الاثنين 23 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
الروائي أحمد عبده في رواية جديدة ساخرة تاريخ الكرباج صنعاء - محمد الغربي عمران
الساعة 16:40 (الرأي برس - أدب وثقافة)



متوالية روائية .. هذا ما جاء على غلاف "سُرة البلد" كتعريف بالإصدار الخامس عشر للروائي أحمد محمد عبده.. والصادر عن دار الإسلام للطباعة والنشر .. مصر 2015. 
 

سُرة البلد..أو القصبة ..أو الحي القديم .. أو قلب التجمع السكاني.. هذا ما توحي به ظاهر معنى العنوان"سُرة البلدة".. لكن سرد أحداث الرواية تصل بنا إلى يدل على الأصول والجذور الذي عادة ما يتصارع أفراد المجتمع على إضافتها إليهم ولأسرهم بغية التدليل على العراقة والتميز ما يعني أن أول من سكن في بقعة هو الأكثر أصاله في ذلك التجمع بعد أن توسع وتحول إلى قرية أو كفر أو أي كان يشير إلى مكانة ورفعة تلك الأسرة المؤسسة من عدمها بين الأسر الأخرى في نفس التجمع التي لحقت بها لتسكن إلى جوارها ونختار ما جاء في الرواية: "وسُرة البلد هي دوما مهبط آدم وحواء في كل قرية, حارتها ضيقة ضيق معيشة الناس, وبيوتها ملتصقة التصاق قلوبهم ببعضها,محيطها الخارجي يسمى شارع داير الناحية, وهو السياج الذي يحزم أصول البلد,فاصل دائري يعزلهم عمن يتوافد إليهم فيما بعد, ويقيم على الأطراف, لذلك.. لا تجد قرية أو كفرا أو نجعا إلا وفيه دائر ناحية".
 

في البدء يومئ التصنيف لهذا الإصدار بأنه عمل يجمع بين القصة القصيرة والرواية حين وضع توصيف على الغلاف"متواليات روائية " ما يوحي هذا التعريف ويدفع بتوقعات القارئ أن ما بين يديه مجموعة قصص يمكن قراءة كل قصة مستقلة من حيث المعنى والمبنى.. ويمكن أيضا أن تجمعها سير الأحداث أو الشخصيات .. أو حتى المكان. لكنَّ نجد بعد الإبحار في متنها بأن سُرة البلد عمل روائي مستوفي الأركان.. من حيث وحدة الموضوع وترابط الأحداث.. واشتراكها في عمود حكائي متجانس.. إضافة إلى الشخصية المحورية الواحدة الحفيد الراوي والحديدي الجد.

 

والجديد في هذا العمل أن الكاتب قدمه لنا بخيال خصب وباسلوب ساخر وممتع. مقسما الرواية إلى خمسة أجزاء لكل جزء عنوان.. هي: أيام السخرة.. جذور الخروع.. أحوال تل السباخ.. سيرة الحديدي.. الطوطم. 
 

تلك العناوين ليست عناوين قصص مستقلة كما كنا قد ذكرنا سابقا, بل عناوين لأقسام قسمت الرواية بها.. والتي صاغها الكاتب بنفس تهكمية من مجتمع يكرس الطبقية والفئوية والبحث عما يميز كل عائلة من حيث خلق أسباب العراقة . مجتمع يعيش على الزراعة ويتصارع في استغلال بعضه البعض.. مركزا على نقد تلك القيم الاجتماعية حول الأصول والجذور وكلما يصطنعه الفرد والجماعة من تمايز وهمي بين الأسر والعشائر.. متخذا من شخصية الحديدي وأحفاده شخصيات للتندر والسخرية على أنفسهم وعلى تلك التراتبيات الاجتماعية المتفشية في المجتمع الريفي الذي قد يظن المصري بأنه تقتصر على مجتمعه بينا نجد ذلك في كل مجتمعاتنا العربية من أقصى المغرب إلى العراق والشام والجزيرة العربية.
 

الكاتب أجاد في أن جعل المكان أحد محاور هذا العمل .. فالكاتب يبدأ يبدأ بوصف بيئة الريف المصري .. وتلك التفصيل الصغيرة من مفردات وأمثال..من مسميات لأشجار ومزروعات إلى الأدوات المستخدمة والألقاب . كل ذلك يحضر من خلال حوار أحد أحفاد الحديدي لنفسه حول الأنساب ومقاييس أصالة أسرة عن أخرى في تجمعات دلتا النيل.. وأسلوب قياس عراقة أي أسرة "متى جاء جدك الحديدي إلى برمكيم؟ ولماذا ترك موطنه الأول؟ وهل كان أصيلا في وطنه الأصلي أو الفصلي؟ هل كانت له حماره تتمرغ على راحتها في أي مكان, وكلبا شكله كشر.. ينبح في وجوه الخلق... ويقولون كلب الحديدي راح كلب الحديدي جاء؟... فالعائلة في بلدنا لكي تكون جذورها مثل جذور الكافور والجميز والسنط, لابد أن يتواتر عن شيوخها وعجائزها , وشيوخ وعجائز ومعمري الناحية, أنها نبت شيطاني , خرج من طين البلد مثل الحلفاء والبوص والعاقول وذيل القط "
 

الكاتب يتعرض بأسلوب ساخر إلى تاريخ الكرباج والسخرة في مصر كخصوصية تاريخية للعلاقة بين الكرباج السكان -جلاد وضحية- بين السلطة والاستعباد "فطاح العمد والمشايخ والخفراء في الناس جمعوا العاطل في الباطل, فولاء العمدة للنظام يقاس بعدد ما يجمعه من أنفار, لذا كان الشاطر من الأهالي من يتسلل بأهله ليلا أو نهارا فاراً إلى بلاد الله ". كان ذلك في زمن حفر قناة السويس ما دعا الحديدي إلى الهرب ليلا خوف يطلبوا بقية أولاده بعد أن قدم عيد ابنه في البداية ولم يعد من خبر حول مصيره..إذ أن من يرسلوا للسخرة يموت منهم أعداد تصل إلى 80%.. والرواية تحكي حول معاناة الحديدي في التنقل هربا من قرية إلى أخرى كنموذج للإنسان المصري الهارب من الظلم والإستعباد.. وفي كل قرية يسمع عن عمدتها بأنه يبحث عن مزيد من الشباب لإرسالهم سخرة إلى القناة" هموا بحطو رحالهم في "برمبال" وهم على أبوابها, قال أحد أهالي البلدة للحديدي: أن كرباج العمدة هنا يبيت في زيت الخروع... وحينها فر منها إلى "تمى الأمديد" ". وهكذا يرسم لنا الكاتب لوحات حكائية متتالية ليقدم لنا أثر السخرة على تنقل أفراد وأسر المجتمع من نجع إلى آخر ومن كفر إلى غيره هربا من كرباج العمدة وخوفا من سخرة تنتزع الأولاد إلى المجهول والموت "ومما وصلنا من التاريخ الحديث, أن عائلة السروي من السرو .. في شمال الدلتا , فرت من قسوة ضرائب المماليك...وعائلة السنجابي من الدلنجات , سحبت جذورها وراءها يوم فرارها من كرباج الباشا مالك الزمام في ناحية من نواحي المديرية , وعائلة أبو خطوة من التل الكبير حلت على رؤوسهم هزيمة عرابي ...ففروا بجلودهم من انتقام الإنجليز بعد توغلهم في البلاد". تقرب أحداث الرواية للقارئ علاقة السخرة بنهر النيل الذي أعطى لإنسان مصر سر عظمته وسر تسلطه.. كما جعل من أرضها الطيبة مهبط لأطماع القادمين من خارج مصر وترسيخ استغلال القوي للضعيف. وتسليط المصري على المصري سلاحه الكرباج والسجن والقتل.
 

ولذلك يمتد تاريخ الكرباج إلى عشرات القرون وما أهرامات الجيزة إلا نتاج لنظام العبودية وكل تلك الآثار من النوبة وحتى سواحل الأبيض المتوسط إلا نتاج لنظام العبودية ثم السخرة ثم الفساد والظلم .. الأمر الذي ترسخ حتى عصرنا الحديث من حفر الترع وفروع للنيل ولم تنتهي عند قناة السويس أساليب استغلال واستعباد الإنسان لأخيه الإنسان .. ولذلك نجد أن أثر السخرة على الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في تاريخ مصر أثر قوي في بروز المشاريع الكبيرة التي أنشأت بأنهر من دماء وعرق البسطاء من الشعب.
 

يقدم الكاتب لنا الحديدي كائن خرافي وكأن هذه الشخصية رمز للفلاح المصري الذي عاش تحت ظل الكرباج منذ عرفت الحضارة البشرية وجودها في وادي النيل وحتى برز ناصر للوجود الذي عمل على إعادة الاعتبار لإنسانية إنسان مصر بإعادة النظر في توزيع الأرض وتجريم السخرة وفتح التعليم أما الجميع . "حينما أراد الله أن يخلق الحديدي أمر الملائكة أن تقبض من سبخ البرلس, وقبضة من رمل بلبيس, وقبضة من طين بنها, وأخرى من غرين طيبة, وقبضة من تراب الفيوم, وحفنة من رمل سيناء" ولم يكن خلقه مزيج من طين جهات مصر ما اراده الكاتب , بل أنه أراد له أن يعيش عدة قرون "تيبست أعضاء الحديدي وتجبست أحشاءه فدق أولاد أحفاد أحفاد أحفاد أحفده دقوا المسامير في جسده ثم وضعوا عليها شماعات ليعلقوا عليها أخطاءهم وأقدارهم". هنا يوغل الكاتب في الرمزية.. في إدانة واضحة للأحفاد.. لينتهي بأن يفكر أحفاده بالتخلص منه.
 

الرواية تصور لنا الحديدي كائن أسطوري.. فوهو يعيش مائات السنين وهو يعمل ويعاني كفرد ينتمي لعدة أجيال .. ويمتهن مهن عدة فهو طباخ السلطان في زمن شجرة الدر .. وهو العمدة وهو الفلاح الهارب خوف السخرة على أولاده.. وهو إبن النيل الذي يتغنى للحياة وللنيل .
إذا الحديدي شخصية بين الحقيقة والخيال.. هذا ما تقوله الرواية . لكننا وبعد أن نكمل قراءة هذه الرواية نجده الحديدي أمامنا في شخصية الإنسان المصري المعاصر بعد أن تخلص من تاريخ طويل للكرباج.. وإن ظل ذلك الكرباج يعمل بأساليب ملتوية وظل نظام السخرة ساري وإن بشكل غير مباشر .

 

إذن الكاتب يقدم الحديدي كرمز للإنسان المصري بكل إنسانيته وقسوته وظله لنفسه..ليس في عصرنا بل في كل العصور.. تاره ككائن عاش متنقلا من جور السخرة .. ليأتينا في قسم آخر وقد سحب البساط من تحت تلك الشخصية موحيا بوهم وجودها, مقدما عدة أدلة غير منطقية على حياة ذلك الكائن مثل أن يعيش قرونا.. وأن يكون له علاقة بالسلطان وعلاقة بزوجة السلطان وتارة يقدم كفرد من عوام الناس والطبقات المسحوقة وأخرى كمتسلط "عمدة" وهكذا يستمر السرد كما بدأ بأسلوب ساخر أجاد الكاتب من خلال ذلك التهكم أن يقرب للقارئ تلك الشخصية وأحوال البلد لعدة قرون من العسف والتسلط.. مسلطا الضوء على ظلم السلطة قلة من البشوات تستعبد الشعب سلاحها العمدة وكرباجه. 
 

الكاتب له ما يقارب الخمسة عشر إصدار.. منها السردية وأخرى فكرية وسياسية.. قدم جلها بأسلوب جاد بعيدا عن السخرية.. ليفاجئنا في سرة البلد التي تنضح بالسخرية والتهكم.. والخيال المدهش"فنستشف ونستمد من ذلك ما كان عليه هؤلاء الاجداد شخصياتهم ووضعياتهم بين الناس مما يدل على أنهم كانوا: المهووس والمنجوس, والفشار والعار , والمقنعر والأليط, والجريء والجبان, والحويط والعبيط, والشرموط والزفلوط, والبخيل والكريم, والفركوك والفزلوك, والسنكوح والسفلوح, والجعاع والبعاع". وهكذا نجده يستخدم لغة التهكم.. كما يقدم الفكرة مطعما أيها بالمفردات العامية.. والجمل ذات السخرية اللاذعة ما يدل على امتلاكه للكثير من فنون الكتابة المعتمدة على الخيال.. ما يجعلنا ننتظر جديده بشوق دائم .

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً