الاثنين 23 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
برامج التواصل الاجتماعي والنوع الأدبي الأجد "نوب الغياب نموذجا ً" - أحمد الفراصي
الساعة 12:16 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 
إن طبيعة العصر المتسم بالثورة الاتصالية و الانفجار المعرفي والمعلوماتي وتعدد أشكال وأساليب التواصل وأنواع الأدوات التعبيرية كلها أدت إلى حدوث ظواهر تحديثية عدة طرأت على  الأدب وفنونه إلى درجة أن أصبحنا نجد أعمالا إبداعية لا تكسر فقط الحواجز بين الأنواع الأدبية بل تعمل على تفجير النوع الأدبي من داخله ، فالقصة مثلا أصبحت متمردة على القيم الجمالية لنوعها الأدبي وعلى طريقة التقليدية في تصوير الشخصيات وتقديم الزمان والمكان والأحداث لتخرج من عالم رأته محدودا إلى عالم أكثر رحابة يتداخل فيه ما هو سردي بما هو شعري وتوظف تقنيات بعضهما البعض توظيفا واعيا لتستطيع التعبير عن أزمات واغترابات المبدع المعاصر الذي يعيش عالما سريع التحول والتغير، كثير الإشكاليات والصراعات ، وهذا التطور النوعي في أجناس الأدب عامة لا ينافي قانون التطور الطبيعي للأشياء ، إذ أن الأدب بطبيعته تجاوز دائم بصفته إبداعا وخلقا متجددا ، وهذا بالذات هو ما أدى إلى نشوء أعمال أدبية يصعب التعامل معها بالمعايير التقليدية التي صنعت حدودا فاصلة بين الأنواع .

 

 

ولعل أحدث هذه التجاوزات هو ما نجده أمامنا كل لحظة على شاشات الحواسيب والهواتف الذكية المزودة ببرامج تواصل اجتماعي متعددة تعج بآلاف النماذج الكتابية التي تتعمد تحطيم كل القواعد وتذيب كل الحواجز المصطنعة بين الأجناس الأدبية ، حيث أسهمت الرقمنة  ـ كما يحلو للأستاذ محمد الداهي تسميتها ـ في ظهور أشكال جديدة من الاستهلاك الثقافي ،وفي تحفيز قاعدة جماهيرية واسعة على ولوج عالم الثقافة . و نتيجة لاتساع مساحات الفضاء الشبكي لم تعد الثقافة والكتابة حكرا على فئات بعينها أو مظهرا من مظاهر التميز الابداعي ، وإنما أضحت عاملا من عوامل" الدمقرطة" الثقافية وحافزا على الاستفادة من مجتمع المعرفة أيا كان المستوى الثقافي او الاجتماعي للإنسان الذي يمتلك حسابا تواصليا مع الشبكة الاليكترونية .
 

ذلك ان النشر الابداعي عبر برامج التواصل الاجتماعي اللحظي الخالي ـ نوعا ما ـ من الرقابة يمهد ـ بلا شك ـ لفنون ابداعية جديدة لا تنتمي الى اي جنس ادبي محدد بذاته سوى انتمائها الى جنس النشر في تلك البرامج على الصفحات الشخصية Page person فقط . وهذا أمر طبيعي طالما وهدفها تقديم الواقع الداخلي للكاتب/ الناشر أكثر من اهتمامها بالواقع الأجناسي وتعاليمه الصارمة المحاطة بعدد من القيود التي تحد من انطلاق بوحه المتواصل بمكنونات ذاته حين يرهف السمع لوجيب داخله المستعر بمعاناته ورؤاه وأحلامه فيلجأ إلى اختيار لغة انسيابية مرنة حافلة بالمفردات وبالجمل التي تجذب القارئ العجول وتشد انتباهه، معتمدة على اقتناص الفكرة اللحظية وتجلياتها، محاولة أن تعيد إلى اللغة وظيفتها الأولى باعتبارها طاقات انفعالية . وهذا بالذات ما أدى إلى أن تنتزع هذه اللغة دور البطولة من بقية العناصر ، مستقلة بشعريتها عن بقية شبكة العلاقات الأجناسية الأخرى ، في انتاج أدبي ذاتي أكثر ديموقراطية وأكثر تلقائية وعفوية مؤجلا فكرة المراجعة و التخمير الى فترة لاحقة هي فترة إخراج تلك المنشورات في كتاب واحد يجمع شتاتها وينظم عملية قراءتها .
 

 

هذا الإرباك الأجناسي نجده عيانا في نصوص "نوب الغياب" الصادرة حديثا للكاتب الشاب " محمد ابراهيم الغرباني " الذي قررـ بعد مدة زمنية من النشر الفيسبوكي ـ جمع شتات ما تناثر في حسابه الشخصي وجمعها في هذا العنوان وقسمها داخليا إلى أربعة أقسام هي بالترتيب :قبل النياندرتال بنقرة حزن ،رسائل عابرة أخف من الهومو سابينس ،نهايات أسرع بـ4 ميجا غياب، بم تفكر ؟"حالات مخصصة جدا" .وهي التي ستلبث قليلا عندها هذه الأوراق، حيث ان القارئ لتلك المجموعة سيجد أن الوعي بجدة ما هو مكتوب متجسد منذ العتبة الاولى (العنوان الخارجي ) " نوب الغياب نصوص فيسبوكية "، إذ لم تُعيّن بجنس أدبي محدد لأنها عبارة عن نصوص متشابكة متداخلة لا يربط بينها سوى كونها نصوص فيسبوكية شكلت في مجملها كتابة عابرة للنوع الأدبي مما أدى إلى أن تتمازج فيها عدد من الأنواع الأدبية وتتواشج لتنتج هذه النصوص التي لا تهتم سوى بالتعبير عن حالة شعورية عاشها الكاتب بغض النظر عن مسألة الانتماء النوعي لجنس أدبي بعينه ، لأن ذلك أساسا لا يعنيها ولا تفكر فيه مطلقا ، إنما همها منصب على إرضاء غرور بوح ذاتي داخلي مجنح يضرب بقوانين الانتماء إلى النوع الأدبي الواحد عرض الحائط، وإثارة أكبر قدر من حواس القارئ لتضمن تفاعله معها .تجلى ذلك بوضوح في نص "الرسالة الأخيرة في البريد الصوتي " الذي يرد فيه :
 

يا الله ../أنا والوقت / نذوب سوية على طاولة من ورق ./ لقد تشكلتُ / قصيدة ..قصة ..وصية../ لا أعرف تسمية حقيقية لها . / ما أعرفه/ أنها منزهة عن التدخلات الخارجية / لا تخضع للزمن /ولا تنحاز / للإرباك الممغنط ./ ثمة/عقرب تائه / لا يلوي على شيء ../ثمة /زنبرك يتيم / ثمة/ وميض خارج نطاق المحطة الغازية /ثمة وجع/ يهتف بالرحيل / إلى الفراغ /ثمة أنثى تسترق السمع /إلى جوار النافذة... ص34و35.
 

 

على هذه الشاكلة تنساب النصوص إلى حواس المتلقي محدثة ضجيجا داخليا ذو طبقات متعددة ومثيرة لكثير من الأسئلة حول الفخاخ الدلالية المتعددة التي يرمي إليها النص على الرغم من قصر مساحته، بيد أن المتلقي سرعان ما يتجاهل متعمدا هذه الأسئلة مؤثرا العودة إلى أجواء النصوص وبوحها الشفيف الذي لا يعبر عن اهتمام صاحبها بمسألة التجنيس النوعي بقدر اهتمامه بالتعبير عن الحالة النفسية والشعورية التي يعيشها أثناء نزيف قلمه ،وإلا فما معنى أن يقول الغرباني في نص "

 

كيف نعيش بدون whatsapp " :
لا أحد سيعرف بشاعة أن تهرول بالمقلوب
أسرع من ضوء ممزق
وألطف من فراشة
محترقة".ص18

 

في أماكن أخرى تفاجئك تلك النصوص بأنها تتجه إلى فلسفة الأشياء وإعادة تركيبها وفق منطقها اللفظي الخاص الذي لا يشبهه شيء سوى سعة خيال الكاتب ومقدرته على ابتكار تصاوير ومسميات جديدة للأشياء من حوله ، على شاكلة قوله في نص" مسرحية مائية   " : 
 

(مشهد5 ) 
الصمت أمية البكاء.
..
كل هذا يحدث اليوم
يا إلهي ..العبد لم يعد طفلاً" ص 28

 

أو في نص "كلام صعد إلى السماء الدنيا دفعة واحدة " الذي يرد فيه:
 

أنا آدم الأحمق ... 
صدّقت قانون الجاذبية 
فجريت في كل البساتين باحثا عن شجرة لم تسقط
منها التفاحة بعد " ص 24 

 

عدد آخر من النصوص كان ينصبّ اهتمامها على تجسيم الأشياء ومعالجة الظواهر والاهتمام بالثيمات أكثر من أي شيء آخر ، ومع ذلك فإن الكاتب لا يكف عن الاغتراف من لآلئ اللغة وتراكيبها الشفيفة التي تضفي تأثيرا مضاعفا على القارئ ، من تلك النماذج نص "التفاحة الاخيرة " الذي يرد فيه:
 

أنتِ تعثرت / بالكثير من أسنان الرجال / وحينما وصلت إلي / كنتِ قد / تحولت إلى تفاحة / مقضومة من كل الجهات .ص26. 
 

وبعد: هل يمكن القول أن هذا الاصدار سيكون فاتحة للنص الرقمي في اليمن ؟ بصيغة أخرى هل سيكون "نوب الغياب" فاتحة عصر الرقمنة النصوصية في اليمن ؟هل سيكون أول سلسلة من سلاسل المعمار الذي سيحيا من شقوق إبداعات النشر العنكبوتي الحديث ؟هنالك سنشهد الفجر الذي لا ينحني سوى لضوئه .
 

 

أكادير18/10/2015

كاتب من اليمن .

 

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً