الجمعة 29 نوفمبر 2024 آخر تحديث: الخميس 28 نوفمبر 2024
قصة قصيرة
الموت الزؤام - نجيب الخالدي
الساعة 14:37 (الرأي برس - أدب وثقافة)

لا تتجاوز ربيعها الثاني، بشَرة في لون النور، شعر مشبوك في لون الشمس، خدّان مكتنزان في لون الشقائق، ابتسامة تغري بضمها بين الأحضان إلى الأبد، عينان عسَليتان مبتسمتان دون انقطاع. كلما أبصرتني، تحاول الحث في خطاها لترتمي بداخلي، فأضمّها بين ذراعيّ في حذر شديد حتى لا ألحق بها أدنى ضرر، تتناثر قُبَلي تلثمها في فوضى عارمة في أنحاء مختلفة من جسدها الرطيب، وهي تصدر مناغاة الرضا والابتهاج وتطلب المزيد. خِدمتُها متعة، لذلك لا أتوانى لحظة واحدة في إسعاد نفسي بإطعامها ومعايشة عبَث تناول وجبتها. أقسى اللحظات، عندما أغادِر البيت لأتوجه إلى المدرسة، وأغرَّها، عند عودتي. هي عالمي الصغير وفضائي المحبوب الذي يسع كل ما أحتاج إليه، مستغلا عدم اكتراث إخوتي بها، إلا نادرا.
دخلت أختي مرحلة صحّيّة حرجة دون مقدمات، فقد لونُها بريقَه الأخّاذ، هزل جسدها وأصبح مجرد كومة عظام، بكاء مسترسل لا يتوقف إلا إذا استرقها النوم بضع لحظات، إضراب شبه دائم عن الطعام دون سابق إنذار. تحولت إلهام رأسا على عقب. فقدتْ كل شيء وفقدتُ معها كل شيء، حملها والداي إلى الطبيب لكن دون تحسّن يذكر. كنت أراقب الوضع عن بعد دون أن أسأل أو أتكلم أو أبدي قلقي، أغصب ألمي بداخلي ولا أفكر سوى في إلهام. ترى ماذا ألمّ بأختي الصغيرة.؟
في ليلة باردة برود الموت، كان أنينُها يُكسّر صمتا مريبا يؤثث كل الأرجاء، إخوتي يغطّون في نومهم، ربما لا يدركون فظاعة الأمر، أبي وأمي بجانبها لا أدري ما يفعلان، أنين صداه ينقر سمعي باستمرار حتى حفظت إيقاعه عن ظهر قلب. وضعت رأسي داخل الغطاء بحثا عن الدفء، أرنو إلى الظلام الذي يملؤه، وحيدا، منكسرا، مجمدا، شارد الذهن، ملتهب الإحساس، أترقب ما يمكن أن يقع دون أن أتوقع ما يمكن أن يقع. أردّد بصمت: إلهام، إلهام...

في عمق الليل، اندلع صوت مدوّي اقتلع قلبي من جذوره، وألقى به في غياهب الخوف والرعب. وجدتني واقفا لا ألوي على شيء، بينما واصل الصراخ امتداده دون توقف، إنه صراخ أمي. عمت الفتنة داخل البيت، بينما انزويت في ركن من الغرفة لا أدري ما أفعل، سوى ترديد إلهام ! إلهام ! ماذا حلّ بك؟ استفقتُ من جديد على بيتنا يغلي بمن أعرف ولا أعرف، منهم من تسمّر بالباحة، ومنهم من اختار مكانا يقبع فيه وقد أصابه البكم. وبدا الأهل والأقارب والجيران يتوافدون علينا في عزّ هذا الليل القارس البئيس بما يحدث...

بعد ساعات حلّ الصباح فاقدا نورَه ومذاقَه، عرفت أن مكروها قد حلّ بأختي جعلها تغادر بلا رجعة. اشتقت إليها كثيرا، واكتويت بنار الرغبة في تقبيلها وضمّها إلى أحضاني ككل صباح قبل التوجه إلى المدرسة. اشتقت إلى وجهها الصبوح بنور بشَرَتها، إلى مداعبتها ومناغاتها. إلهام أين أنت، أين أنت؟
في نهاية الصباح رأيتها ملفوفةً وسط سجاد أخضر يحملها أحد الغرباء، تطاولتُ لرؤيتها وهي في هذا الوضع الغريب، لعلّي استرق نظرة إلى وجهها أو جزءٍ من جسدِها.
غادرت أختي البيتَ تحت إيقاع البكاء وتِلاوة القرآن وبعض الزغاريد. غادرت إلهام البيتَ دون أن أذرف دمعة. عصرت عينيّ لعلهما تجودان بدموع أنا في أمس الحاجة إليها في هذه اللحظة العصيبة عربونا على حبي لأختي الصغيرة، خفت أن تفهم خطأ عدم بكائي، لكن لم أدْرِ لماذا انحبس بكائي، فحلّت محلّه هذه الغُصة، أو قلْ هذه الكريّة الثابتة بداخلي، والتي لا زال انغراسها يؤلمني إلى الآن، كلما ذكرت أختي إلهام.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص