الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
القصة القصيرة جدًّا بين الإسفاف والإبداع - منيرعتيبة
الساعة 12:44 (الرأي برس - أدب وثقافة)

 
فى أحد خطاباته إلى أستاذه الإمام محمد عبده كتب الشاب سعد زغلول "اعذرنى للإطالة.. فلا وقت لديّ للاختصار". 

 

هناك شبه إجماع على أن القصة القصيرة أصعب كثيرًا فى كتابتها من الرواية، والقصة القصيرة جدًا أصعب من القصة القصيرة، ربما يكون السبب الأساسى فى ذلك أنه كلما كان الحجم أصغر كان الخطأ أكثر وضوحًا وأقل قبولًا، فما يمكن أن يتم تمريره وتجاوزه فى رواية لن يمر بسهولة فى قصة قصيرة، ويسقط بالتأكيد بالقصة القصيرة جدا. 

 

أرى أن القصة القصيرة جدًا تحمل روح الرياضيات والشعر، فكل كلمة من كلماتها رمز إشاري له دلالاته المتعددة، كما أن تكثيفها الشديد هو تكثيف مجازي له ظلال وألوان طيفية لا نهائية. ولا أظن أن الاتجاه إلى كتابتها من عدد كبير من الكتاب، ومن أجيال مختلفة، بسبب ضيق وقت الكاتب والقارئ. 

 

فالوقت هنا مجرد عامل ثانوي، لكني أعتقد أن هذا الاتجاه هو تعبير عن بعض السمات العميقة لما نسميه روح العصر، وأهم هذه السمات الإيجاز والتكثيف الذي نلاحظه في كل شئ بداية من لغة الشارع حتى الخطابات السياسية. 

 

كما أن التراث الإبداعى يقف بشدة خلف القصة القصيرة جدًا معضدًا وجودها، حيث إن الكثير جدًا من الأشياء قيل بالفعل فى الثقافة والسياسة والفن، وبالتالي فالكاتب ليس بحاجة إلى إعادة ما قيل، يكفيه إشارة موجزة ليستدعي ذهن القارئ تفاصيل كثيرة قرأها أدبًا أو شاهدها في السينما من قبل. 

 

ولذا نجد أن كلمة واحدة تكون أحيانًا ثرثرة فى القصة القصيرة جدًا. أضف إلى ذلك أن ارتفاع مستوى التعليم والثقافة والانفتاح على العالم من خلال وسائل الاتصال المتقدمة كالإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعى والقنوات الفضائية غيرت من نوعية القارئ الذى أصبح قادرًا على فهم مراد الكاتب بسرعة ومن كلمات قليلة، كما أنه لا يحب أن يقال له كل شئ بل يريد أن يكون مشاركًا، ولذا أصبح العمل الأدبي الآن هو نتاج جهد مشترك من الكاتب والقارئ معًا. 

 

وبرغم الرواج الكبير الذى تجده القصة القصيرة جدًا حاليًا، وبالذات على مواقع التواصل الاجتماعى، وصدور عشرات المجموعات القصصية القصيرة جدًا، وتكوين روابط وجمعيات لها، وتنظيم مؤتمرات ومسابقات إلخ، فإن القصة القصيرة جدًا تعاني من عدة مآزق إذا لم يتم الانتباه إليها قد يؤدي تفاقمها حد الإضرار الشديد بهذا الشكل الكتابى المهم. 

 

من أهم هذه المآزق استسهال كتابتها وسهولة نشرها، فالبعض يظن أنه إذا كتب (السلام عليكم.. استيقظت توا) فقد كتب قصة قصيرة جدا، ويجد من ينشرها له فى صفحات متخصصة للقصة القصيرة جدا، بل يجد من يكتب عنها نقدًا، ومن يعتبرها إبداعًا، ومن يشير إلى العبقرية الكامنة خلفها.. إلخ. 

 

وهذا النفاق الذى تعرفه مواقع التواصل الاجتماعى بقوة، ذلك الاستسهال الذى لا يدرك مدى صعوبة وحساسية كتابة القصة القصيرة جدا يؤدى إلى أن يكون الغث عشرات أو مئات أضعاف الثمين، وبالتالى يمكن أن ينصرف القارئ والناقد الجاد عن القصة القصيرة جدا برمتها إذ يجد قصة واحدة جيدة من بين عدة مئات مما لا يمكن تسميته بقصة. 

 

أما المأزق الثاني فهو أخلاقي بالأساس، وهو ما يمكن أن يطلق عليه "سبوبة القصة القصيرة جدًا" حيث تعقد مؤتمرات للقصة القصيرة جدًا بغرض "الاسترزاق" واستنزاف أموال الكتاب (لاحظ أن كثيرين منهم ليسوا بكتاب أصلا وبالتالي هم مستعدون لدفع بعض المال إذا كانوا سيحصلون على حضور مؤتمر وشهادة تقدير وتكريم تنشر صورته على فيس بوك). 

 

كما أن بعض الناشرين يجمع عددا كبيرا من القصص لعشرات الكتاب بصرف النظر عن المستوى الفنى للأعمال ويقوم بنشرها فى كتاب جماعى يبيعه بسعر مرتفع وهو متأكد من الأرباح الطائلة التى سيجنيها لأن كل من ينشر له قصة فى الكتاب سيشترى بعض النسخ. مثل هذه الممارسات التى أسميها أخلاقية تضر بالفن نفسه لأنها تعلى من مصالح خاصة على حساب الجودة الفنية مما يساعد فى مزيد من ترويج الغث حتى يصبح الجيد كالغول والعنقاء والخل الوفى. 

 

القصة القصيرة جدا هى إبداع مقطر، وذكاء فى الكتابة والتلقى، وعمق فى الفكر، وجمال فى اللغة، فامسحوا عنها أدران الاستسهال والاسترزاق.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً