الاثنين 23 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
الكتابة والجسد في بريد الفراشات للشاعرة المغربية حسنة أولهاشمي - حميد ركاطة
الساعة 10:56 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 

تقديم 
 

تميز ديوان  "بريد الفراشات "(1) للشاعرة المغربية حسنة أو لهاشمي ، بارتكازه على بلاغة الاستعارة ، والكتابة على سارية الجسد . جسد اتخذ صيغة ومفهوما جمعيا ، كما تم إبراز طقوس الكتابة ، مع الكشف عن دلالة المكان ، وصورة وطن ، وتاريخ المنسيين داخل حلم مؤجل .
كما عملت الشاعرة في قصائدها على استحضار بعض الرموز التاريخية ، إلى جانب اهتمامها بالقضية الفلسطينية ، وكذلك صورة الأب ، التي ظلت مهيمنة بقوة إلى جانب صورة الطفولة المغتصبة ، والخيانة ، والحب المتمنع في العلاقات الحميمة .
فكيف برزت هذه القضايا ؟ و بأية خلفية جمالية وإبداعية كتبت ؟

 

1) الكتابة سارية الجسد 
 

يتحول الجسد في قصائد هذا الديوان إلى كهف منسي ، تتعالى فيه أصوات الألم ، ومرارة الهجر . حيث تورق بساتين الوجع ، وتنزف الروح في صمت . لتكشف عن أحلام مؤجلة ، وتراتيل مخنوقة .
إنها قصائد مبتهلة ، يسكن حناياها حريق لا يهزم ، مشرئب بألسنته الملتهبة ، نحو حتف محتوم . وهو ما حول الجسد إلى سارية لنسج قصائد بنهايات موجعة ز تقول الشاعرة :
" للجسد تراتيل لا تسمع
( ..)
تنطق كلما خرس الكون 
وحض ظلي الغائب البعيد " ص 18
فالألم المتقد الذي يسكن مساحات الذات ، يحول ما حوله إلى بوار ، ودمار ، وتغرق الجسد في الحرمان ، والهزيمة ، استعدادا لرحيل مشتهى 
" لا شيء لي 
فقط بعض من ماض 
يشتعل رأسه حكايا صغيرة
( ..)
لا شيء لي 
قطعة من وشاح الملائكة 
تطوق أناشيدي المحزومة 
وقليل من قلب يرتعد " ص 18
فهل قدر هذه القصائد أن تنز بالألم ، والأنين ، والغضب ؟
إنها آهات ذات مليئة بالحرقة ، والحزن ، والأسى ، والأنين ، تفوح منها رائحة الموت ، ترصد وقائع من ماض قاتم .

 

في قصيدة " مراكب الغربة " ص 23 ، تبرز الاشارة إلى الجسد بشكل استعاري ، كجسد جمعي بالدرجة الأولى ، من خلال ما يسرد من قصص ، حول من قضوا نحبهم ، أو من لا يزالون ينتظرون ، وهم يعيشون في ظل النسيان ، موتا بالتقسيط . تقول الشاعرة :
" حكايا حروب " الهند الصينية "
 وبقايا الرصاص الغائر في كتف أبي
اختفى "طربوش أبي "
لم يختف أبي 
اختفى الوطن
بين ملمس وسادة " ص 23/24 

 

فالحكايات ، سردت على لسان طفلة ، تسترجع لحظاتها الحزينة ، وذكريات والدها ، وكذلك ذكريات جيل بأكمله ، خاض حربا ليست بحربه ، ودافع عن قضية ، ليست بقضيته . حكايات تم تضمينها عبر الارتكاز على الاستعارة ، والمجاز ضد النسيان .
" سأشيد قصر الوجع 
على شفا حياة 
سأرمم تاج الشقاء 
على جسر السحاب 
سأكتفي بطاقية الاخفاء 
لأعلن عن عبث مولدي " ص 25 
كما ستعمل على كشف واقع حاضرها المؤلم ، وأثر مرارته على ذاتها الجريحة .
" غدا سأدس هزيمتي في قبر الوطن " ص 25
وهو ما يدفعنا إلى التساؤل حول أسباب هذا الاصرار ، وبالتالي الكشف عن بعض من حيثياته الخفية . تقول الشاعرة :
" الوطن للثائرين 
الوطن للعائدين من الحرب
( ..)
الوطن للفلاحين
للشعراء النائمين على صدر الكلمات
للعذارى 
(..)
الوطن للأطفال الممددة أجسادهم
تحت حزام الأسى " ص 26/27 

 

فالشاعرة تحاول إعادة وطن مسلوب ، لأصحابه الفعليين ، من ثوار ، وجنود ، وفلاحين ، وأطفال ، وشعراء ... ممن اختاروا مراكب الغربة ، وحياة العزلة ، وهم ينتظرون موتهم في حجر الوطن .
فلوعة الغياب ـ تظل قدر العديد من القصائد التي تحول لحظات الانتظار إلى جحيم أبدي . من خلال ما برز من تداعي صور شعرية في أمداء التيه ، ولهيب الجراح . حيث تفتح الشاعرة علبة ذكرياتها لرصد العديد من اللحظات المنفلتة. تقول في قصيدة " النوارس لم تعد " ص 7
على شاطئ البياض
رسمتك بحرا 
رسمتني زرقة تمتص شرود السماء " 
ولعل شخصنة المكان سيفتح المجال عبر بلاغة الاستعارة لرصد أحاسيس الأشياء بقوة ، وبسلاسة . تقول الشاعرة 
" لم يبق في الشاطئ 
إلا ضباب كلمات رهيفة 
تغشى ثغر السماء
شفتاه تتلون قبلة

شفتاه تتلون قبلة 
لفتها الريح على معصم البحر " ص 8

 

وبالتالي سيتم تأثيثه من جديد لتتفاعل بداخله الأشياء "المشخصنة" ، مع غيرها . كما حدث مع غناء الربان العجوز ، الذي ستحكي من خلاله قصصا يسمعها الموج ، والليل ، والنجوم ، وتتفاعل معها . فهذا اللعب اللغوي بارتكازه على الاستعارة الأنيقة ، والمجاز ، والشخصنة ، سيعمل على توظيف " أو " استيراد مفاهيمي " عبر اللجوء إلى الترميز ، لفتح مسارات جديدة للدلالة والمعنى المقصود ، المحيل ، أولا وأخير على ذات الشاعرة ، وعوالمها الداخلية ، وهي تحاول الوصول إلى المحلوم به في عالم جميل .
" تتدلى النجوم عارية
تمسك قبعة العجوز
ترقص
تحتفي بالنصر 
تبتسم للعاشقين " ص 9

 

فالقصيدة بقدر ما احتفت بالغياب في عتبتها " النوارس لم تعد "و أكدته أكثر من مرة، عملت على البحث عن بدائل أخرى للتعبير عن النجوى الداخلية ، من افتقاد ، وحنين ، وألم الذات الممزقة ، التي سيتم ترميم تيهها في النهاية .
 

 

2) الكتابة بين الطقس ، والانحباس 
 

هل للكتابة زمن محدد ؟ وهل لكل كاتب طقوسه الخاصة ، وأدواته المحببة ؟ ثم هل يمكن دحض هذا الامر أو تأكيده ؟
يرى بعض الكتاب أن الكتابة غالبا ما تتحقق وفق طقوس محددة ، وزمن محدد . ولكل مبدع عاداته الخاصة . غير أن هذا الطرح قد يدحضه البعض الآخر ، مرتكزين في ذلك على اختلاف الذائقة الابداعية ، وسنلمس أن الشاعرة في قصيدة " ايها الليل " ص 55 من خلال دعوتها لليل بتجريدها من السكون ، لتكتب النسيان في ذاكرتها لتلتم فوضى القوافي ، وهو ما يكشف تميز عوالم الكتابة ، والكتاب عموما ، فالصرامة ، والنظام ، والهدوء ، يعتبران أحيانا قتلا شنيعا ، أو طقسا مفتعلا لتكريس طقس ما كأسلوب أو نظام حياة ، فالكتابة لا تنتعش إلا داخل الفوضى ذاتها لتضحى نظاما ضاجا بالحياة ، والحبور ، والانتشاء ، والحركة . كما أنها تبرز محيلة على الرغبة ، ودافعة نحو الابداع . فوضى الكاتب هي التي تولد نظام الأشياء حوله ، وبداخله ، ومن خلالها يفصح عن مكنون الذات ، والمشاعر . يحاورها ، يشخصنها ، يؤطرها بجنون قاتل ، معبرا عما يناسبها من من صفات وأشكال ، وألوان . هكذا سيرتل الناي ترانيم الوجع البائد ، سيغرد الموت ، وستقرع طبول العمر باب السحاب ، وسيسكب هزيز الذاكرة في كف النسيان ، وتغتسل الأنوثة بمطر الحلم.
إنه عالم متخيل ، مرغوب فيه ، يتشكل وفق رغبات ، وتصورات في زمن محدد . فمناجاة الليل هي محاولة لتبديد فظاعة القتامة التي تسكن الروح ، وتمزق الذات الشاعرة .
أيها الليل 
لا تلوك وجع البياض 
دعه يرسمني نهرا وحيدا
في أقاصي الحيرة
يقتات على مواويل ذبلة 
رددها حبل حزين " ص 56 

 

فالكتابة الشعرية عن المبدعة حسنة أولهاشمي ، لا تستقيم ملامحها ، ولا تتضح دون وضعها داخل إطارها الصحيح ، ووفق اختياراتها التي بدلت فيها مجهودا كبيرا ، في محاولة لإبراز أصالتها ، وصياغة قالبها الخاص برمزية مؤثثاته الدالة ، والعميقة التي تقتات من روح الشاعرة ، ومن ذاتها . عبر ما تبته من أنفاس في أقلصي الذات المحترقة ، ومن نبض قلبها الحزين .
 

كما تبرز رهبة الكتابة على واجهة البياض الآسر بامتداده الرحب ، الذي تنكسر عنده القريحة ، أو تتحقق  فوقه الكتابة بانسياب . وقد يعود سبب ذلك إلى ما ترسب في لا وعينا عن مفهومي البياض ، والفراغ ربما . فقد لا نشعر بالاطمئنان النفسي ، إلا بالتسويد وملء الفراغات . في حين أن جمالية البياض تزداد مع نحافة النص المكتوب المقتر ، والمقطر بعناية كرحيق زهرة صغيرة . وفي جمال جسد امرأة هيفاء يشد قوامها أنفاس العابرين. كذلك القصيدة التي  لا غلو في تفاصيلها ، ولا إطناب في معناها ، ولا خلل في بنائها . لا تتراص إلا كقديسة على بياض دال" برموزه " المتعددة المحيلة على الولادة ، والفرح ، والموت ...كما أنه بياض قابل للهتك نظرا لتمنعه ،وصلابته كنقيض لكل دناسة في ايحائه على الطهر ، والتقوى ، والتنسك . في مقابل الدنس ، والرعونة ،  والتمرد ... الذي يظهره السواد ( أحيانا ، وليس دائما  بالمقارنة مع البياض ) . لكن اقترانهما اعلان عن مجاسدة ، والتحام أبدي . 
 

هكذا تعلن الشاعرة في  قصيدة " بياض " ص 99 عن نفسها في مواجهة البياض ،ووهي تخاطبه بنوع من القداسة ، والاجلال .
" اخلع نعلك  أيها البياض 
حافيا مزق صمت المداد
اسق عطر ليلي
من واديك المقدس " ص 99 
فالبياض بجبروته ( يتناص هنا مع خطاب الله سبحانه وتعالى لموسى عليه السلام ) ومن الهالة التناصية ، والرمزية كذلك  التي تتم الاشارة إليها وفق رؤى ، وطقوس ، ترتحق من حقول القداسة ، والتصوف ، ومن لغة الجسد ، واسراره ، ومن حجب القصيدة ، وعنفوانها مجموعة من المكونات التي تحولها إلى أيقونة هذا الديوان . كما أن الشاعرة تختم بها قصائدها فاتحة بذلك أمام القارئ امتدادات لا نهائية من بياض عصي على الادراك . 

 

 

3) دلالة المكان في بريد الفرشات

 


تتم الاشارة إلى العديد من الأمكنة " الزقاق ، تحت شجرة التين  ، "  في نص بريدي الفراشات . فالإشارة إلى الجلوس تحت شجرة تين ، يحيل على مكان انتظار ، جلوس شكل في نظرنا حقلا دلاليا و رمزيا لصورة مزدوجة ،  مرحلة البراءة ، وكذلك (  كمان مدنس كما تم الاعلان عنه القصيدة بعد ذلك .
" خلف الزقاق القديم
تسابق الريح
على أرصفة سماؤها تلتحف الخطيئة " ص 11 
وهذا التشييد التقابلي ستعكسه كذلك نفسية الطفلة الصغيرة ، وهي تعبر زقاق غاصا بالمارة .
يخفق نبضها الهش 
مرتجفة تعدو
يبتلع ضجيج العابرين جسدها الصغير " 
فالمكان بمكوناته المتعددة يكشف عن نوع من الرهبة ، وعن نوع من المجون ، والقذارة عبر صور مسترسلة ، بوثيرة سريعة تنيخ بظلالها القاسية على واقع اجتماعي هش ، وحزن على ضياع الحلم ، والكرامة ، والشرف "
" الصبايا عاريات 
إلا من سترة وجع سحيق
يغتسلن بلفيح الوهم 
بعيدا 
(..)
يرسمن وشما مبجلا 
على جيد الزقاق القديم 
تغفو أناملهن في في ثوب الوجع " ص 12/13  

 

فالزقاق مليء  بالفواجع ،والانكسارات المعيقة لكل تحليق ، وهو ما يمنح الاحساس بالاحباط داخل البلدة كذلك .
"بلدة خجلى تبيح خطايا الربيع
 (..)
تؤجل بريد الفراشات " ص 13
فبريد الفرشات هو حلم مؤجل ، في بلدة تنسكب في أعماق ساكنتها نار الانتظار ،ووقع الهزيمة ، وسيتأخر فيها بريد الفراشات التي غفت في سرير واديها المنسي . 
ولعل قصيدة " مدينة الصمت " ص 59 ستشمل امتدادا منطقيا للقصيدة السابقة بالإضافة الى قصدتي  " مراكب العزلة " ص 23 ، وقصيدة " بلدة لا تنام " ص 47 . في رصدها لمكونات المكان ، وفظاعة ما تنقله من صور مهينة ، خالية من العزة والكرامة ، عن حياة بعض الأفراد . مدينة تتهاوى فيها قصص الأبطال ، تتحول إلى فضاء للتشرد ، والموت ، والجنون ، والحزن . خلف أسوارها ، وازقتها الطافحة بالبؤس ،والخطيئة ، والنسيان ، والانكسار ( محاربين قدامى ، واطفال شوارع ،  ونساء يعتصرن زمن دعارة بفيض ، وهن يلوحن للعابرين في الساحات العامة . إنه المكان الذي سيسفح فيه دم الفراشات داخل وطن جريح ، والمكان التي أجهضت فيه الأحلام ، وصودرت فيه الأمنيات البالية . 
" تلك مدينة مرت  ذات شرود
ذاك شرود مر ذات يقظة " ( مدينة الصمت ص 60  ) 

 

كما ستعمل الشاعرة على رسم ملامح تاريخ منسي بأمجاده تم نسيانه مع توالي الزمن ، وفضاءات شكلت حلما جميلا اغتيل ، لكنه ظل موشوما في طيات الأسطورة . حيث تبرز صورة " ديهيا " الملكة الأمازيغية ، لتعري عن شطط التاريخ ، وإجحافه . معلنة موت الجسد ، وبالتالي الوطن . فتضمين التاريخ ، والأسطورة داخل المتن الشعري كشف عن عقود من الخيانة ، وعمل كذلك على محاولة إعادة الاعتبار للمجد المنسي الذي لم تعد ظلاله كافية لابراز شموخه . في زمن الخيانات المتكررة  للوطن ، ولرموزه .
يا جسدي 
يا وطني 
ما عدت ثائرة بما يكفي 
لأخلص لجبروتك
ما عدت حيا بما يكفي 
لتخلص لموتي " ص 42 

 

وسيتحول المكان إلى جسد مسبي من خلال قصيدة " بلدة لا تنام " ص 43 يرضع فيها العابرون حلمة دواليها ، التي تغزل في حياء أنين عصفور . وستبرز الاستعارة اللغوية غير المهادنة صورا فظيعة تنز كالجرح المثخن ، من دعارة ، وبؤس ، تتداعى صورها بين طيات المكان " الجسد المغتصب "
 " تلك بلدة 
نحتت الارض غواية 
فستانها الفلفلي 

(..)
رعشة سالبة 
لب العازفين 
على وتر أطلسي " ص 44

 

فصورة الوطن الجريح ، والمنسي ، والمخذول ، سيتكرر في هذه القصائد كصور للطفولة ، والاب ، والجسد المستباح ، حيث يبرز الموت بهالته كوسيلة ورغبة في الخلاص ، من واقع يتناسل فيه الوجع ، والرفض والسخط .
 

 

4) الطفولة المغتصبة ،و صورة الأب 
 

تبرز صورة الطفولة في قصيدة " دمى الريح " ص 35 ، كطفولة حزينة . جراء فقد ووجع اهتزت له مكونات الطبيعة: ( وادي يدمع ، أزهار تذبح ، ريح تبتلع هسيس القبلات ، صراخ أزمنة موجعة ..) . حيث تفتح طفلة صغيرة بوابات البوح حول والدها ، مطالبة إياه أن ينسج فصيلتها من دم الفراشات . وأن يصنع لها جناحا قبل مولدها . وهي مطالب مستحيلة ، لكنها ترقد في رحم الممكن ، وداخل أزمنة تكلى . عبر توق كبير للهروب من رهبة الواقع ، وعنفه . فدمى الريح امتصت بنوع من الحسرة تنهيدات الغابة ، ونحتت عويل الحطابين ، لتعلن عن تمرد القصيدة " دمى الريح

الريح امتصت بنوع من الحسرة تنهيدات الغابة ، ونحتت عويل الحطابين ، لتعلن عن تمرد القصيدة " دمى الريح تجترح فصوص وطن نحيل 
" وطن علقت ذاكرته على بوابة المدافن 
لا حارس يشذب جناح الموت 
لا نسائم تناغي زهر الدفلى 
حين تردد رئته نشيد رحيل مبكر " ص 37 

 

فالذات الشاعرة تتماهى مع مكونات الطبيعة ، وتستلهم روحها أيضا عبر الشخصنة ، لتبت على لسانها ألما وجوديا ، يحول الذات وطنا ، ولحنا حزينا ، وقصيدة حبلى بأسرار المجاز ، وغواية الماء .
كما تعمل بعض  القصائد على استحضار أرواح من استشهدوا في سبيل الوطن ، للدلالة على أمجاد آفلة ، لم يستطع الأحفاد الحفاظ عليها ، أو تثمينها على الأقل . كما في قصيدة "ظلال نائمة " ص 63 ، التي تهديها إلى روح والدها بنوع من الحنين من زمن منفلت ،  وتاريخ مغلف بالقهر ، والانكسار "
أتذكر كم كنت أصرخ في وجه عقارب الزمن ؟
أتذكر كم كنت أسخر من تمردي الساذج ؟
وأنت تدنو من الرحيل "
فاستحضار اللحظات الأخيرة ، ينتابها صراع مع الذات ، ومع الزمن ، وهو يلقنها وصاياه الأخيرة .وهي تترجى الموت أن يمهله قليلا . لكن دون جدوى لتتجرع ما تبقى من قهرها بعد رحيله .
ناجيتك 
ناديتك 
توسلت لموتك أن تمهلك لحظة 
حتى تصفح عن ليلي الغافي تحت جناحيك 
وتحرر أزهار الوادي الشائكة " ص 64 

 

فحضور الأب في أكثر من قصيدة ، يكشف عن طبيعة علاقة خاصة ، وحميمة معه . ليضحى موته في الواقع موتها الآخر الذي تحول عبر الزمن إلى موت سريري دسه الخريف في كهف زهرة تكلى . وفي طفولتها التي جرفها نهر كبير كزنبقة صغيرة .
 

لقد ظلت صورة الأب مندسة بوجع في الحنايا، كبقايا رصاص غائر في كتف محارب ، وشظايا تفتت الفراغ ، وشعاب الأنين . فالأب صورة لوطن معنوي  ظل شامخا في أعماقها ، في الوقت الذي تحول وطنها المادي ، غارقا في هزائمه ، وانكساراته .
فاللوعة التي كتبت بها هذه القصائد ، ترجع أسباب الشقاء كلها إلى الفقد ، والموت ، وتحول حزن الذات إلى حزن أبدي ، وعذاب سرمدي . ولد أكثر من زواية قائمة لرؤية أجمل الأشياء على الإطلاق . ما كشف عن جانب أحادي في النظر ، إذا ما أضفنا إليه انكسارات أخرى تمت الاشارة إليها في قصائد أخرى من قبيل " تسلبني زمنا " ص 51 .
فصورة الأب هي تجليات لصورة الذات المحترقة ، في ديوان بريد الفراشات ،" وصور كل الصامتين الذين يعبرون حسر الكلمة التي تحوم الروح بحثا عن دهشة الحرية " كما جاء في الاهداء ص 3 ، والثوار ، والمحاربين القدامى " ص 26 ، وأزهار الأقصى " ص 21 . فلانكاد تخلو قصيدة في هذا الديوان من استحضار صورة هؤلاء بنوع من الاستعارة الجميلة ، أو المجاز الباذخ . وأحيانا تبرز بكل مباشر سواء من خلال العناوين " العتبات" ، أو تدس بين ثنايا أبيات تردد صدى الفقدان كظلال متساقطة . أو وشوشات مؤنسة . إلى جانب الرغبة الملحة في الرحيل ، ومعانقة تلك الظلال سواء في الحلم ، أو في الصحو .
" يا رفيق الحلم
رتب حقائب الموت على مهل " ص 71 قصيدة " تذاكر الرحيل "
" وأرحل مع فراشاتي النائمة على رموشك " ص 65 قصيدة " ظلال نائمة " 
" الفقد يعرس نبال الوجع في أرصفة الطفولة " دمى الريح " ص 35 ، ومراكب الغربة " 23 .

 

 

5) بين  الحب والخيانة 
 

إلى جانب الاشارة إلى صورة الأب ، والذات ، والوطن ، والطفولة ، تستحضر صور أخرى عن الحب ، والخيانة . كما في قصيدتي " ما تبقى منك " ص73  ، وقصيدة " في الطريق إليك " ص 81 ، حيث تبرز الشاعرة في القصيدة الاولى تفاصيل مرة ، وهي تميط اللثام عن أكثر من قناع عن وجه حبيبها. 
" وأنت تجتر عشقا كان 
تذكر كم يلزم الطريق 
لتبتلع غبار اللحن المنكمش بين شقوق الكمان 
( ...) 
تغرس صخب الظلال في جسدي المحترق 
تدعوني للموت تحت جذور 
لا تهزمها حشرجات الرياح " .
وهو ما كشف عن نوع من الجرأة النادرة بعيدا عن الخطاب المنكسر الذي لمسناه في قصائد سابقة ، لأنها تنزح بسخريتها السوداء ، وعنادها الصلب إلى كشف وجه من وجوه الحقيقة . 
كمة يلزم النهر من شهقة ليلمس كف السماء ؟
كم يلزم السماء من رماد
لتنقس وشما على ساق الماء ؟ " ص 74 .

 

كما تبرز كذلك نوعا من التحدي عبر لغة واصفة ، بحيت تبرز الشاعرة من خلاله مآل عشيقها الخائن بسخرية . فالصور المتداعية مكتنزة بالعديد من الايحاءات المرتبطة ، والدالة ، تصيب المهو في مقتل ، وهي تنزع أوراق التوت عن جسده ، تعري زيفه القاتل ، والمكشوف :

تسلبني عمرا 
يهديني قمرا 
نصفه يذوب فيك 
ويبقى النصف الآخر 
شاهدا على موتك في 
لأحيا لذة جبروتك
في ما تبقى منك " ص 75 
وهو ما يدفعنا إلى التساؤل عن الأسباب المولدة للقسوة ، والألم ، سواء في النظر إلى الحياة ، أو إلى الآخر ؟ ومن تم هل يمكن الجزم أن الخيانة تولد في رحم القسوة ، والألم ، لتحول الحب إلى كراهية مطلقة ، وإلى شقاء أبدي ؟

 

فالشاعرة ترفض أن تطلق رصاصة رحمة أخيرة على ضحيتها ، ليموت موتا رحيما .
غير أن هذه الصورة ، سرعان ما سوف تعرف تغيرا ، وستتخذ مسارا مخالفا في قصيدة " في الطريق إليك " ص 81 ، حيث نلمس مشاعر فياضة ،وهدوء على مستوى التعامل مع الآخر ، بحيث تكشف الشاعرة عن حيثيات عشق فريد ، رغم ما تسبب فيه الحفاء ، والفراق من افتقاد ، وكدر . لتعمل جاهدة على ترميم تصدعات الغياب المفاجئ ، وعناد عشيقها المتمرد .
" في الطريق إليك 
تتنهد حبات الرمل 
تكتب اسمك حشرجات نوارس ضريرة
ضيعت حضن المراسي " ص 81 
كما ستصفه بالراهب العنيد ، لتوجسه ،وخوفه البغيض ، موارية أحاسيسها القلقة ، كاشفة تعلقها الكبير به "
أيها الراهب العنيد
( ..)
رتل لوعة الهجر في محراب الذكرى السحيق
ارسم فجوة الهوى على شفاه الغيمات 
برفق رتق ثوب الوصال عند مفترق النجوم " ص 82 .

 

وهو خطاب مخالف للمعتاد ، فهذه القصيدة التي شكلت استثناء من المرجح أنها من قصائد البدايات ، وأن ادراجها داخل الديوان لم يخضع للتسلسل الزمني . بل وضعت بشكا اعتباطي
على سبيل الختم 
لقد كشف ديوان " بريد الفراشات " للشاعرة المغربة حسنة أولهاشمي عن قصائده تورق فيها بساتين الوجع ، وعن أحلام الذات المؤجلة . كتابة ارتكزت أساسا على سارية جسد اتخذ صورا ظلال هاربة ، أو طفولة مغتصبة ، أو موت سرق عزيزا ، أو وطنا مسلوبا . وارتكازا على الشخصنة حينا ، وعلى الاستعارة والمجاز ، والاستبدال اللغوي والمفاهيمي حينا آخر . ما كشف عن سعي حثيث وانتكاس نحو عوالم الداخل بحثا عن المحلوم به . كما تميزت بعض القصائد بحس شعري مائز ، ووعي كبير بإشكال الكتابة ، ومواجهة البياض، وعدوانيته ، وعنفوانه .  بهمس يقتات من الروح ، ومن الذات الدائمة الاحتراق ، لتبرز كتابتها  كبياض مناقض لكل دناسة ، نزوعا نحو قداسة ، وطهر أبدي .  

 

---------  
( 1)   حسنة أولهاشمي بريد الفراشات شعر ط1 / مطبعة القروين ، الدار البيضاء 2015.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً