريقته في قول الشعر:
 

يكاد كل شاعر من الشعراء الشفاهيين الذين نوثق لهم وندرسهم يتميز بطريقته وطقوسه الخاصة أثناء الأداء الفني، حتى أولئك الذين يشتغلون داخل فن واحد، يتميز كل منهم بطريقته الخاصة في أداء ذلك الفن، ولعل هذا من سمات الشفاهية، كما أنه أيضاً من سمات الأساليب التي يتمظهر كل منها بشخصية مستقلة تشبه صاحب الأسلوب، وهذا بدوره يحدث تنوعاً يثري حضور الشعراء، ويسبب تغايراً في الطرائق تجذب الجمهور فتتجدد بذلك أساليب وطرق التلقي والتفاعل مع الشاعر المغني.
ويعد الشاعر سود معمى من أهم وأشهر الشعراء المعروفين بأساليبهم المميزة وطرق أدائهم اللافتة للنظر.

 

أما طريقته في قول الشعر فإنه يبدأ باختيار إيقاع من إيقاعات الرقص الشعبي المعروفة في المنطقة (الزير أو العربي أو العرضة أو سيد دوم أو المَرْيَسِي أو المخدمي أو الزيفة أو غيرها (بعض الرقصات الأكثر رواجاً في بني قيس مثل - امشنب-) فإذا كان الغناء للنساء فهو يغني على إيقاع الفُدّاية أو الرزعة) ثم يضع إناءً معدنياً أو تنكة على وجهه مميلاً عنقه على أحد الجانبين ويبدأ بتحريك فمه تحريكاً صامتاً يبدأ بعده الهنهنة بلوازمه التي يتشجن ويتسلطن بها ويشجن ويسلطن من خلالها مستمعيه، وتختلف لوازمه باختلاف إيقاعات ولون الغناء الذي سيغنيه، فإذا غنى على إيقاع رقصة (الزير) كانت لازمته:
وُوْنَا وَنَا آهْ وَانَا
وُوْنَا وَنَا آهْ وَانَا
أو:
وُوْبَا وَنَا آهْ نَا نَا
وُوْبَا وَنَا آهْ نَا نَا
أما إذا غنى على إيقاع ولون رقصة (الشنب) فإن لازمته ستكون:
وُوْنَا وَنَا وُوْنَا
وُوْنَا وَنَا وُوْنَا
وإذا كان غناؤه على إيقاع رقصة (امخدمي) فإن لازمته ستكون:
أَنَا وُوْنَانَا أَنَا وَنَا أَنَا وُوْنَانَا أَنَا وَنَا
وإذا كان غناؤه على رقصة ( الزيفة ) فإن لازمنه ستكون :
ووا لا ولا ووبه ووا لاولا ووبه
حسب الإيقاع الذي يغني عليه.

 

وقد لاحظت أن شكله الغريب، وقوامه الفارع وعنقه الطويلة الناتئة إلى الأمام... التي يحركها تحريكاً يشبه تحريك الجمل عنقه، إضافة إلى عماه ولوازمه الحركية الراقصة تمنحه كلها منظراً أثناء الإنشاد يشد مستمعيه بقوة إليه.
 

أما صوته فهو أجش فيه حشرجة ولكنه صوت بالغ العذوبة والحلاوة وفيه رجولة تناسب اشتغاله الشعري على جوانب القوة والفتوة والشجاعة والقيم الرفيعة.
وقد أخبرني عبد الله محمد عويدان أن صوته كان حلواً جميلاً رائعاً ولم يحشرج إلا بعد أن كبر .. كما أخبرني أنه كان في سارية المخدرة أو في صف اللعب إبان شبابه يصيح عند نهاية كل مقطع شعري يغنيه قائلاً: وجناه.. وجناه.. وجناه.. ويقفز قفزة عالية لا يقدر عليها المبصرون الأشداء، وعند نهاية القفزة يضرب صفحة عنقه بيده ضربة لو ضربها إنساناً آخر لجارشت عيونه([4]).

 

وأجمل ما فيه من وجهة نظري هو اشتغاله على ذاكرة الناس ومواطن الجمال في بيئتهم وحياتهم وكذلك تماهيه مع العشاق وصفاً لجمال النساء وحلاوة اللقاء ودمجاً بين جمال الأنثى وجمال الطبيعة بما فيها من زرع وخضرة شجر وزهور ومشاقر تتواشج بصور المطر وروائح الأرض، وعرق الفلاحين.
 

غرامه ببنات امريمي:
 

ارتبط سود معمى في مسيرته الفنية كما ارتبطت شهرته أيضاً بست من أشهر الغانيات المغنيات والراقصات اللائي عرفتهن تهامة، وهن بنات امريمي أو بنات آمنة نسبة إلى أمهن. وهن: امعيدة، وجمعة، وسلام، ومناصف، واحمديه، وسعيدة.. وكن جميعاً يجدن الرقص والزقره (الضرب على الطبول) إلا أن الأفضل رقصاً هن: امعيده وامناصف واحمديه، والأفضل ضرباً على الطبول هما: جمعه وامعيده إلى جانب أخيهما محمد.. وكان زمارهن المزمر الشهير زايد.. وهو من الشعافل.. وقد عمي منذ نهاية ثمانينيات القرن العشرين.. ( توفي زايد يوم 28 فبراير 2012م)
 

وبنات امريمي أصلهن من ريمة فأبوهن محمد عبد الله الريمي، أما أمهن آمنة فهي لحجية من بلاد العلاوية، ممن يعرفون بخدام ابن علوان، وقد كانت أمهن راقصة بارعة الأداء بالغة الجمال تجوب القرى والمناطق، وحدث أن شاهدها أبوهن إبان شبابه في ريمة فجن بها وترك أهله وتبعها فتزوجها.. واستوطنا قرية دوغان.. إحدى مواطن الهوى في تهامة.. وهناك أنجبت منه البنات والأبناء.
 

وبخلاف جمعة التي تزوجت الدوشان الشهير ناجي وهو من أبناء عمومتها وقد مات سنة 2002م فإن بنات امريمي قد ذهبنَ مع بداية السبعينيات من القرن العشرين إلى السعودية وتزوجن هناك، ثم توزعنَ في دول الخليج (جمعة) في قطر، و( سلام) في أبو ظبي)، و (امناصف) في الدمام مع أخيها محمد، أما امعيدة التي كانت أجملهن وأحلاهن رقصاً فقد عادت إلى البلاد مرتين: الأولى سنة 1986م تقريباً وجاءت بفرقتها إلى الجيلانية وكنت في الزاهيب ولم أحضر رقصها وغناءها.. في بيت جدي سود حسن وقد نسيت مجيئها الذي قابلت الخبر عنه ذلك اليوم بلا مبالاة حتى ذكرني به أخي إبراهيم رحمه الله ثم عادت وسافرت إلى السعودية حتى عادت المرة الثانية إلى البلاد مع أزمة الخليج عام 1990م. وقد شاهدتها سنة 1992م في بيتنا بالجيلانية وهي تضرب على دف وتغني، ومع الأسف أنني لم أكن آنذاك قد وعيت مقدار أهمية توثيق تراثنا الشعبي الذي يضيع ويتسرب من بين أيدينا كل يوم.
 

فاكتفيت بمشاهدتها مشغولاً بمقارنة صورتها الحاضرة بصورتها التي بناها خيالي بناء على حديث الناس عن زمانها الأول الذي انتهى قبل أن يتفتح وعيي.
كانت امعيدة امرأة خضراء قد تجاوزت الخمسين وما تزال آثار جمالها السابق تتلو شواهدها في تقاطيع وجهها المتناسقة، وحركة جسدها الرشيق إلى حد كبير نسبة إلى عمرها، ومعاناتها نتيجة التشرد بعد الأزمة.

 

وكانت الحسرات تملأ عيون كل من عرفوها زمان، خاصة وأنها قد نكبت بين من نكبوا وفقدت حياة الرفاه التي كانت تعيشها، ثم عادت لتجوب القرى كما كانت تفعل في نهاية الخمسينيات وسنوات الستينيات.. بعد أن تبدل كل شيء فلا هي مثلما كانت زمان ولا الزمان والمفاهيم كما كانت .
ويبدو أن امعيدة كانت تشعر بالفارق الهائل .. والمتغيرات التي حدثت فيها وفي الناس والحياة كلها .. فلم يكن الحزن يفارق وجهها أو صوتها وكأن لسان حالها يترجم قول ابن هتيمل:
لا الزمان الزمان فيما عهدناه قديما
ولا الديار الديار

 

وقد وافتها المنية عام 1993م بعد أن حضرت عرساً في محل عابد إحدى قرى مديرية القناوص... وخرجت منه ليلاً متجهة إلى قريتها دوغان عبر مسيل وادي تباب، وإلى الجنوب من قرية الجيلانية باغتها الموت -ربما إثر أزمة قلبية- فسقطت عن حمارها وقد صعدت روحها إلى بارئها.
وقد سبق بنات امريمي إلى هذا الفن بنات الدودحي وبنات العسيلي إلا أن بنات امريمي شكلن ظاهرة فنية عجيبة لا يزال يذكرها الناس حتى الآن، فقد كن بارعات في الرقص حد الإدهاش، فكانت الواحدة منهن (خاصة امعيدة) يرمى لها بالباولة أو الهللة على الأرض وكانت ترقص حتى تنعطف على عقبها ثم تلتقط الباولة أو الهللة بعينها، وإلى هذا يشير سود معمى في شعر من أشهر أشعاره التي يحفظها الناس:
امْعِيدَهْ مِثَلَ امْسَاعَهْ لَمَّا تْدُورْ
وَتَسْتَوِي كَامْهَيِكَلْ([5]) عَلَى امْصُدُورْ
ونَا وَراء امْعِيدَهْ شَاجْرِي وَهُورْ([6])

 

وكان بوسع امعيدة أن تفقز وهي ترقص لتضع أصبع رجلها الكبير في حزام راكب على حصان، ثم تطوح جسدها في الهواء راقصة بخفة وكأنها تطير، ولهن أسلوب شبيه بأسلوب سود الغنائي في ناحية من نواحيه، ذلك هو الغناء على إيقاعات الرقصات الشعبية المشهورة بالسيد دوم، أو المريسي، أو المخدمي إضافة إلى الشنب والجربحي والسعدي وغيرها من الرقصات.
 

كانت بنات الريمي يشبهن إلى حد كبير الغوازي اللائي يظهرن في المسلسلات والأفلام المصرية، وكن يستدعين إلى إحياء الأعراس فيغنين للنساء كما يستمتع بمشاهدتهن الرجال خاصة، وهن لم يكن يقصرن إبداعاتهن على الأفراح، بل كن يتجولن في القرى خاصة في مواسم الحصاد، وزيارات الأولياء وغيرها، وكن يتلقين النقوط من المعجبين ومن أغنياء الناس الذين كانت بيوتهم هي المقصد الرئيس لهن.
 

وبخلاف سود الذي كان لا يأتي إلا مدعواً مهما كانت المناسبة فإن بنات امريمي كن يتجولن ويدخلن البيوت دون دعوة أو طلب أحياناً، وفي هذه الحالة فإن إكرامهن كان حقاً واجباً أكلاً وشرباً ومؤنة ونقوداً وعطوراً وقماشاً.. وكان الناس يرون أنهن كالعسكري النافذ واجب الأمر.
 

وبرغم جمالهن البالغ ورشاقتهن المذهلة.. وانهمار لعاب الشباب على أجسادهن البديعة وهي تتلوى أثناء الرقص إلا أنهن لم يكن فالتات الحبال.. تمتد إلى أجسادهن أيدي اللامسين فلا ترد.. بل كن عفيفات مخلصات لفنهن.. لا يعطين أجسادهن لمن طلب.. ولا يبتذلن أنفسهن، ولكنهن كن يعشقن باختيار وكما تملي عليهن قلوبهن وأرواحهن.. وهناك حكايات عن عفتهن منها ما حدثني به غير واحد أنهن جئن قبل الثورة إلى قرية الجيلانية.. ودخلن بيت العاقل السيد سود حسن أحمد الجيلاني.. وكن في أول الشباب المتفجر.. فكانت امعيده.. تجمع حفنة من التراب على العرصة وتوضع لها فيها هلله أو هللتان.. أو بقشة.. ويقال لها تقدرين تلقطينها بعفاف (رمش) عينك.. فكانت تلعب وتلعب ثم تتقعّر وتلتوي على نفسها إلى الخلف.. حتى تلقطها بعفاف عينها.. وبسبب جمالهن الفاتن وشبابهن وروعتهن جن بهن الشباب ذلك اليوم إلى درجة الفوضى.. فكانوا يتسابقون على وضع الهلل والبقش للعيده.. حتى يتفرجوا على تقسيمات جسدها وهي تتقعر.. وكانت تلبس كرتة ساترة.. تظهر في نفس الوقت جمال جسمها الذي كان متناسقاً بديعاً ومغرياً...إلا أن له مهابة تُصَعِّبُ الاقتراب منه.. ولم تكن أخواتها أقل منها.. وكُنّ يلبسن نفس اللبس ويؤدين نفس الحركات في نفس الرقصة من التواء إلى الخلف والتقاط لقطع النقود بأهداب العيون..
 

ارتبط سود ببنات امريمي لدرجة أنهن سمين أحد أبنائهن باسمه، وحين كن يسكن دوغان كان سود يقيم عندهن السواري من أول الليل حتى أذان الفجر، وذاع حبه وتعلقه بامعيده بشكل خاص.. بالذات بعد هجرتهن إلى السعودية.. فلطالما.. اختلط في تغني سود بهن.. إعلان عشقه لهن والبكاء لرحيلهن.. وتصوير خلو الديار والفن منهن.. وكان يكني عن بنات امريمي بالجِمَال والمطايا والزهور والمشاقر وسائر الطيوب والعطور الجيدة ، كما في هذا النص:
كَفَيْتَ امْعُوْدِي فَوقَ امْفِرَاشْ([7])
امْذَهبْ مَخْلُوطُ بَيْنَ امْقُمَاشْ([8])
عِيدَهْ مِثْلَ امْإِبْرَةْ تَحْيِيِ امْعُشَاشْ([9])
وَلاَ لِقِيْتَ امْعيدَهْ مَا فُكْهَاشْ([10])
وَاجِمَالَ امْرَيِمِي شِلِّيْ هَوَاشْ([11])
لَمَّا تْبُوكِي عَنِّي نَا اغْلَبْ عَلاَشْ([12])
رَيْتِشْ فِرَاشِي مَبْيَضْ شَاسْبَحْ عَلاَشْ([13])
وَنَا سَرَنْ بِي رُوحِي مَا تْحُطَّنَاشْ([14])
وكذلك قوله:
وَنَا ...وُوْنَانَا انَا وَنَا
انَا وُوْنَانَا... نَا اللَّيْ سَرَيْتْ
فِي كُلّ بَيْتْ
مْهَاجْمُ كَامْصَارُوْخْ فِي كُلّ بَيْتْ([15])
جِمَالَ امْرَيْمِيْ كِدْهَا الْكْوَيْتْ([16])
جَنْبِي شَيَلْكُسْ جَنْبَكْ وَانْتَهْ أبَيْتْ([17])

 

الطريف أنني أثناء انشغالي في مطلع عام 2005م بجمع مادة هذا الكتاب زرت الشاعر الكبير الأستاذ إبراهيم الحضراني.. فوجدت على طاولة في مجلسه كتاب (أحمد البشر الرومي قراءة في أوراقه الخاصة) وهو شاعر وأديب وباحث كويتي تولى مناصب مختلفة في بلاده.. وكان مكلفاً في مهمة رسمية من قبل حكومة بلاده إلى اليمن في سنة 1963م.. وقد سجل يومياته في تلك الرحلة التي زار فيها صنعاء والحديدة وزبيد وتعز وعدن وذمار ورداع وغيرها من المدن اليمنية، قال الحضراني: لقد عرفته شخصياً وأسلوبه جميل، وقد كتب عن اليمن..
 

تناولت الكتاب وفتحته فانفتح بالصدفة على صفحة (261) ووقع بصري مباشرة على قوله: (وفي الساعة الثانية والربع أنهينا منطقة الجبال، ودخلنا في سهل تهامة وهو سهل يشبه أراضي الكويت بالضبط غير أنه مزروع إلى مساحات شاسعة بالذرة، وفي الساعة الثانية والنصف وصلنا إلى قرية باجل.
 

باجل قرية في منتهى الحرارة والرطوبة، قرية تقع في سهل تهامة محاطة بعشش مبنية على شكل قبب لاتقاء غزارة الأمطار وبها بعض بيوت من الطين والحجارة وذلك بوسط المدينة ويمر بها الطريق المبلط الآتي من صنعاء والذاهب إلى الحديدة ولا يزيد سكان باجل على ثلاثة آلاف وذلك بضواحيها، وأهلها من الفقر بحيث لا يمكن أن يتصوره إنسان، ولم أرَ في القرى التي زرناها شحاذين إلا في هذه القرية.
 

وأول ما يلفت نظري في هذه القرية أنني سمعت صوت طبل وكان الضارب عليه نساء سود يقال إنهن حبشيات من نسل الأحباش الذين بقوا بعد القضاء على حكم أبرهة في اليمن، وكانت إحداهن تقرع الطبل والأخريات يغنين وإحداهن ترقص على ضربات الطبل وكنّ واقفات حول سيارة قادمة من الحديدة وعندما اتجهت إلى مقهى قريب من سياراتنا جاء أيضاً نسوة أخريات يقمن بنفس العمل وبنفس الإيقاع حول سياراتنا وقد أخذت لهن صورة بالألوان.
 

وقد كتب الرومي تلك السطور بتاريخ 6/8/1963م فشعرت وبقوة أن أولئك الضاربات على الطبول اللائي وصفهن لسن إلا بنات امريمي.. وقد علمت أن ابنة الكاتب تحتفظ بأرشيف كامل لرحلات أبيها والصور التي وثقت تلك الرحلات..
 

الهوامش:
 

([1]) تكاد كل منطقة من مناطق اليمن أن تكون لها تسميات خاصة فيما يتعلق بتكاثر الحيوانات، وفي المنقطة التي نوثق لها (منطقة ما بين واديي سردود ومور من تهامة) يقال للبقرة الناتج -أي الواضعة حملها- (بقرة مطلي) بمعنى أنها جاءت بطلي، ويظل مسمى الطلي ملازماً للعجل عدة أشهر، أما الشاة فيقال: (شوه منتوج) ويسمى ابنها (سراع) وكذلك المعزة، أما الناقة فيقال: (ناقة باهل) ويسمى ابنها (جحبور) والحمار (حمار متلي) أي أنها جاءت بمن يتلوها، ويسمى ابنها (عفو) ويقال للكلبة: (كلبة مجري) وتسمى صغارها (جرية جمع جرو) وكذلك القطة (البسة) يقال: (بسة مجرية) أما فقس الدجاجة فيسمى (زعافير جمع زعفور).
 

([2])سَرّىْ يَبْرُقْ فَوْقَ امّطْحَلِيْ: سرى البرق يشتعل على أرض المطحلي (جهة بالقرب من باجل).
 

([3])وْذَانَا جِبْتَكْ وادَّالله عَلِيْ: ها قد أتيت ملبياً دعوتك يا عبد الله علي (لاحظ اللهجة وطريقة نطقها للفظ عبد الله= ادَّ الله).
 

([4]) جارشت عيونه: أخرجتها من محاجرها إخراجاً بشعاً.
 

([5]) الهيكل: نوع من أنواع الذهب (الدباليل المستديرة) تعلقه النساء على صدورهن.سمي الهيكل نسبة للرسوم التي تسمه
 

([6]) شاجري واهور: سأبحث عنها وأبكي عليها بكاء شديداً (أهور: أنتحب).
 

([7]) صببت دهن العود على الفراش.
 

([8]) يكني بالقماش المذهب عن جسد المحبوبة (عيده) وطبيعتها.
 

([9]) يشبه الشاعر القرب من (العيده) بأنه كالدواء (الحقنة= الشرنقة) يبعد التعب والمرض (والعشاش نوع من الحمى الخفيفة ولكنها مرهقة تنتاب المرء مع مجيء الليل، وأحيانا يتحجج بها العشاق والمتعبون من وجع الحب، فينامون تحت الأغطية رغبة في الاختلاء بأنفسهم والحديث معها، ويرفضون محادثة الآخرين أو الخروج من البيت بحجة أنهم يعانون من العشاش).
 

([10]) أقسمت إذا وجدت (العيده) مرة ثانية أن لا أتركها تبتعد عني أبداً.
 

([11]) أي جمال الريمي افعلي ما تريدين (السطر الشعري يكني عن عيده وأخواتها بالجمال) ويخاطبهن خطاب محب معاتب (شلي هواش= افعلي ما شئت) فسأظل وفياً للعهد محباً مخلصاً.
 

([12]) لما تبوكي عني: الخطاب موجه لجمال الريمي= بنات الريمي، وتبوكي: من البوك: الذهاب، أي عندما تفارقينني لا يبقى لي إلا الغلب والحزن الذي أشعر به..
 

([13]) يتمنى لو كانت (العيده) فراشه الأبيض الذي ينام عليه (كناية عن الاتصال الجسدي الذي يتمناه ويشتهيه).
 

([14]) وَنَا سَرَنْ بِي رُوحِي مَا تْحُطَّنَاشْ: يقول أنه لا يستطيع أن يهجع في موضعه أو فراشه لأن روحه لا تستقر به بل تسري به في أودية الأحبة الذين فرقت بينه وبينهم الغربة بآلاف الكيلومترات.
 

([15]) أدخل البيوت بدون وعي بسبب ما أصابني من فراق الأحبة.
 

([16]) يقصد أن بنات الريمي قد وصلن في غربتهن إلى الكويت، وقد يكون قصده أيضاً حي الكويت في جدة وكان لسود فيه جلسات وسمرات وتسجيلات كثيرة في استديو الفنان الكبير عبد الرحمن البكري الذي حفظ لنا كثيراً من شعر سود في تلك التسجيلات.
 

([17]) في هذا البيت يكني سود عن رغبته الشديدة في الاتصال الجسدي مقابل التأبي من الآخر، وقد كان كعادته بارعاً في الكناية حيث استعمل ملامسة الجنب للجنب فنفذ إلى أعماق المعنى دون أن يخدش الحياء.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً