الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
"عتبات" الأردني مفلح العدوان.. الحكاية تسرد ذاتها - منير عتيبة
الساعة 13:53 (الرأي برس - أدب وثقافة)


فى روايته "العتبات"، يوزع الروائى الأردنى مفلح العدوان السرد على عدد من الرواة، ويوحد لغة السرد، حتى لتشعر أن الحكاية تسرد نفسها بلا سارد! 

 

"أكثر ما يحيّرني في "أم العرقان" هى جغرافيتها التي جمعت كل المتناقضات على امتداد مساحتها، حيث إنه في الجزء الشرقي منها تتربع القرية الأقدم، مثل كهل عتيق، محتفظة بذاكرة تحيلها إلى الأيام التي كانت بيوتها كهوفا محفورة في الجبل، يسكنها الأجداد الأوائل، بينما يخدمها طريق صخري وحيد يخترقها، وتصطف كل الكهوف حوله. 

 

الطبقة الثانية من القرية هي تلك التي بنيت فيها بيوت الحجر والطين والتي جرى تشييدها بعد قصة تشبه الأسطورة حول نبع الماء الذي يتوسط البيوت. 

أما في الجهة الغربية من "أم العرقان" فهناك بيوتها الحديثة المشادة من الحجر الأبيض، والزجاج، والبلور، تتوفر فيها كل أسباب الحياة العصرية، وفيها أشعر كأنني لم أعد من المدينة التي أمضيت وإياك فيها سنوات الدراسة "ص7". 

 

يقدم الكاتب فى روايته نواة قصة بسيطة، قرية فى كهوف الجبال تتحول إلى بيوت من حجر وطوب ثم تنتقل إلى المدنية بالتدريج عبر مئات السنين، لكنه يقدم الحكاية فى ثوب ملحمى من خلال لغة تسرد الوقائع وتسمو بها فى ذات الوقت بنَفَس شعرى لا يمكن أن يخطئه القارئ. 

خالد وريان أصدقاء تعرفا فى الجامعة، يقرر ريان دراسة علم الاجتماع والعمل بالصحافة، ويقرر خالد دراسة علم الاجتماع والعودة إلى قريته (أم العرقان) لدراسة تاريخها الغائب عنه، بالتحديد العودة إلى الجزء الشرقى القديم التراثى من القرية وليس الجزء الغربى التى تعيش فيه أسرة خالد منذ سنوات. 

 

يتحدث خالد فى عدد من الإيميلات إلى ريان عن القرية وأسرارها، ويؤكد له أنه لن يصل إلى سر القرية إلا إذا رآها بنفسه، والأهم أن يجلس إلى جد خالد ليحدثه عن القرية. 

خالد نفسه لا يعرف الكثير عن القرية، فقد غادرها فمنعته أسرارها باعتباره اختار أن يكون غريبا عنها، لكن الجد لا يحرمه هو وريان من بعض الحكايات التى عرفتها القرية خصوصا مرحلة تأسيسها، النقلة الحضارية من الكهوف إلى البيوت، ومرحلة الهجمة التركية البربرية على القرية التى انتهت بأن فقدت القرية تسعة وتعسين شهيدا تم دفنهم فى كهف واحد هو كهف سعدى الفتاة التى كانت تحلم بالقرية الجديدة ثم دفعت ثمن بنائها. 

 

تسير الرواية فى خطين سرديين متوازيين ومتقاطعين، حكاية انتقال القرية نفسها، وحكايات الغرباء. 

فقد كان أهل القرية يعيشون الشتاء فى الكهوف، والصيف فى خيام أمام الكهوف، لكن شفق ابنة الوراق الرحالة جواب الآفاق تشترط على العزيز الذى جاء يخطبها أن يبنى لها بيتا بعيدا عن الكهوف، بيتا من حجارة، ثم ياتى شرط الأب ألا تكون الحجارة من الكهوف والجبال التى يسكنونها. 

يقرر العزيز أن يبنى مسجدا يكون هو مؤذنه وإمامه وبجواره حجرة الزوجية، وتتضافر جهود القرية كلها لإحضار الحجارة من قرية سامتا القريبة، يعاونهم فى ذلك أهل سامتا أنفسهم والذين تغيرت حياتهم بعد أن بدأت أم العرقان فى الاستجابة لحلم سعدى أخت شفق، فتحول أهالى سامتا إلى قاطعى أحجار لصالح أهل أم العرقان. 

 

يتكرر كل يوم حلم سعدى بأن كل أهالى أم العرقان يسكنون بيوتا من حجارة، ويتزوجون بزوجاتهم مرة أخرى، وكأنهم يبدأون الحياة من جديد فى مكان جديد حول مسجد العزيز، ثم تنقطع الأحلام عن سعدى بعد الذهاب إلى الديار الحجرية، فتختفى، وتشير الرواية إلى أنها اختفت فى كهفها القديم، لكن من دون تأكيدات صريحة. 

أما الغرباء فهم تركى ومغربى وحجازى هبطوا القرية فجأة، وسحروا أهلها بسمتهم المتصوف والعلم اللدنى البادى فى كلامهم، يرفضون سكنى الخيام والكهوف، ويبنون قصرا بالسحر، إذا ترتفع المياه لهم ضد الجاذبية حتى يخلطوه بالتراب، ويحرقوا العجين بالنار، فيكون طوبا، لكن أهل القرية يكتشفون أن هذا القصر ملعون، إذ وضع فى أساساته التركى تمائم وتعاويذ شريرة، ثم قتل رفيقيه وهرب ليلة إتمام بناء القصر، وبعد سنوات يغير جيش تركى على القرية، يقتل الرجال وينهب كل ما فيها من طعام وأموال. 

 

يحكى السارد العليم بضمير الغائب بعض أجزاء الحكاية، ويحكى عدد من الشخصيات الرئيسة مثل خالد وجده أجزاء أخرى بضمير المتكلم كسارد مشارك، ويمكن أن تحدد كم نصيب كل سارد من فصول الرواية، لكنك إذا تركت نفسك للسرد من دون تحديد فستشعر أن مفلح العدوان ترك القلم والروقة للحكاية نفسها لتحكى نفسها وكأنهما فى دفعة واحدة لتترك القارئ بعد ذلك يلتقط أنفاسه عائدا من عبق الأسطورة وبشاعة القتل وسحر الحلم إلى واقعه الآنى، ليعيد النظر فيما جرى والأهم يعيد النظر فيما يجرى له الآن. 

 

ويعضد الكاتب إحساس القارئ بالطبقات الزمنية فى الرواية بترقيم الصفحات والفصول بالعربى والهندى والرومانى، كما أن أساطير الكهف تتجاور مع التحاور عبر الإميل بين خالد وريان، وكأن هذه القرية تجمع العالم كله فى منطقة وتجمع الزمان كله فى زمنها الخاص، فــ(العتبات) هى مناطق/لحظات الوصل والفصل بين الأمكنة/الأزمنة. 

لا يقدم الكاتب فى روايته حكاية مجانية يستمتع فيها القارئ فقط باللغة والحدوتة، لكنه يجبر القارئ على إعادة التفكير فى التاريخ الرسمى والتاريخ الشعبى أيهما أصدق وأيهما أقرب إلى أن يكون حقا لا مجرد حقائق؟ وطبيعة الإنسان التى تحوله من كائن سماوى قريب إلى الإله لكائن شيطانى يقتل من دون رحمة، بل ربما يقتل باستمتاع، وهل هذا ما كان وجرى فى قرية أم العرقان أم هذا ما يحدث ويجرى فى كل مكان يعيش فيه إنسان الآن؟!

منقولة من بوابة الأهرام..

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً