الاثنين 03 فبراير 2025 آخر تحديث: السبت 1 فبراير 2025
الكتابة والجسد في بريد الفراشات للشاعرة المغربية حسنة أولهاشمي - حميد ركاطة
الساعة 10:56 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 

تقديم 
 

تميز ديوان  "بريد الفراشات "(1) للشاعرة المغربية حسنة أو لهاشمي ، بارتكازه على بلاغة الاستعارة ، والكتابة على سارية الجسد . جسد اتخذ صيغة ومفهوما جمعيا ، كما تم إبراز طقوس الكتابة ، مع الكشف عن دلالة المكان ، وصورة وطن ، وتاريخ المنسيين داخل حلم مؤجل .
كما عملت الشاعرة في قصائدها على استحضار بعض الرموز التاريخية ، إلى جانب اهتمامها بالقضية الفلسطينية ، وكذلك صورة الأب ، التي ظلت مهيمنة بقوة إلى جانب صورة الطفولة المغتصبة ، والخيانة ، والحب المتمنع في العلاقات الحميمة .
فكيف برزت هذه القضايا ؟ و بأية خلفية جمالية وإبداعية كتبت ؟

 

1) الكتابة سارية الجسد 
 

يتحول الجسد في قصائد هذا الديوان إلى كهف منسي ، تتعالى فيه أصوات الألم ، ومرارة الهجر . حيث تورق بساتين الوجع ، وتنزف الروح في صمت . لتكشف عن أحلام مؤجلة ، وتراتيل مخنوقة .
إنها قصائد مبتهلة ، يسكن حناياها حريق لا يهزم ، مشرئب بألسنته الملتهبة ، نحو حتف محتوم . وهو ما حول الجسد إلى سارية لنسج قصائد بنهايات موجعة ز تقول الشاعرة :
" للجسد تراتيل لا تسمع
( ..)
تنطق كلما خرس الكون 
وحض ظلي الغائب البعيد " ص 18
فالألم المتقد الذي يسكن مساحات الذات ، يحول ما حوله إلى بوار ، ودمار ، وتغرق الجسد في الحرمان ، والهزيمة ، استعدادا لرحيل مشتهى 
" لا شيء لي 
فقط بعض من ماض 
يشتعل رأسه حكايا صغيرة
( ..)
لا شيء لي 
قطعة من وشاح الملائكة 
تطوق أناشيدي المحزومة 
وقليل من قلب يرتعد " ص 18
فهل قدر هذه القصائد أن تنز بالألم ، والأنين ، والغضب ؟
إنها آهات ذات مليئة بالحرقة ، والحزن ، والأسى ، والأنين ، تفوح منها رائحة الموت ، ترصد وقائع من ماض قاتم .

 

في قصيدة " مراكب الغربة " ص 23 ، تبرز الاشارة إلى الجسد بشكل استعاري ، كجسد جمعي بالدرجة الأولى ، من خلال ما يسرد من قصص ، حول من قضوا نحبهم ، أو من لا يزالون ينتظرون ، وهم يعيشون في ظل النسيان ، موتا بالتقسيط . تقول الشاعرة :
" حكايا حروب " الهند الصينية "
 وبقايا الرصاص الغائر في كتف أبي
اختفى "طربوش أبي "
لم يختف أبي 
اختفى الوطن
بين ملمس وسادة " ص 23/24 

 

فالحكايات ، سردت على لسان طفلة ، تسترجع لحظاتها الحزينة ، وذكريات والدها ، وكذلك ذكريات جيل بأكمله ، خاض حربا ليست بحربه ، ودافع عن قضية ، ليست بقضيته . حكايات تم تضمينها عبر الارتكاز على الاستعارة ، والمجاز ضد النسيان .
" سأشيد قصر الوجع 
على شفا حياة 
سأرمم تاج الشقاء 
على جسر السحاب 
سأكتفي بطاقية الاخفاء 
لأعلن عن عبث مولدي " ص 25 
كما ستعمل على كشف واقع حاضرها المؤلم ، وأثر مرارته على ذاتها الجريحة .
" غدا سأدس هزيمتي في قبر الوطن " ص 25
وهو ما يدفعنا إلى التساؤل حول أسباب هذا الاصرار ، وبالتالي الكشف عن بعض من حيثياته الخفية . تقول الشاعرة :
" الوطن للثائرين 
الوطن للعائدين من الحرب
( ..)
الوطن للفلاحين
للشعراء النائمين على صدر الكلمات
للعذارى 
(..)
الوطن للأطفال الممددة أجسادهم
تحت حزام الأسى " ص 26/27 

 

فالشاعرة تحاول إعادة وطن مسلوب ، لأصحابه الفعليين ، من ثوار ، وجنود ، وفلاحين ، وأطفال ، وشعراء ... ممن اختاروا مراكب الغربة ، وحياة العزلة ، وهم ينتظرون موتهم في حجر الوطن .
فلوعة الغياب ـ تظل قدر العديد من القصائد التي تحول لحظات الانتظار إلى جحيم أبدي . من خلال ما برز من تداعي صور شعرية في أمداء التيه ، ولهيب الجراح . حيث تفتح الشاعرة علبة ذكرياتها لرصد العديد من اللحظات المنفلتة. تقول في قصيدة " النوارس لم تعد " ص 7
على شاطئ البياض
رسمتك بحرا 
رسمتني زرقة تمتص شرود السماء " 
ولعل شخصنة المكان سيفتح المجال عبر بلاغة الاستعارة لرصد أحاسيس الأشياء بقوة ، وبسلاسة . تقول الشاعرة 
" لم يبق في الشاطئ 
إلا ضباب كلمات رهيفة 
تغشى ثغر السماء
شفتاه تتلون قبلة

شفتاه تتلون قبلة 
لفتها الريح على معصم البحر " ص 8

 

وبالتالي سيتم تأثيثه من جديد لتتفاعل بداخله الأشياء "المشخصنة" ، مع غيرها . كما حدث مع غناء الربان العجوز ، الذي ستحكي من خلاله قصصا يسمعها الموج ، والليل ، والنجوم ، وتتفاعل معها . فهذا اللعب اللغوي بارتكازه على الاستعارة الأنيقة ، والمجاز ، والشخصنة ، سيعمل على توظيف " أو " استيراد مفاهيمي " عبر اللجوء إلى الترميز ، لفتح مسارات جديدة للدلالة والمعنى المقصود ، المحيل ، أولا وأخير على ذات الشاعرة ، وعوالمها الداخلية ، وهي تحاول الوصول إلى المحلوم به في عالم جميل .
" تتدلى النجوم عارية
تمسك قبعة العجوز
ترقص
تحتفي بالنصر 
تبتسم للعاشقين " ص 9

 

فالقصيدة بقدر ما احتفت بالغياب في عتبتها " النوارس لم تعد "و أكدته أكثر من مرة، عملت على البحث عن بدائل أخرى للتعبير عن النجوى الداخلية ، من افتقاد ، وحنين ، وألم الذات الممزقة ، التي سيتم ترميم تيهها في النهاية .
 

 

2) الكتابة بين الطقس ، والانحباس 
 

هل للكتابة زمن محدد ؟ وهل لكل كاتب طقوسه الخاصة ، وأدواته المحببة ؟ ثم هل يمكن دحض هذا الامر أو تأكيده ؟
يرى بعض الكتاب أن الكتابة غالبا ما تتحقق وفق طقوس محددة ، وزمن محدد . ولكل مبدع عاداته الخاصة . غير أن هذا الطرح قد يدحضه البعض الآخر ، مرتكزين في ذلك على اختلاف الذائقة الابداعية ، وسنلمس أن الشاعرة في قصيدة " ايها الليل " ص 55 من خلال دعوتها لليل بتجريدها من السكون ، لتكتب النسيان في ذاكرتها لتلتم فوضى القوافي ، وهو ما يكشف تميز عوالم الكتابة ، والكتاب عموما ، فالصرامة ، والنظام ، والهدوء ، يعتبران أحيانا قتلا شنيعا ، أو طقسا مفتعلا لتكريس طقس ما كأسلوب أو نظام حياة ، فالكتابة لا تنتعش إلا داخل الفوضى ذاتها لتضحى نظاما ضاجا بالحياة ، والحبور ، والانتشاء ، والحركة . كما أنها تبرز محيلة على الرغبة ، ودافعة نحو الابداع . فوضى الكاتب هي التي تولد نظام الأشياء حوله ، وبداخله ، ومن خلالها يفصح عن مكنون الذات ، والمشاعر . يحاورها ، يشخصنها ، يؤطرها بجنون قاتل ، معبرا عما يناسبها من من صفات وأشكال ، وألوان . هكذا سيرتل الناي ترانيم الوجع البائد ، سيغرد الموت ، وستقرع طبول العمر باب السحاب ، وسيسكب هزيز الذاكرة في كف النسيان ، وتغتسل الأنوثة بمطر الحلم.
إنه عالم متخيل ، مرغوب فيه ، يتشكل وفق رغبات ، وتصورات في زمن محدد . فمناجاة الليل هي محاولة لتبديد فظاعة القتامة التي تسكن الروح ، وتمزق الذات الشاعرة .
أيها الليل 
لا تلوك وجع البياض 
دعه يرسمني نهرا وحيدا
في أقاصي الحيرة
يقتات على مواويل ذبلة 
رددها حبل حزين " ص 56 

 

فالكتابة الشعرية عن المبدعة حسنة أولهاشمي ، لا تستقيم ملامحها ، ولا تتضح دون وضعها داخل إطارها الصحيح ، ووفق اختياراتها التي بدلت فيها مجهودا كبيرا ، في محاولة لإبراز أصالتها ، وصياغة قالبها الخاص برمزية مؤثثاته الدالة ، والعميقة التي تقتات من روح الشاعرة ، ومن ذاتها . عبر ما تبته من أنفاس في أقلصي الذات المحترقة ، ومن نبض قلبها الحزين .
 

كما تبرز رهبة الكتابة على واجهة البياض الآسر بامتداده الرحب ، الذي تنكسر عنده القريحة ، أو تتحقق  فوقه الكتابة بانسياب . وقد يعود سبب ذلك إلى ما ترسب في لا وعينا عن مفهومي البياض ، والفراغ ربما . فقد لا نشعر بالاطمئنان النفسي ، إلا بالتسويد وملء الفراغات . في حين أن جمالية البياض تزداد مع نحافة النص المكتوب المقتر ، والمقطر بعناية كرحيق زهرة صغيرة . وفي جمال جسد امرأة هيفاء يشد قوامها أنفاس العابرين. كذلك القصيدة التي  لا غلو في تفاصيلها ، ولا إطناب في معناها ، ولا خلل في بنائها . لا تتراص إلا كقديسة على بياض دال" برموزه " المتعددة المحيلة على الولادة ، والفرح ، والموت ...كما أنه بياض قابل للهتك نظرا لتمنعه ،وصلابته كنقيض لكل دناسة في ايحائه على الطهر ، والتقوى ، والتنسك . في مقابل الدنس ، والرعونة ،  والتمرد ... الذي يظهره السواد ( أحيانا ، وليس دائما  بالمقارنة مع البياض ) . لكن اقترانهما اعلان عن مجاسدة ، والتحام أبدي . 
 

هكذا تعلن الشاعرة في  قصيدة " بياض " ص 99 عن نفسها في مواجهة البياض ،ووهي تخاطبه بنوع من القداسة ، والاجلال .
" اخلع نعلك  أيها البياض 
حافيا مزق صمت المداد
اسق عطر ليلي
من واديك المقدس " ص 99 
فالبياض بجبروته ( يتناص هنا مع خطاب الله سبحانه وتعالى لموسى عليه السلام ) ومن الهالة التناصية ، والرمزية كذلك  التي تتم الاشارة إليها وفق رؤى ، وطقوس ، ترتحق من حقول القداسة ، والتصوف ، ومن لغة الجسد ، واسراره ، ومن حجب القصيدة ، وعنفوانها مجموعة من المكونات التي تحولها إلى أيقونة هذا الديوان . كما أن الشاعرة تختم بها قصائدها فاتحة بذلك أمام القارئ امتدادات لا نهائية من بياض عصي على الادراك . 

 

 

3) دلالة المكان في بريد الفرشات

 


تتم الاشارة إلى العديد من الأمكنة " الزقاق ، تحت شجرة التين  ، "  في نص بريدي الفراشات . فالإشارة إلى الجلوس تحت شجرة تين ، يحيل على مكان انتظار ، جلوس شكل في نظرنا حقلا دلاليا و رمزيا لصورة مزدوجة ،  مرحلة البراءة ، وكذلك (  كمان مدنس كما تم الاعلان عنه القصيدة بعد ذلك .
" خلف الزقاق القديم
تسابق الريح
على أرصفة سماؤها تلتحف الخطيئة " ص 11 
وهذا التشييد التقابلي ستعكسه كذلك نفسية الطفلة الصغيرة ، وهي تعبر زقاق غاصا بالمارة .
يخفق نبضها الهش 
مرتجفة تعدو
يبتلع ضجيج العابرين جسدها الصغير " 
فالمكان بمكوناته المتعددة يكشف عن نوع من الرهبة ، وعن نوع من المجون ، والقذارة عبر صور مسترسلة ، بوثيرة سريعة تنيخ بظلالها القاسية على واقع اجتماعي هش ، وحزن على ضياع الحلم ، والكرامة ، والشرف "
" الصبايا عاريات 
إلا من سترة وجع سحيق
يغتسلن بلفيح الوهم 
بعيدا 
(..)
يرسمن وشما مبجلا 
على جيد الزقاق القديم 
تغفو أناملهن في في ثوب الوجع " ص 12/13  

 

فالزقاق مليء  بالفواجع ،والانكسارات المعيقة لكل تحليق ، وهو ما يمنح الاحساس بالاحباط داخل البلدة كذلك .
"بلدة خجلى تبيح خطايا الربيع
 (..)
تؤجل بريد الفراشات " ص 13
فبريد الفرشات هو حلم مؤجل ، في بلدة تنسكب في أعماق ساكنتها نار الانتظار ،ووقع الهزيمة ، وسيتأخر فيها بريد الفراشات التي غفت في سرير واديها المنسي . 
ولعل قصيدة " مدينة الصمت " ص 59 ستشمل امتدادا منطقيا للقصيدة السابقة بالإضافة الى قصدتي  " مراكب العزلة " ص 23 ، وقصيدة " بلدة لا تنام " ص 47 . في رصدها لمكونات المكان ، وفظاعة ما تنقله من صور مهينة ، خالية من العزة والكرامة ، عن حياة بعض الأفراد . مدينة تتهاوى فيها قصص الأبطال ، تتحول إلى فضاء للتشرد ، والموت ، والجنون ، والحزن . خلف أسوارها ، وازقتها الطافحة بالبؤس ،والخطيئة ، والنسيان ، والانكسار ( محاربين قدامى ، واطفال شوارع ،  ونساء يعتصرن زمن دعارة بفيض ، وهن يلوحن للعابرين في الساحات العامة . إنه المكان الذي سيسفح فيه دم الفراشات داخل وطن جريح ، والمكان التي أجهضت فيه الأحلام ، وصودرت فيه الأمنيات البالية . 
" تلك مدينة مرت  ذات شرود
ذاك شرود مر ذات يقظة " ( مدينة الصمت ص 60  ) 

 

كما ستعمل الشاعرة على رسم ملامح تاريخ منسي بأمجاده تم نسيانه مع توالي الزمن ، وفضاءات شكلت حلما جميلا اغتيل ، لكنه ظل موشوما في طيات الأسطورة . حيث تبرز صورة " ديهيا " الملكة الأمازيغية ، لتعري عن شطط التاريخ ، وإجحافه . معلنة موت الجسد ، وبالتالي الوطن . فتضمين التاريخ ، والأسطورة داخل المتن الشعري كشف عن عقود من الخيانة ، وعمل كذلك على محاولة إعادة الاعتبار للمجد المنسي الذي لم تعد ظلاله كافية لابراز شموخه . في زمن الخيانات المتكررة  للوطن ، ولرموزه .
يا جسدي 
يا وطني 
ما عدت ثائرة بما يكفي 
لأخلص لجبروتك
ما عدت حيا بما يكفي 
لتخلص لموتي " ص 42 

 

وسيتحول المكان إلى جسد مسبي من خلال قصيدة " بلدة لا تنام " ص 43 يرضع فيها العابرون حلمة دواليها ، التي تغزل في حياء أنين عصفور . وستبرز الاستعارة اللغوية غير المهادنة صورا فظيعة تنز كالجرح المثخن ، من دعارة ، وبؤس ، تتداعى صورها بين طيات المكان " الجسد المغتصب "
 " تلك بلدة 
نحتت الارض غواية 
فستانها الفلفلي 

(..)
رعشة سالبة 
لب العازفين 
على وتر أطلسي " ص 44

 

فصورة الوطن الجريح ، والمنسي ، والمخذول ، سيتكرر في هذه القصائد كصور للطفولة ، والاب ، والجسد المستباح ، حيث يبرز الموت بهالته كوسيلة ورغبة في الخلاص ، من واقع يتناسل فيه الوجع ، والرفض والسخط .
 

 

4) الطفولة المغتصبة ،و صورة الأب 
 

تبرز صورة الطفولة في قصيدة " دمى الريح " ص 35 ، كطفولة حزينة . جراء فقد ووجع اهتزت له مكونات الطبيعة: ( وادي يدمع ، أزهار تذبح ، ريح تبتلع هسيس القبلات ، صراخ أزمنة موجعة ..) . حيث تفتح طفلة صغيرة بوابات البوح حول والدها ، مطالبة إياه أن ينسج فصيلتها من دم الفراشات . وأن يصنع لها جناحا قبل مولدها . وهي مطالب مستحيلة ، لكنها ترقد في رحم الممكن ، وداخل أزمنة تكلى . عبر توق كبير للهروب من رهبة الواقع ، وعنفه . فدمى الريح امتصت بنوع من الحسرة تنهيدات الغابة ، ونحتت عويل الحطابين ، لتعلن عن تمرد القصيدة " دمى الريح

الريح امتصت بنوع من الحسرة تنهيدات الغابة ، ونحتت عويل الحطابين ، لتعلن عن تمرد القصيدة " دمى الريح تجترح فصوص وطن نحيل 
" وطن علقت ذاكرته على بوابة المدافن 
لا حارس يشذب جناح الموت 
لا نسائم تناغي زهر الدفلى 
حين تردد رئته نشيد رحيل مبكر " ص 37 

 

فالذات الشاعرة تتماهى مع مكونات الطبيعة ، وتستلهم روحها أيضا عبر الشخصنة ، لتبت على لسانها ألما وجوديا ، يحول الذات وطنا ، ولحنا حزينا ، وقصيدة حبلى بأسرار المجاز ، وغواية الماء .
كما تعمل بعض  القصائد على استحضار أرواح من استشهدوا في سبيل الوطن ، للدلالة على أمجاد آفلة ، لم يستطع الأحفاد الحفاظ عليها ، أو تثمينها على الأقل . كما في قصيدة "ظلال نائمة " ص 63 ، التي تهديها إلى روح والدها بنوع من الحنين من زمن منفلت ،  وتاريخ مغلف بالقهر ، والانكسار "
أتذكر كم كنت أصرخ في وجه عقارب الزمن ؟
أتذكر كم كنت أسخر من تمردي الساذج ؟
وأنت تدنو من الرحيل "
فاستحضار اللحظات الأخيرة ، ينتابها صراع مع الذات ، ومع الزمن ، وهو يلقنها وصاياه الأخيرة .وهي تترجى الموت أن يمهله قليلا . لكن دون جدوى لتتجرع ما تبقى من قهرها بعد رحيله .
ناجيتك 
ناديتك 
توسلت لموتك أن تمهلك لحظة 
حتى تصفح عن ليلي الغافي تحت جناحيك 
وتحرر أزهار الوادي الشائكة " ص 64 

 

فحضور الأب في أكثر من قصيدة ، يكشف عن طبيعة علاقة خاصة ، وحميمة معه . ليضحى موته في الواقع موتها الآخر الذي تحول عبر الزمن إلى موت سريري دسه الخريف في كهف زهرة تكلى . وفي طفولتها التي جرفها نهر كبير كزنبقة صغيرة .
 

لقد ظلت صورة الأب مندسة بوجع في الحنايا، كبقايا رصاص غائر في كتف محارب ، وشظايا تفتت الفراغ ، وشعاب الأنين . فالأب صورة لوطن معنوي  ظل شامخا في أعماقها ، في الوقت الذي تحول وطنها المادي ، غارقا في هزائمه ، وانكساراته .
فاللوعة التي كتبت بها هذه القصائد ، ترجع أسباب الشقاء كلها إلى الفقد ، والموت ، وتحول حزن الذات إلى حزن أبدي ، وعذاب سرمدي . ولد أكثر من زواية قائمة لرؤية أجمل الأشياء على الإطلاق . ما كشف عن جانب أحادي في النظر ، إذا ما أضفنا إليه انكسارات أخرى تمت الاشارة إليها في قصائد أخرى من قبيل " تسلبني زمنا " ص 51 .
فصورة الأب هي تجليات لصورة الذات المحترقة ، في ديوان بريد الفراشات ،" وصور كل الصامتين الذين يعبرون حسر الكلمة التي تحوم الروح بحثا عن دهشة الحرية " كما جاء في الاهداء ص 3 ، والثوار ، والمحاربين القدامى " ص 26 ، وأزهار الأقصى " ص 21 . فلانكاد تخلو قصيدة في هذا الديوان من استحضار صورة هؤلاء بنوع من الاستعارة الجميلة ، أو المجاز الباذخ . وأحيانا تبرز بكل مباشر سواء من خلال العناوين " العتبات" ، أو تدس بين ثنايا أبيات تردد صدى الفقدان كظلال متساقطة . أو وشوشات مؤنسة . إلى جانب الرغبة الملحة في الرحيل ، ومعانقة تلك الظلال سواء في الحلم ، أو في الصحو .
" يا رفيق الحلم
رتب حقائب الموت على مهل " ص 71 قصيدة " تذاكر الرحيل "
" وأرحل مع فراشاتي النائمة على رموشك " ص 65 قصيدة " ظلال نائمة " 
" الفقد يعرس نبال الوجع في أرصفة الطفولة " دمى الريح " ص 35 ، ومراكب الغربة " 23 .

 

 

5) بين  الحب والخيانة 
 

إلى جانب الاشارة إلى صورة الأب ، والذات ، والوطن ، والطفولة ، تستحضر صور أخرى عن الحب ، والخيانة . كما في قصيدتي " ما تبقى منك " ص73  ، وقصيدة " في الطريق إليك " ص 81 ، حيث تبرز الشاعرة في القصيدة الاولى تفاصيل مرة ، وهي تميط اللثام عن أكثر من قناع عن وجه حبيبها. 
" وأنت تجتر عشقا كان 
تذكر كم يلزم الطريق 
لتبتلع غبار اللحن المنكمش بين شقوق الكمان 
( ...) 
تغرس صخب الظلال في جسدي المحترق 
تدعوني للموت تحت جذور 
لا تهزمها حشرجات الرياح " .
وهو ما كشف عن نوع من الجرأة النادرة بعيدا عن الخطاب المنكسر الذي لمسناه في قصائد سابقة ، لأنها تنزح بسخريتها السوداء ، وعنادها الصلب إلى كشف وجه من وجوه الحقيقة . 
كمة يلزم النهر من شهقة ليلمس كف السماء ؟
كم يلزم السماء من رماد
لتنقس وشما على ساق الماء ؟ " ص 74 .

 

كما تبرز كذلك نوعا من التحدي عبر لغة واصفة ، بحيت تبرز الشاعرة من خلاله مآل عشيقها الخائن بسخرية . فالصور المتداعية مكتنزة بالعديد من الايحاءات المرتبطة ، والدالة ، تصيب المهو في مقتل ، وهي تنزع أوراق التوت عن جسده ، تعري زيفه القاتل ، والمكشوف :

تسلبني عمرا 
يهديني قمرا 
نصفه يذوب فيك 
ويبقى النصف الآخر 
شاهدا على موتك في 
لأحيا لذة جبروتك
في ما تبقى منك " ص 75 
وهو ما يدفعنا إلى التساؤل عن الأسباب المولدة للقسوة ، والألم ، سواء في النظر إلى الحياة ، أو إلى الآخر ؟ ومن تم هل يمكن الجزم أن الخيانة تولد في رحم القسوة ، والألم ، لتحول الحب إلى كراهية مطلقة ، وإلى شقاء أبدي ؟

 

فالشاعرة ترفض أن تطلق رصاصة رحمة أخيرة على ضحيتها ، ليموت موتا رحيما .
غير أن هذه الصورة ، سرعان ما سوف تعرف تغيرا ، وستتخذ مسارا مخالفا في قصيدة " في الطريق إليك " ص 81 ، حيث نلمس مشاعر فياضة ،وهدوء على مستوى التعامل مع الآخر ، بحيث تكشف الشاعرة عن حيثيات عشق فريد ، رغم ما تسبب فيه الحفاء ، والفراق من افتقاد ، وكدر . لتعمل جاهدة على ترميم تصدعات الغياب المفاجئ ، وعناد عشيقها المتمرد .
" في الطريق إليك 
تتنهد حبات الرمل 
تكتب اسمك حشرجات نوارس ضريرة
ضيعت حضن المراسي " ص 81 
كما ستصفه بالراهب العنيد ، لتوجسه ،وخوفه البغيض ، موارية أحاسيسها القلقة ، كاشفة تعلقها الكبير به "
أيها الراهب العنيد
( ..)
رتل لوعة الهجر في محراب الذكرى السحيق
ارسم فجوة الهوى على شفاه الغيمات 
برفق رتق ثوب الوصال عند مفترق النجوم " ص 82 .

 

وهو خطاب مخالف للمعتاد ، فهذه القصيدة التي شكلت استثناء من المرجح أنها من قصائد البدايات ، وأن ادراجها داخل الديوان لم يخضع للتسلسل الزمني . بل وضعت بشكا اعتباطي
على سبيل الختم 
لقد كشف ديوان " بريد الفراشات " للشاعرة المغربة حسنة أولهاشمي عن قصائده تورق فيها بساتين الوجع ، وعن أحلام الذات المؤجلة . كتابة ارتكزت أساسا على سارية جسد اتخذ صورا ظلال هاربة ، أو طفولة مغتصبة ، أو موت سرق عزيزا ، أو وطنا مسلوبا . وارتكازا على الشخصنة حينا ، وعلى الاستعارة والمجاز ، والاستبدال اللغوي والمفاهيمي حينا آخر . ما كشف عن سعي حثيث وانتكاس نحو عوالم الداخل بحثا عن المحلوم به . كما تميزت بعض القصائد بحس شعري مائز ، ووعي كبير بإشكال الكتابة ، ومواجهة البياض، وعدوانيته ، وعنفوانه .  بهمس يقتات من الروح ، ومن الذات الدائمة الاحتراق ، لتبرز كتابتها  كبياض مناقض لكل دناسة ، نزوعا نحو قداسة ، وطهر أبدي .  

 

---------  
( 1)   حسنة أولهاشمي بريد الفراشات شعر ط1 / مطبعة القروين ، الدار البيضاء 2015.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص