الاثنين 23 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
ذاكرة البيدق .. رواية الحرب سرد عراقي - محمد الغربي عمران
الساعة 02:44 (الرأي برس - أدب وثقافة)



"بَقيت الكلاب يخترق نباحها في هذا الظلام حدود القرية, لا سلام ولا أمان، كل شيء متوثب للانقضاض" جملة مجتزئة عن الغلاف الأخير لرواية "من اعترافات ذاكرة البيدق" للروائي العراقي المعروف عباس خلف علي.. الصادرة في 2013 عن دار فضاءات عمان.
 

قد توحي كلمات الجملة السابقة إلى ما عالجته الرواية.. إنها الحرب بأقبح صورها.. قرأت هذه الرواية أثناء نزوح سكان ضواحي صنعاء الشمالية على أثر اندلاع القتال الذي دار بين ميليشيات الحوثي الشيعية وقوى حركات دينية أخرى سنية.
 

وقد وجدت الكاتب يصف في ذاكرة البيدق ما حدث في صنعاء.. قتل وتدمير وتشريد الآلاف خلال أيام.. لحظات القراءة وجدت أن كل جملة تدين تلك الحرب, لولا ذكر بعض المسميات من مدن وأمكنة عراقية لحسبت الكاتب يسطر روايته عن صنعاء.. إذا الرواية تدين الحرب في كل مكان وزمان.
وفي صفحاتها 110 رافقتني عوالم ذلك الفعل المخيف للحرب.. ليقدم لنا الكاتب العراق كشخصية متفردة للرواية، برغم وجود عدة شخصيات روائية.. لكنّ العراق طغى عليها جميعا، فهو الأرضية والخلفية الحاضر في تلك الأحداث.

 

إذا طغيان المكان في رواية ذاكرة البيدق على كل شيء.. في الوقت الذي يدفع الكاتب بالقارئ لاستدعاء زمن تلك الأحداث بالاعتماد على ذاكرته.. في الوقت الذي تعمد الكاتب إلى تذويب الزمن وتلاشيه.. ليظهر بصورة غير مباشرة من خلال تلك الأحدث التي هزت العالم للغزو الأمريكي للعراق والذي جعلت "قناة الجزيرة " نافذة يطل من خلالها المجتمع البشري على تلك الجرائم الهائلة، وعلى نهب أعرق حضارة وتدميرها، فالجزيرة نافذة تلك الأحداث وكأنهم أنشأوها خصيصا لتغطية ذلك الجنون البشع لحياة شعب بأكمله.
 

شخصيات الرواية تتجسد أحداثها عبر تضاريس أمكنة السرد التي لا تتفاوض مع الفائض إلا بمقدار الاستجابة للفعل الطامح في تشكيل الرؤيا وتحريك الذهن وهذا ما اتاح لنا أن نتحسس حركة الراوي الضمني كمنظومة متكاملة تسعى لتأثيث موارد السرد من اشتباك عناصره مع فضاءات الروي لينسج لنا لوحة بأبعاد متناغمة الصورة تساعدنا على تكوين ملامحنا الخاصة بنا عنها...
تأتي أسماء كثيرة ومنها: فيفين.. براء.. أسماء.. العمة.. التاجر (الشاهبندر).... وهناك أسماء أخرى تظهر وسريعا ما تتلاشى عدا الراوي الذي ينسج بمعرفته آفاقا ممتعة من المعرفة والتجربة الحياتية طوال أحداث الرواية...

 

الأجواء الساخنة ترينا حجم وفداحة التذمر "لم يعد البوق له وجود كما عودنا التنبيه في المرات السابقة.. استغفلنا على حين غرة وتركنا نهما لما يشاع في لحظات النحس" ماذا يصنع الإنسان تحت القصف المفاجئ.. تسكب السماء نيرانها لتدك المساكن وتغير من تضاريس المكان وتحيل كل شيء إلى هشيم مشبع بالرعب.. في الوقت الذي كان السكان ينتظرون أصوات الإنذار.. حتى تلك الأبواق خذلتهم ليعم الموت تحت سمع وبصر العالم.
 

"واعظ ديني يحتج على دخول القوات الغازية إلى أماكن العبادة في المدينة ولكن....." الكاتب يترك النهاية مفتوحة لهذه الفقرة وكأن لسان حالها يشير (أي الفقرة) بأصابع الاتهام إلى شريحة تستغفل المجتمع.. وتستغله وهي تحاول درأ الخطر عن متون نصوصها التي اعتادت أن تحتج بها وكأنها النخبة الوحيدة المؤهلة لتمثيل جوهرها وقيمتها والحرص عليها أنهم ببساطة، تعني لهم الحياة الرغيدة، وتمثل الوطن وما عداه لا يهمهم فسيأتون الأتباع من أصقاع الأرض إن أبيد سكان المدينة.
 

"إن الملوك إذا دخلوا قرية....." أية قالها العلي القدير على لسان النمل. والمعنى من الملوك.. القوة والتجبر.. الحاكم أو الغازي.
وما دار في العراق ويدور اليوم فيه وفي سورية واليمن وليبيا وبقاع أخرى من العالم يشير إلى طغيان الإنسان وقدرته على التدمير تحت مبررات متعددة.. والأهم هي تأمين المصالح.. وان أدت إلى إذلال الشعوب، هذا هو الإنسان بأقنعته المتعددة ومبرراته الكثيرة.. منها حماية الأقليات.. الديمقراطية .. حرية الرأي.. حقوق الإنسان.. كل تلك وغيرها لافتات لقتال وتدمير يؤدي إلى إحكام قبضة القوي على الضعيف لمص دمه.

 

"كان وجهي متربا وأنا أواجه ضراوة العاصفة عاصفة هبت من كل اتجاه" ولنا أن نتخيل تلك العاصفة أو العواصف من النار والبرود.. ولنا أن نستحضر حمم اللهب.. لتتحول السماء إلى حقول تزهر رعبا وموتا، هذا ما تقدمه ذاكرة البيدق.
"واحدة وضعتها أمي في حجاب ثم قرأت عليه علوية من نسل الحسن سبع مرات من آيات يسين" ودوما يلجأ الإنسان إلى السماء والغيبيات يستغيث في لحظات العجز.. هذا العراق بكل مكوناته الروحية.. العراق مهد الحضارات الإنسانية الأولى.. وحاضن لتراث فريد من ثقافة دينية ودنيوية من الغرابة والبهاء بمكان.

 

"حين استلقيت بين أحضانها كانت بمواجهتي صورة الأب المعلقة وسط الجدار فاستدار راسي نحوها لم تقولين أبوك مات" صورة يسجلها الكاتب ببراعة.. ينقل القارئ إلى لحظات حزينة وقد علقت صورة الشهيد على الحائط.. حشد من الدلالات ينهمر على عقول القراء لحظات قراءة بعض الجمل.. وقد تستدعي أذهاننا الكثير من تلك المشاهد الحزينة التي تخلفها الحروب على مستوى الفرد والمجتمع، في العراق وفي بقاع الأرض المنكوبة بالحروب.
 

"بندر بن سلطان قال ثلاث مراحل تمر بها القوات الأمريكية القبضة الفولاذية الأفعى الغليظة المطرقة الحديدية" عبث الدمى.. قد يبدو ما يدور في تلك الأيام، وحتى اليوم من تحالفات جنون.. وكلما ابتعدنا زمنيا منها اكتشفنا بأنهم دمى ولو أدعوا البطولات.. وأن أدوارهم أدوار معيبة ومخزية ولو ركبوا صهوات العنجهية وادعوا الذكاء.. فتاريخهم ملطخ بالغباء، وها هو جورج كلوي يميز بين دماء بني البشر.. ويدحض زيف إدعائهم بالإنسانية والتحضر.. وها نحن نقتل أنفسنا في سبيل تأمين مصالحهم.. لنريق دماءنا.
 

"جورج كلوي يصرح في مجلس العموم البريطاني بأن هناك دما أغلى من دم.. وروحا أغلى من روح ومناطق لا يمكن التسامح معها ومناطق تباح فيها الضحايا بالمجان" أو أن تلك الجمل تعود بنا إلى هرم (النازية) هتلر الذي صنف سكان الأرض إلى مراتب. وأجاز إبادة بعضها.
"تلبدت في السماء سحب من الدخان الكثيف في الحقيقة لم اسمع شيئا ولكنهم أكدوا أن لا أمان بعد اليوم كل من عليها مستباح" ما نراه في السماء قد لا نراه في الأرض.. وما يدور في البحار قد لا نعلم به إلا لاحقا.. لكنها الحرب وطغيان القوة.. وتحالف بني الإنسان على إبادة بعضهم.. أترانا تعلمنا.. أجزم بأننا لم نتعلم ولن نتعلم.. فدوما كالدخان نسعى للهب.. ودوما نلبي نداء إثبات ولائنا.. ودوما نعتز بتبعيتنا وعبوديتنا.. ها هي سماء العراق تعلن أن ما تحتها مستباح.. وها هي دول عربية تمول المحرقة وتشارك برجالها وتفتح أجواءها لتشارك في حفل شواء كبير.

 

"من يتلمس سير الأحداث تقمعه التفاصيل" أن تكتشف بروز الجلادين من أخوتك.. فهذا أمر مكشوف.. لكن أن تريك التفاصيل مدى إصرارهم على تدمير كل شيء حتى قوارب الصيادين وبساتين المنازل.. ومتاحف الآثار وحدائق وجسور المدينة.. ان ينسفوا البنى التحتية وأن يلوثوا المياه ويسمموا الهواء.
"وقالوا للجنود أن لم تحفروا خنادقكم بأيديكم فسيعرف الأعداء كيف يحفرونها لكم" أن يتحول الوطن إلى مقبرة دون حدود.. هي أوطاننا حولناها إلى مقابر متجاورة .. لم يكن للقارئ إلا أن يتخيل خيال الكاتب الذي يخط لنا حدود الموت في روايته.. خيال يقودنا إلى تلك الأحداث بين الواقع والخيال في صياغة يجول بها نهلا من ثقافة شاملة.. يطوف بعقولنا بين ما حدث اليوم.. ليغوص في أعماق التاريخ الإنساني.

 

ونعود إلى أول سطر من الرواية إذ يقول الراوي" الحيرة تشكل ركنا أساسيا لمخاوفنا نحن لا نخفي ما سيحدث.. تحركنا الغوامض المجهولة ليس إلى حالة الانتظار فحسب وإنما تدفعنا إلى حالة الإرباك " متنقلا من حدث يقلب موازين ومستقبل الإقليم.. إلى أحوال مجتمع يسكن في مساحة العراق إلى التركيز على بغداد.. ثم تسليط الضوء على حالة إنسانية تحت وابل القذائف والموت.. هي قدرات لا يمتلكها إلا القلة من الكتاب.
 

"دوي صاخب وحاد نباح الكلاب ورشقات الرصاص لم تنقطع" نجد الكاتب دوما يضيف من واسع ثقافته ويؤثث روايته بمعلومات تاريخية تزيد العمل ثراء، لم يكن لقارئ عادي أن يستوعب ما ترمي إليه الرواية وما يشير إليه الكاتب من بذخ ثقافي يمتلكه.. فيعكسه في أسطر.. إنه عمل يحمل عدّة أوجه.. ليعطي المتلقي الكثير من المتعة والكثير من المشاركة في ربط تلك الأحداث بما ينسال من ثقافة غنية وجزلة.
 

"أمه لا تتعب من السؤال عن وحيدها الذي يقطع أشواط التيه ولا يستبعد الحزن الطويل تنام في المزارات لعلها تراه في الحلم" وهكذا يحلق بنا بين فينه وأخرى في عوالم العقل والروح.. بكرم من يستوعب أوجه المكعب أو الموشور.. هو ليس خلطا بل موازاة عدة فنون في عمل واحد.. ليلون لنا أفقا من المعرفة السردية المتجددة.
 

"يا أبتاه اغفر لهم فأنهم لا يدرون ما يفعلون" حاملا أرواحنا وعقولنا بتلك الجمل إلى أغوار التاريخ تارة وتارة إلى ما يعتمل اليوم من دمار قبيح.. وهيمنة واستكبار مغلف بأقنعة زائفة، لتتعدد أوجه المتعة والمردود الثقافي والإبداعي.
"الدرب موحش أو أن ما أراه ينسيني أن المدينة في هذا اليوم بدأت تكتب تاريخ الغزو" يحاكم الكاتب تلك الجرائم الفاضحة لابتساماتهم وشعاراتهم وادعاءاتهم الكاذبة بالتحضر.. وهم في حقيقة الأمر قتلة مدمرون ينهبون ويستغلون ثروات الشعوب.. ولا يتورعون فعل أي فظائع معتمدين على أجهزة دعاياتهم التي يعتقدون بأنها تطمس عين الشمس.

 

"توابيت مغطاة بالعلم تتقاطر باتجاه ضريح الولي صالح" يالروح المعاناة.. وهم يصنعون الموت في كل لحظة يخطون صلوات الحزن والإبادة الجماعي.. متناسين أن ذاكرة الشعوب لا تفل.. وأن نجزاكي وهيروشيما ستظل في ذاكرة الضمير الإنساني إلى الأبد.. وحرب فيتنام.. ووحشية الحرب العالمية الأولى والثانية.. وأيديهم الملوثة التي تزرع الموت والدمار في كل أركان المعمورة معتمدين على القوة والقدرة الإعلامية لقلب الحقائق.
"ارتال من دبابات الغزو متمركزة في نقاط العبور" صورة وصور تحتل عقولنا.. جرائمهم ماثلة حين يحرصون على إخفائها.. نهب ثروات الشعوب واستغلال عمالة ساستها.
لنختتم بهذه الجملة الأخيرة "بعد أن عاثت الأقدار بحديقة المنزل تغيرت الوجوه" هنا يذهب بنا الكاتب حين يشير إلى عبث الأقدار التي تعبث بحديقة منازلنا.. هل هي الحديقة الصغيرة.. أم الوطن.. أم كرتنا الأرضية.

 

فهل الإشارة للأقدار إدانة أو اتهام، أو على كل قارئ أن يرى ويترجم الجملة حسب رؤيته.. الروائي عباس خلف علي وضع القارئ في قسوة اللحظة حين تتغير الوجوه، ويصبح الفرد غريبا وسط قوم دون ملامح.
عمل روائي مختلف.. كم أتمنى أن يتناوله النقاد بأدوات نقدية جديدة.. لتحليل تلك المضامين.. وتقديم أسلوب الكاتب الذي مزج بين السرد والمعلومة بين حواره الذاتي وسير الأحداث وتطورها في حبكات ممتعة..

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً